هل الطمع في الثواب والخوف من العقاب يتعارض مع الأخلاق؟

السؤال: يقول بعض الملحدين: إنّه إن كان المسلم المتديّن يتصنّع الأخلاق بغية ثواب... أو خوف من عقاب .. فهو بالضرورة غير أخلاقيّ... الأخلاق أن تفعلها لذاتها....

: الشيخ معتصم السيد احمد

الإجابة:

لا ندري على أيّ نظرية في فلسفة الأخلاق استند صاحب هذا الادّعاء، فجميع النظريّات الأخلاقيّة لا تنفي الدوافع والآثار المترتّبة على الفعل الأخلاقيّ، فحتّى لو افترضنا أنّ أخلاق المسلم كانت بدافع الثواب أو الخوف من العقاب فإنّ ذلك لا يجعل فعله غير أخلاقيّ، وقبل أن نشير بشكل مجمل لهذه النظريّات، نعرّج على النظام الأخلاقيّ في الإسلام. فنقول:

الأخلاق في الإسلام ليست منفصلة عن الإيمان بالله، فالأعمال الخيّرة والصفات الحميدة تنبثق من إيمان الفرد بأنّ هناك نظاماً أكبر يوجه الحياة والوجود، وعلى ذلك لا تكون الأخلاق مجرّد سلوكيّات منعزلة عن البنية المعرفيّة والتصوّر العقائديّ للمسلم، فأساس الأخلاق في الإسلام هي علاقة بين الإنسان وخالقه، ومن ثمّ علاقة بين الإنسان والآخرين، ومن هنا فإنّ الإسلام لا يعـدُّ العمل أخلاقيّاً ولا يثاب عليه صاحبه إذا كان من دون إيمان بالله ومن دون معرفة بالحِكمة والغاية من الوجود، فالمسلم يتحرّك في سلوكه في ضمن رؤية معرفيّة وعقائديّة وبصيرة عامّة للحياة، وثمّ تأتي (فلسفة الثواب والعقاب) كمحفّزات إضافيّة، ويمكن اختصار ذلك بالقول إنّ فلسفة الإسلام وغايته الأساسيّة هي العروج بالإنسان في مدارج الكمال الروحيّ والمعنويّ، ومحبّة الله النابعة من معرفته تعالى هي التي تحقّق له ذلك الكمال وهي التي تدفعه للتخلّق بأخلاقه تعالى، وبذلك يصبح الالتزام بالأخلاق نابعاً من رغبة في مرضاة الله، وليس فقط بدافع الخوف أو الطمع في الثواب، وهكذا تتحوّل الأخلاق إلى قيمة ذاتية ضمن الرؤية الإسلاميّة، في حين تفشل معظم النظريّات الفلسفيّة في إيجاد مسوّغٍ للفعل الأخلاقيّ خارج إطار المنفعة أو الشعور باللّذة، وبمعنى آخر تظلّ النظريّات الأخلاقيّة تشير دائماً إلى دافع ما للأخلاق، سواء كان دافعاً ذاتيّاً كـ(الشعور بالسعادة أو الرضا) أم اجتماعيّاً كـ(احترام الآخرين والاعتراف بهم)، في حين الإسلام يضيف بعداً روحيّاً يجعل الأخلاق أكثر عمقاً، وفي نفس الوقت لا يهمل الدوافع بوصفها محفّزات وآثار مترتّبة على الفعل الأخلاقيّ.

فإذا عرفت ذلك فآنَ الأوانُ أنْ نعرض بشكل مختصر لأهمّ النظريّات في فلسفة الأخلاق حتّى يتّضح عدم التعارض بين الدوافع للفعل الأخلاقيّ وبين أن يكون الإنسان أخلاقيّاً، فحّتى لو كانت أخلاق المسلم تقوم على الطمع في الثواب والخوف من العقاب فإنّ ذلك لا يجرّد عنها صفة الأخلاقيّة بشهادة جميع النظريّات الأخلاقيّة.

1. الأخلاق النفعيّة:

بحسب النفعيّة، الأخلاق تتعلّق بالنتائج: إذا كان في الفعل منفعة فرديّة أو جماعيّة فهو أخلاقيّ، وعلى ذلك حتّى لو كان المسلم يتصرّف بدافع الثواب أو تجنّب العقاب، فإنّ الفعل يظلّ أخلاقيّاً مادام يسهم في تحسين حياة الأفراد أو المجتمع.

2. الواجب الأخلاقيّ:

وفقاً لكانط، الأخلاق تعتمد على الالتزام بالواجب، وليس على النتائج أو الدوافع الذاتيّة، من هذا المنظور، قيام المسلم بالواجبات الأخلاقيّة استجابة لأمر الله (واجب دينيّ) يعكس التزاماً بالواجب الأخلاقيّ، بل حتّى لو كان هناك دافع للثواب أو تجنّب العقاب، فإنّ قيام الفرد بالعمل لأنّه يشعر بأنّه "واجب" يعزّز من أخلاقيّته وفقاً لهذا التصوّر.

3. أخلاق الفضيلة:

نظريّة الفضيلة التي طوّرها أرسطو تركّز على تطوير الفضائل الشخصيّة مثل الشجاعة، الحكمة، والعدل، والمسلم الذي يسعى لتطوير فضائله من خلال السعي نحو رضا الله، يسعى لتحقيق الفضيلة، فحتّى لو كان هناك دافع خارجيّ (الثواب أو العقاب)، فإنّ تطوير الفضائل الشخصيّة يظلّ الهدف الأساس للمسلم، وهو ممّا يجعل فعله أخلاقيّاً، فالمسلم يتدرّب على الأخلاق ليصبح شخصاً فاضلاً، وهذا يتّفق تماماً مع فكرة الفضيلة.

4. النظريّة الاجتماعيّة التعاقديّة:

وفقاً لنظرية العقد الاجتماعيّ، فإنّ الناس يلتزمون بالقواعد الأخلاقيّة من أجل الحفاظ على النظام الاجتماعيّ والعدالة، والمسلم الذي يلتزم بالأخلاق لأنّه يرى في ذلك تحقيقاً لغاية إلهيّة هو أيضاً يعمل من أجل استقرار المجتمع، وفي هذا السياق، الرغبة في الثواب أو الخوف من العقاب لا تنتقص من أخلاقية الفعل، لأنّ هذا الالتزام يسهم في رفاهيّة المجتمع، وهو هدف أساس لأيّ عقد اجتماعيّ.

5. الأخلاق التبادليّة:

الأخلاق التبادليّة تقول: إنّنا نتصرّف بطريقة أخلاقيّة لأنّنا نتوقّع نفس المعاملة من الآخرين، والمسلم الذي يتّبع الأخلاق بناءً على مبدأ "حُبْ لأخيك ما تحبّ لنفسك" يدعم الأخلاق التبادليّة، فدافع الثواب أو العقاب يعزّز من الدافع التبادليّ لتحسين العلاقات بين الناس وتحقيق العدالة المتبادلة.

6. الأخلاق الرواقيّة:

الرواقيّة تدعو إلى التحكّم في الرغبات والمشاعر لصالح العقل والفضيلة، والمسلم الذي يتّبع القواعد الأخلاقيّة يعيش صراعاً مع نفسه ويتغلّب على شهواته، فحتّى لو كان هناك دافع الثواب أو العقاب، فإنّ التركيز على التزام المسلم بالفضيلة والتحكّم في نفسه يعزّز من أخلاقّيته، وفقاً لمبادئ الرواقيّة.

7. التجريبيّة الأخلاقيّة:

وفقاً لهيوم، الأخلاق تستند إلى العواطف والمشاعر الإنسانيّة، والمسلم الذي يتصرّف بدافع الرحمة أو الخوف من العقاب الأخرويّ يُظهر استجابة عاطفيّة لأوامر الله وتعاليم الدين.

8. الأخلاق النسبيّة:

إذا عددنا الأخلاق نسبيّة، فإنّ المعايير الأخلاقيّة تختلف من مجتمع لآخر، وفي المجتمع الإسلاميّ فإنّ الأخلاق المستندة إلى التعاليم الدينيّة، وكذلك الثواب والعقاب، تعـدُّ معياراً أخلاقيّاً، وبالتالي فالقول: إنّ دافع المسلم للثواب أو العقاب يجعله غير أخلاقيٍّ إنّما يتجاهل النسبيّة الأخلاقيّة التي تعترف بأنّ القيم الأخلاقيّة يمكن أن تختلف حسب السياق الثقافيّ والدينيّ.

وفي المحصلة إذا نظرنا إلى مختلف النظريّات الفلسفيّة، نجد أنّ الدافع الأخلاقي، سواء كان مستنداً إلى الرجاء في الثواب أم الخوف من العقاب، لا ينفي أخلاقيّة الفعل؛ بل في العديد من النظريّات، يعـدُّ الدافع جزءاً طبيعيّاً من سلوك الإنسان نحو الفضيلة وتحقيق النظام الأخلاقيّ، والإسلام لكونه نظاماً أخلاقيّاً شاملاً، يقدّم دافعاً متوازناً بين تحقيق الخير للفرد والمجتمع، حتّى لو كان جزءاً من هذا الدافع مبنيّاً على الرجاء أو الخوف. والحمد لله ربّ العالمين.