أدلّة إثبات العصمة للصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (ع)
السؤال: ما هي الأدلّة التي يمكن التمسك بها لإثبات عصمة السيّدة فاطمة الزهراء (ع)؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
بادئ ذي بدء لابدّ من الالتفات إلى أنّ عصمة الزهراء (ع) بالعصمة الإلهيَّة التامّة هي إحدى المسائل العقائديّة التي قام عليها إجماعُ الطائفة القطعيُّ المتواتر، والأخبارُ المتواترة [ينظر: بحار الأنوار ج29 ص335]، فالاعتقاد بعصمتها (ع) من الأمور الواجبة شرعاً، بل من ضروريّات مذهب التشيّع كما صرّح الميرزا التبريزيّ –في جواب استفتاءٍ بهذا الخصوص- بقوله: (هي من ضروريات مذهبنا كعصمة سائر الأئمّة (ع)، والله العالم)[الأنوار الإلهيّة ص119]؛ ولهذا ذكر جملةٌ من الأعلام الاعتقادَ بعصمتها ضمن المسائل العقديّة [ينظر: المسلك في أصول الدين ص286، شرح على الباب الحادي عشر ج2 ص770، وغيرها].
ثـمّ إنّ العلماء ذكروا أدلّةً كثيرةً على عصمة الصدّيقة الكبرى (ع)، نورد هنا جملةً منها:
الدليل الأوّل: آية التطهير:
وهي قول الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33].
وتقرير الاستدلال بها: أنّ لفظة (إنّما) حصرت إرادة الله التكوينيّة – لا التشريعيّة - في دوام إذهاب جنس الرجس الشامل لجميع أفراده - أي مطلق الذنب والمعصية -، وفي دوام ثبوت التطهير لأهل البيت الذين هم خصوص النبيّ وعليّ وفاطمة والحسن والحسين (سلام الله عليهم) دليلٌ على عصمتهم (ع).
قال العلّامة ابن الخطيب الأماسيّ الحنفيّ - في تفسير الآية -: (ظاهرُهُ يدلّ على حصر إرادة إزالة الرجس في أهل البيت، وهو غير مراد، فيُحمَل على زوال الرجس؛ حملاً للسبب على المسبَّب، وإذا زال كلّ رجسٍ منهم لزم عصمتهم من الخطأ) [أنباء الاصطفا في حق آباء المصطفى (مخطوط) ص27].
ينظر: [أهل البيت في آية التطهير ص20، مفاهيم القرآن ج10 ص199، العصمة أدلّتها وحقيقتها ص94، رشفة الصادي ص14. ويمكن مراجعة بعض الأجوبة السابقة على المركز].
الدليل الثاني: آية المودة:
وهي قول الله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى 23]، وقربى النبيّ الذين وجبت مودّتهم على المسلمين هم: عليٌّ وفاطمةُ والحسن والحسين – كما ورد عن ابن عبّاس -[ينظر: المعجم الكبير ج3 ص47، شواهد التنزيل ج2 ص196، وغيرها].
وتقرير الاستدلال بها: أنّ الله تعالى أوجب مودّة أهل البيت (ع) وجعلها أجراً للرسالة، ووجوب المودّة مطلقاً يستلزم وجوب الطاعة مطلقاً - لأنّ العصيان ينافي الودّ المطلق -، ووجوب الطاعة مطلقاً يستلزم العصمة.
ينظر: [نهج الحق ص175، دلائل الصدق ج4 ص390].
الدليل الثالث: حديث الثقلين:
وهو الحديث المتواتر عند الفريقيّن عن النبيّ (ص): «إنّي تاركٌ فيكم الثقلين: كتاب الله - عزّ وجلّ - وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض، فانظروا بِمَ تخلفوني فيهما» [ينظر: نفحات الأزهار ج1 ص183، السلسلة الصحيحة ج4 ص355، وغيرها].
وتقرير الاستدلال به من وجوه:
أولها: أنّ النبيَّ (ص) جعل أهل بيته (ع) – ومنهم ابنته الصدّيقة فاطمة (ع) - عدلاً للقرآن الكريم بقرنه بينهما، فيجب التمسّك بهما معاً، واتّباعهما في كلِّ أمرٍ ونهي، ومن المعلوم أنّ لزوم اتّباع أهل البيت (ع) على الإطلاق يستلزم عصمتهم؛ إذ لا يلزم اتّباع غير المعصوم على نحو الإطلاق.
وثانيها: أنّ النبيّ (ص) صرّح بأنّ أهل بيته (ع) والقرآن الكريم لا يفترقان، وهذا الاقتران وعدم الافتراق بينهما يدلّ على أنّ أهل البيت (ع) لا يخالفون القرآن الكريم قولاً وعملاً، وإلّا لحصل الافتراق بينهما، وهذا يعني عصمتهم.
قال الأمير الصنعانيُّ – في شرح حديث: «عليٌّ مع القرآن، والقرآن مع علي، لن يفترقا حتى يردا على الحوض»-: (وهذا الحديث من أدلّة العصمة؛ لأنّ مَن لازَمَ القرآنَ، ولازَمَهُ القرآنُ لا يأتي معصيةً؛ إذ لو أتاها لفارقه القرآن، والحديث يشهد بأنّه لا فراق بينهما) [التنوير شرح الجامع الصغير ج7 ص335].
وثالثها: أنّه يترتّب عدم الوقوع في الضلال مطلقاً على التمسّك بالقرآن الكريم وأهل البيت (ع)، وهذا يعني عصمتهم، وإلّا لو أمكن صدور المعصية والضلال منهم لَـم يكن التمسّك بهم موجِباً للأمن من الضلال.
قال العلّامة السنديُّ: (وفيه مِنْ تأكّدِ إخبارِ كونهم على الحقّ كالقرآن، وصونهم أبداً عن الخطأ كالوحي المُنزل ما لا يخفى على الخبير) [دراسات اللبيب ص233].
ينظر: [رسائل آل طوق ج3 ص435، دلائل الصدق ج6 ص241، محاضرات في الاعتقادات ج2 ص226، وغيرها]
الدليل الرابع: حديث السفينة:
وهو الحديث الصحيح المرويُّ عند الفريقين عن النبيّ (ص): «إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوحٍ من ركبها نجا ومَن تخلّف عنها غرق» [المستدرك ج2 ص343، وغيره].
وتقرير الاستدلال به: أنّ الركوب بسفينة أهل البيت (ع) – ومن جملتهم الصدّيقة الزهراء (ع) - كنايةٌ عن التمسّك بهم واتّباعهم مطلقاً، واتّباعهم سببٌ للنجاة كما أنّ عدم اتّباعهم سبب للغرق والضلال، فلو لَـم يكونوا معصومين لَـم يمتنع صدور الضلال والانحراف عنهم، وحينئذٍ لا يكون النجاة مضموناً باتّباعهم، وهو خلف ما فرضه الحديث.
قال ابن حجر: (ووجه تشبيههم بالسفينة فيما مرّ أنّ مَن أحبّهم وعظّمهم شكراً لنعمة مشرّفهم، وأخذَاً بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، ومَن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم، وهلك في مفاوز الطغيان). [الصواعق المحرقة ص153].
ينظر: [نفحات الأزهار ج4 ص207، دعوة إلى سبيل المؤمنين ص٢٣٢، محاضرات في الاعتقادات ج2 ص517].
الدليل الخامس: حديث البضعية:
وهو الحديث الصحيح المتّفق عليه عند الفريقين عن النبيّ (ص) أنّه قال: «إنمّا فاطمة بضعة منّي» [صحيح البخاري ج4 ص210، صحيح مسلم ج7 ص141، الاعتقادات ص105، وغيرها].
وتقرير الاستدلال به: أنّ الحديث يدلُّ على أنّ السيّدة الزهراء (ع) بضعة – أي قطعة – من النبيّ الأعظم (ص)، ولا شبهة في عصمة النبيّ (ص)، فبضعته – التي هي بعضه – معصومةٌ أيضاً.
قال نجم الدين الطوفيُّ الحنبليُّ: (وأمّا دليل العصمة في فاطمة (رضي الله عنها) فلقوله (صلى الله عليه [وآله] وسلم): «فاطمة بضعة منّي، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها»، والنبيُّ (صلى الله عليه [وآله] وسلم) معصومٌ، فبضعته -أي جزؤه والقطعة منه- يجب أن تكون معصومة) [الإشارات الإلهيّة ص506].
وينظر: [فضل آل البيت ص62، الصراط المستقيم ج1ص170، وغيرها].
الدليل السادس: أحاديث الملازمة:
وهي الأحاديث الصحيحة الثابتة عند الفريقين الواردة بألفاظٍ متعدّدةٍ عن النبيّ (ص) أنّه قال: «فاطمة بضعة منّي فمَن أغضبها أغضبني»، وقال: «إنمّا فاطمة بضعة منّي، يؤذيني ما آذاها، وينصبني ما أنصبها»، وقال: «إنّ الله يغضب لغضبكِ ويرضى لرضاكِ»، وقال: «إنّ فاطمة بَضعة منّي، وهي روحي التي بين جَنبيّ، يسوؤني ما ساءها، ويسرّني ما سرّها»، وغيرها [صحيح البخاريّ ج4 ص210، صحيح مسلم ج7 ص141، المستدرك ج3 ص154، الاعتقادات ص105، وغيرها].
وتقرير الاستدلال بهذه الأحاديث: أنّها تثبت التلازم بين غضب الصدّيقة الزهراء (ع) ورضاها وسرورها وأذاها ونصَبها، وبين غضب أبيها رسول الله (ص) ورضاه وسروره وأذاه ونصَبه، وهي ملازمة لغضب الله تبارك وتعالى ورضاه ونحوها، وهذا يثبت عصمتها (ع)؛ إذ لـو لَـم تكن معصومة لحصل الانفكاك بين غضبها ورضاها ونحوها وبين غضب الله تعالى ورضاها ونحوها؛ وذلك فيما لو غضبت على مَن لا يستحقّ الغضب الإلهيّ، أو رضيت عمّن لا يستحقّ الرضا الإلهيّ، أو غير ذلك.
بل لحصل النقيض تماماً؛ وذلك فيما لو غضبت على مَن يستحقّ الرضا الإلهيّ، أو رضيت عمّن يستحقّ الغضب الإلهيّ، أو غير ذلك، كما لو فرض ارتكابها الذنوب الموجِبة لإقامة الحدود، فإنّ أذاها بإقامة الحدّ ليس موجِباً لأذى النبيّ (ص)، بل هو ممّا يسرّه؛ لأنّه إقامة للعدل الإلهيّ وحفظ لحدود الله تعالى من التعدي.
ينظر: [الفصول المختارة ص88، بحار الأنوار ج43 ص39، الأسرار الفاطمية ص49] وغيرها.
الدليل السابع: أحاديث السيادة:
وهي الأحاديث الصحيحة الواردة عند الفريقين بألفاظٍ متعدّدةٍ عن النبيّ (ص): «فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة»، وعن النبيّ (ص): « أمَا ترضين أنْ تكوني سيّدة نساء العالمين»، وعن النبيّ (ص): «ألا ترضين أنْ تكوني سيّدة نساء العالمين، وسيّدة نساء هذه الأمّة، وسيّدة نساء المؤمنين»، ونحوها [ينظر: صحيح البخاريّ ج4 ص219، الاستيعاب ج5 ص1895، المستدرك ج3 ص156، وغيرها].
وتقرير الاستدلال بها: أنّ هذه الأحاديث تدلّ على سيادة الصدّيقة الكبرى (ع) وأفضليّتها على جميع نساء أهل الجنّة ونساء العالمين ونساء المؤمنين، بما فيهنّ من النساء المعصومات كالسيّدة مريم (ع)، فيلزم أنْ تكون الزهراء (ع) معصومةً أيضاً من بابٍ أولى؛ لعدم صحّة تفضيل غير المعصوم على المعصوم.
وقد أقرّ جمعٌ من علماء المخالفين بأفضليّة الزهراء (ع) على السيّدة مريم (ع)، كابن تيمية الحرانيِّ، والعلّامة الزركشيّ والعلّامة السيوطيّ وغيرهم [ينظر: المستدرك على مجموع الفتاوى ج1 ص118، سبيل الهدى الرشاد ج11ص162].
الدليل الثامن: حديث الكفاءة:
وهو الحديث الصحيح المستفيض، المرويّ عن أمير المؤمنين (ع) قال: «قال لي رسول الله (ص):.. فهبط عليَّ جبرئيل (ع) فقال: يا محمّد! إنّ الله (جلّ جلاله) يقول: لو لم أخلق عليّاً (ع) لَـمَا كان لفاطمة ابنتك كُفوٌ على وجه الأرض آدم فَمَن دونه»، وعن الإمام الصادق (ع): «لولا أنّ أمير المؤمنين (ع) تزوّجها لَـما كان لها كفوٌ إلى يوم القيامة على وجه الأرض آدم فمَن دونه»، وعن النبيّ (ص): «لو لم يُخلق عليٌّ ما كان لفاطمة كفؤ»، وغيرها. [ينظر: عيون الأخبار ج1 ص203، الخصال ص414، مقتل الحسين للخوارزميّ ص66، كنوز الحقائق ص133، وغيرها].
وتقرير الاستدلال به: أنّ جميع الأنبياء والمرسلين – آدم فمَن دونه – ليسوا بأكفاء للزواج من السيّدة الزهراء (ع)، وهذا يدلّ على أفضليّتها وعصمتها (ع)؛ إذ لو لَـم تكن معصومةً للزم أن يكون المعصومون – أي الأنبياء - ليسوا كفؤاً لغير المعصوم –أي الزهراء-، وهو باطلٌ.
ينظر: [الخصائص الفاطميّة ج1 ص528]
الدليل التاسع: أحاديث حجيّتها وفرض طاعتها:
وهي أحاديث كثيرة، منها ما ورد عن النبيّ (ص): «أنا وعليّ وفاطمة والحسن والحسين وتسعةٌ من ولد الحسين حجج الله على خلقه، أعداؤنا أعداء الله، وأولياؤنا أولياء الله»، وعن الإمام الباقر (ع): «ولقد كانت (ع) مفروضة الطاعة على جميع مَن خلق الله؛ من الجنّ والإنس والطير والوحش والأنبياء والملائكة»، وعن الإمام الجواد (ع): «إنّ الله تبارك وتعالى لم يزل متفرّداً بوحدانيّته، ثمّ خلق محمّداً وعليّاً وفاطمة، فمكثوا ألف دهرٍ، ثمّ خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها، وأجرى طاعتهم عليها» [ينظر: أمالي الصدوق ص194، دلائل الإمامة ص28، الكافي ج1 ص441].
وتقرير الاستدلال بها: أنّ هذه الأحاديث تدلّ على حجيّة الصدّيقة الكبرى (ع) وفرض طاعتها المطلقتين على جميع الخلق - من الملائكة والإنس والجنّ والحيوان والجماد -، وحجيّتُها وفرضُ طاعتها المطلقان تدلّان على عصمتها؛ إذ لا حجيّة وطاعة مطلقتين لغير المعصوم.
بل إنّ حجيّتها وفرض طاعتها على المعصومين – من الملائكة والأنبياء – يدلّان على عصمتها بالأولويّة؛ إذ لا يعقل أن يكون المعصوم مطيعاً ومحجوجاً بغير المعصوم.
الدليل العاشر: حديث حجيّتها على الأئمّة:
ورد عن الإمام العسكريّ قال: «نحن حجج الله على خلقه، وجدّتنا فاطمة حجّة الله علينا» [أطيب البيان ج13 ص225].
وتقرير الاستدلال به واضحٌ جداً؛ فإنّها (ع) لو لَـم تكن معصومة لَـما صحّ أنْ تكون حجّةً مطلقةً على المعصومين؛ فإنّ العصمة من مقوّمات الحجيّة المطلقة، كما تقدّم آنفاً في الدليل التاسع.
وهذا غيضٌ من فيض، وإلّا فهناك أدلّةٌ أخرى أعرضنا عنها رعايةً للاختصار.
اللّهم صلّ على فاطمة وأبيها، وبعلها وبنيها، والسرّ المستودع فيها، وأرضها عنّا، وارزقنا زيارتها في الدنيا وشفاعتها في الآخرة يا أرحم الراحمين. وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
اترك تعليق