هل فعلاً بالغ الإسلام في وصف الجنة والنار حسياً؟

السؤال: أفرط الدينُ الإسلاميّ في التصوير الحسّي للجنّةِ والنار، وهو ممّا أدّى الى إغواء المستمعين، هكذا أشار المستشرق "نيكولاس ومفر بالنيه"، وجاء في دائرة المعارف الإسلاميّة: "إنَّ فكرة محمّد عن الجنّة مادّية حسيّة، يعني لا نعيم معنوي في الجنة".

: الشيخ إبراهيم البصري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

اعلم - رعاك الله - أنَّ الآيات التي صوّرت نعيم الجنّة في القرآن الكريم على قسمين:

الأوّل: فيه آيات تشير الى الأمور المادّية مثل أصناف الفواكه والحور العين ونحو ذلك، كما في قوله تعالى: {وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الدخان: 22].

وقوله تعالى: {لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ} [يس: 57].

وقوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يشاؤون كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 31]، وغيرها من آيات الذكر الحكيم.

والقسم الآخر: فيه آيات تشير الى الأمور المعنويّة، وهي رضوان من الله تعالى ورحمة منه، كما في قوله تعالى: {قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ} [آل عمران: 15].

وقوله تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة:21]، ونحوهما من الآيات القرآنيّة الكريمة، التي تشير الى اختلاف درجات الجنّة، وفقاً لطبقات المؤمنين، كما في رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: « أمّا الجنان المذكورة في الكتاب فإنّهنّ جنّة عدن، وجنّة الفردوس، وجنّة النعيم، وجنّة المأوى » [الكافي ج8 ص100].

فإذا عرفت ذلك، فاعلم أنَّ المتتبّع لآيات الذكر الحكيم يرى أنّ كلّاً من الجنّة والنار قد وصفتا بكلا الوصفين، أيْ الأوصاف المادّية والمعنويّة معاً، وأمّا لماذا كان التركيز كثيراً على النعم المادّية؟ فمردّه إلى أنّ الذهن البشريّ يستأنس بذلك؛ إذْ من الصعب على أكثر الناس أنْ يحصلوا على المعرفة من خلال الأمور الروحانيّة والمعنويّة، فلذا يعجز الذهن البشريّ في كثير من الأحيان عن فهم وإدراك المقامات والمفاهيم المعنويّة السامية للجنّة، كما قال تعالى في كتابه الكريم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِي لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْينٍ} [السجدة: 17]، كذلك ورد في الحديث النبويّ أَنَّهُ قَالَ: « إنّ الله يقول: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر » [بحار الأنوار ج8 ص92].

فلـمّا صَعُب على البشر تصوّر النعم الروحانيّة والمعنويّة للجنّة، اعتمد الوصف القرآنيّ أسلوب التقريب من خلال الإشارة إلى النعم المادّية التي يستأنس بها الذهن البشريّ، ويفهمها كثيرٌ من الناس، وقلّل الحديث عن النعم المعنويّة والروحانيّة.

هذا، وإنّ وصف الله تعالى للجنّة في الآيات السابقة وإنْ كان لتقريب المعاني الإلهّية للنعيم والعطاء، لكنْ مع الأخذ بعين الاعتبار أنّها - أيْ الجنّة - أساساً عَرْضُها عرض السماوات والأرض؛ كما قال تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 18]، وقال تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد: 21]. وأنّ نعيمها لا يمكن للعقول إدراك وصفه، ويؤيّد ذلك ما نقله الشيخ المفيد عن الإمام الصادق (عليه السلام)، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام): « بشّر أولياءك ومحبّيك من النعم بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر » [المزار ص244]، ومثله في [تفسير فرات الكوفي ص415]، وهكذا في [تفسير القميّ ج2 ص414]، ونقله ابن طاووس في [إقبال الأعمال ج3 ص231]، وغيرها من الروايات الكثيرة التي هي بهذا الصدد. والحمد لله ربّ العالمين.