لماذا أنا هنا ,ولماذا ولدت في هذه العائلة، المدينة، والشكل الذي أنا عليه؟

السؤال: شخص غربيّ ملحد أو لا أدري، لكنّه مُهتم بالتعرّف على الإسلام، وجّه لنا سؤال راغباً بالحصول على جواب وافٍ؛ لأنَّه طرحه على أكثر من معتقد وتوجّه لكن لم يعطوه جواب مقنع، والسؤال هو: لماذا أنا هنا، وبالذات في هذه المدينة، لماذا ولدت من هذه العائلة، ولماذا شكلي وصفاتي وشخصيّتي على ما هي عليه الآن؟

: الشيخ إبراهيم البصري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

يعتمد الجواب على مقدّمات:

الأولى: يعتقد المسلمون بعدالة الله تعالى، وبأنَّ الأفعال الصادرة منه تكون على وفق عدالته، وبالتالي لا يقع الظلم منه تبارك وتقدّس؛ لما دلّت عليه الأدلّة العقليّة والنقليّة على ذلك المعتقد، التي منها: لو كان ظالماً لكان سبب الظلم أنّه مقهورٌ في فعله، أو هناك من هو ندٌّ له، أو يكون الظلم كذلك بسبب الجهل، أو الخوف، أو لجلب المنفعة، ونحو ذلك، وهذا محال عليه عقلاً؛ لأنَّه تعالى كمال مطلق، لا يعتريه النقص، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، وأيضاً لما نصّ القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18]، التي تشير الى الشهادة بعدالته وعدم ظلمه من قبله تعالى، ومن قبل الملائكة، والعلماء الربانيّون، وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ} [النساء/ 41]، وبالتالي لا يقع الظلم في مملكته المتمثّلة في عوالم الخلق والإيجاد، كما ورد في الدعاء: «سبحان من لا يعتدي على أهل مملكته» [مصباح المتهجّد ص456[.

الثانية: هناك تلازم بين العدالة والحكمة، فالحكمة هي وضع الشيء في موضعه الصحيح، وإلّا لكان ظالماً في فعله، أو يكون فعله عشوائيّاً غير حكيم، فيقع الظلم المحال عليه، تباركت أسماؤه، وتقدّست.

الثالثة: دلّت النصوص على وجود عوالم قبل هذه الحياة، التي عُرِضت فيها الأمانة على الانسان، كما في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72] ، وفي قوله تعالى: {أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس: 60]، وغيرهما من الآيات، وكذلك من الاحاديث التي تشير الى وجود تلكم العوالم، كما في قول الامام الصادق (ع): «أنَّ قبل آدمكم هذا ألف آدم وألف عالم» [الخصال ص652]، فهناك دعاهم الله تعالى الى توحيده، وطاعته، وقد أشار الى ذلك مجموعة من العلماء بقولهم: (إنَّ الله دعاهم هناك إلى التوحيد، فأجابه بعضهم بلسان يوافقه قلبه، وأجابه آخرون وقد أضمروا الكفر، وبعث إليهم الأنبياء والأوصياء، فصدَّقهم بعضٌ وكذَّبهم آخرون، ولا يجري ما هاهنا إلّا على ما جرى به ما هنالك)[مركز المصطفى للدراسات الإسلاميّة ج1 ص51[.

الرابعة: لا فرق بين البشر في العوالم السابقة؛ لما دلّت عليه النصوص عند عرض الأمانة في (عالم الذرّ)، ولهذا المعنى أشار العلّامة الطباطبائّي الى أنَّه لا يوجد فرق بين إنسان وآخر في النشأة السابقة، إذْ قال: (إنَّ الإنسان لو احتاج في تحقّق المعرفة في هذه النشأة الدنيويّة إلى تقدّم وجود ذرّيّ يقع فيه الإشهاد، ويوجد فيه الميثاق، حتّى تثبت بذلك المعرفة بالربوبيّة، لم يكن في ذلك فرق بين إنسان وإنسان) [الميزان في تفسير القرآن ج8 ص318[.

الخامسة: بعد الخروج من هذه النشأة، يرى الإنسان ما قدّم من أعمال صالحة وطالحة، كما في قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30]، ولهذا المعنى أشار الشيخ السبحانيّ: (أنّ كلّ عملٍ يقوم به الإنسان - سواء كان حسناً أم سيّئاً - له صورتان: الأولى دنيويّة، والثانية أُخرويّة، وتكمن هاتان الصورتان في جوف وداخل العمل، وفي يوم الحشر، وبعد التحوّلات والتطوّرات التي تحصل فيها، فإنّ العمل يترك صورته الدنيويّة ويتجلّى ويتمثّل ويظهر في صورته الأُخرويّة الواقعيّة، وبها يُنَعَّم الإنسان ويتلذّذ، أو يخسر ويتأذّى) [مفاهيم القرآن ج 8 ص 330[.

السادسة: أفعالنا الحاليّة ترسم صورنا المستقبليّة، تماماً كما أنّ أفعالنا السابقة رسمت صورنا، بمعنى كلّ ما حصل في هذه النشأة هو نتائج لأفعال العالم السابق، كما أنَّ نتائج أفعالنا الحاليّة هي التي ستحدّد مصيرنا في العالم القادم، فإمّا جنّة النعيم، أو نار الجحيم والعياذ بالله.

وعليه، فما نحن عليه من اختلاف في الأماكن، واللّغة، والشكل، والصفة، ونحو تلكم الأمور إنَّما هي نتائج لأفعال قام بها الإنسان في ذلك العالم، وفي تلك النشأة، برزت صورها المختلفة ها هنا، فالله تعالى عادل في حكمه، ولا يظلم فتيلاً، بل الانسان هو من يوقع نفسه ويختار ما أراد.

وأكتفي بهذا القدر، والحمد لله ربّ العالمين.