شبهةٌ حول تقليد العلماء في التكاليف الشرعيّة!.

السؤال: ((تتطلّب لغة الرسالة العمليّة للمرجع سنتين من الدراسة في الحوزة لفهم مقاصد المرجع بشكل صحيح. بل إنّ العديد من المعمّمين الذين قابلتهم لا يدركون معنى العبارة حتّى بعد دراستها!. فكيف يمكن للبعض ادّعاء أنّ التقليد هو أسهل الطرق لامتثال التكليف الشرعيّ؟!)).

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ ما طرحه السائل لا يرقى لأن يكون إشكاليّة تعترض طريق التقليد، كما أنّ هنالك مبالغة في الطرح، وهذا ما يتّضح للقارئ الكريم من خلال بيان الأمور التالية:

أوّلا: لقد صرّح العلماء بأنّه ليس على المكلّف معرفة جميع الأحكام الشرعيّة، وإنّما ينحصر الوجوب في خصوص ما يقع منها في معرض ابتلائه ويحتاج إليه [يُنظر: منهاج الصالحين للسيد السيستانيّ ج1 ص13 - المسألتان رقم 18 و 19]، وبالعود إلى الرسائل العمليّة نجد أنّ الكثير من العبادات تخرج عن عهدة المكلّف ولا يجب عليه معرفتها فضلاً عن تعلّمها مثل: أحكام الدماء الثلاثة بالنسبة للذكور، وهكذا بالنسبة للصوم لمن سقط عنه لعذر من مرض دائم أو شيخوخة، وغير ذلك، وأمّا المعاملات فالأمر فيها أيسر بكثير لخروج الغالبيّة العظمى منها خارج نطاق التكليف، فالطبيب مثلاً عليه أن يعرف الأحكام المتعلّقة بالطبّ، أمّا ما يرتبط الأبواب الأخرى كالقضاء والمزارعة والمغارسة والمضاربة وغير ذلك العشرات من منها فلا يجب عليه تعلّم شيء من مسائلها عند عدم حاجته إليها، وهذا أمر يفرضه المنطق والعقل السليم، وعليه جرت سيرة المتشرّعة، ومن هنا يظهر حجم المبالغة في دعوى السائل احتياج تعلّم الرسالة إلى سنتين ونحوه.

ثانياً: ربّما يكون فهم بعض الفاظ ومصطلحات الرسائل العمليّة صعب المنال بالنسبة لبعض المكلّفين، ولكن ليست هذه المشكلة عامّة في جميع رسائل الفقهاء العمليّة، كما أنّ نتاج علماء الطائفة – لا سيّما المعاصرين منهم – لا ينحصر بتلك الرسائل ذات اللّغة الصعبة أو المستصعبة، بل لهم من الكتب الفتوائية ما يمتاز باليسر والسهولة وتيسير العبارة، مثل كتب الحواريّات والفتاوى الميسّرة وأجوبة المسائل الدينيّة وأجوبة الاستفتاءات والفقه للمغتربين، وغيرها من العناوين الكثيرة، وبالتالي ليس لزاماً على المكلّف قراءة ما لا يمكنه فهمه.

بل من الواضح عدم انحصار معرفة الأحكام والتكاليف بقراءة الكتب، وإنّما توجد بدائل أخرى لذلك، فهنالك الوكلاء والمعتمدون والكثير من رجال الدين الذين ينتشرون في مختلف بقاع الأرض، وأيضاً البرامج التلفزيونيّة التي يقوم بتقديمها بعض رجال الدين المرتبطون بالمرجعيّة ويوضّحون فيها مختلف الأحكام الشرعيّة، وهي كثيرة- بحمد الله تعالى -، وأكثر منها مواقع التواصل الاجتماعيّ فيما لو كانت ممّا يُعتمد عليها ومعروفة بوثاقتها، كما أنّ هنالك مواقع للاستفتاءات على الإنترنيت لأغلب مراجع الدين - إن لم يكن لجميعهم - ، فضلاً عن إمكان الاتصال بنفس مكاتب المرجعيّات الدينيّة وأخذ الحكم الشرعي منها مباشرة، وبالتالي يمكن للمكلّفين الرجوع إلى هذه المنافذ المتاحة والمتعدّدة؛ لأجل وقوفهم على تكاليفهم ومعرفتها، وهذا ما نراه اليوم من قبل الكثير من المؤمنين.

وأمّا قول السائل: (إنّ بعض رجال الدين لا يُحسن معرفة لغة الرسائل العمليّة للفقهاء رغم دراسته لها)، فهو ادّعاء مبالغ فيه فقد يتّفق لرجل دين نسيان حكم أو عدم معرفته لكن ليست هذه حالة عامّة فيهم بحيث توجب إشكاليّة في التقليد من أساسه، وإنّما الأغلب الأعمّ من رجال الدين الذين اشتغلوا بدراسة الرسالة العلميّة وتدريسها بشكل صحيح - كما هو حاصل في الحوزات العلميّة الرصينة – ليست لديهم جهالة بما فيها من المطالب اللّغويّة والعلميّة.

رابعاً: ليس الواجب على المكلّف هو التقليد حصراً، بل الأمر كما ذكرنا من أنّ الواجب الذي دلّت عليه الأدلّة العقليّة والنقليّة هو معرفة الأحكام الشرعيّة بمقدار ما يقع في معرض ابتلائه. وأنّ هذه المعرفة منحصرة بأحد طرق ثلاثة هي: (الاجتهاد، أو الاحتياط، أو التقليد) [ينظر: المصدر السابق - المسألة رقم 1]

وحينئذٍ فلو عُدنا إلى هذه الطرق الثلاثة لوجدنا أنّ الاجتهاد يقتضي أن يَدرس الإنسان ما يقرب من عشرين علماً أو أكثر من مختلف العلوم؛ حتّى يمكنه الوقوف على الحكم الشرعيّ، وهو ممّا يجعل الاجتهاد صعب المنال عليه، وهذا أمر وجدانيّ يعرفه المتشرّعة جميعاً، ولا يحتاج إلى برهان. وهكذا بالنسبة للاحتياط فإنّ كلّ من درس العلوم الشرعيّة في الحوزات العلميّة يعلم جيّداً أنّه أصعب على العوامّ من التقليد؛ وذلك لأنّ مجرّد معرفة موارد الاحتياط - فضلاً عن العمل به وتطبيقه - فيها من العُسر والمشقّة الشيء الكثير، بل قد تتعذّر معرفة تلك الموارد ويستحيل على المكلّف العمل به!. [ينظر: المسائل المنتخبة للسيّد السيستانيّ ص12- المسألتان رقم 7 و 8]، وحينئذٍ لم يبقَ أمامه إلّا طريق التقليد ليتوصّل من خلاله إلى معرفة تكاليفه وامتثالها.

وإذا ما كان التقليد وقراءة الرسالة العمليّة يتطلّب صرف سنتين من عمر الإنسان لأجل معرفة الحكم الشرعيّ – كما يزعم السائل – فإنّه لا يخفى علينا جميعنا أنّ التعامل مع لغة القرآن الكريم والسنّة الشريفة وعبارات قدماء العلماء يتطلب منّا عشرات السنين؛ لكي نصل إلى المراد بها من أحكام، وفيه من الصعوبة ما لا يخفى، ومن هنا يتّضح لنا صحّة المقولة: (أنّ التقليد هو أسهل الطرق لامتثال التكليف الشرعيّ).

هذا ما وفّقنا الله تعالى لبيانه في المقام، والحمد لله ربّ العالمين.