هل تغلَّبت إرادة البشر على إرادة الله في تنصيب الإمام عليٍّ (ع)؟

السؤال: يدَّعي الشيعة أنَّ الله تعالى، بإرادته ومشيئته، قد نصّب علياً إماماً للناس، لكنه لم يُمكّنه من ذلك، بل مكَّن أبا بكر. وقد رفض الصحابة هذا التنصيب الإلهيَّ، فهل تكون إرادة ومشيئة الصحابة أقوى من إرادة الله تعالى ومشيئته؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

من الواضح أنَّ الشبهة التي وقع فيها صاحب السؤال نابعةٌ من خلطه بين إرادة الله التكوينيَّة وإرادته التشريعيَّة؛ ولذا لا يحتاج رفع الشبهة التي وقع فيها أكثر من بيان الفرق بينهما.

تطلق الإرادة التكوينيَّة على إرادة الله إذا تعلّقت بوجود الكائنات والأفعال في عالم الخلق، بحيث يتحقق المراد من دون أنْ يتوسَّط بينه وبين الفعل إرادة فاعلٍ آخر. بمعنى أنَّ هذه الإرادة تكون مباشرةً ومن دون حاجة إلى إذنٍ أو تدخلٍ من أحد، كما قال الله تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَیءٍ إِذَا أَرَ‌دْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ کن فَیکونُ) [النحل: 4]. فكلُّ ما تعلقت به الإرادة التكوينية لا يمكن أن يتخلف عن الحدوث، لأنه جزء من النظام الإلهي المحكم في الكون.

أما الإرادة التشريعيَّة، فهي تتعلق بأوامر الله ونواهيه التي يُوجهها إلى عباده عبر التشريعات السماويَّة، مثل الوجوب والاستحباب والتحريم والكراهة والإباحة.

هذه الإرادة تتطلب وجود إرادة فاعلٍ مختارٍ لتحقيقها؛ لأنَّ أفعال الإنسان في هذا السياق اختياريَّة وليست إجباريَّة.

فعلى سبيل المثال، إذا أمر الله بفعلٍ معيَّنٍ كالصلاة أو الصوم، فإنَّ الإرادة التشريعيَّة تتعلق بإرشاد العباد لتحقيق هذا الفعل، لكنها لا تمنعهم من مخالفته إنْ اختاروا ذلك. كما قال تعالى: (یُرِیدُ اللَّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَلَا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]، فإرادة الله هنا تشريعيَّة، إذ تشير إلى التيسير والتخفيف في الأحكام الشرعيَّة التي تركها الله لاختيار البشر، إما أنْ يلتزموا بها وإمَّا أنْ يختاروا مخالفتها.

يقول الشيخ جعفر السبحانيُّ في كتابه "مفاهيم القرآن": (إنَّ انقسام إرادته سبحانه إلى تكوينيَّةٍ وتشريعيَّةٍ من الانقسامات الواضحة التي لا تحتاج إلى بسطٍ في القول، ومجمل القول فيها هو أنَّه إذا تعلقت إرادته سبحانه على إيجاد شيءٍ وتكوينه في صحيفة الوجود، فهي الإرادة التكوينيَّة ولا تتخلف تلك الإرادة عن مراده، وربما يعبَّر عنها بالأمر التكوينيّ قال سبحانه: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) ففي هذا المجال يكون متعلق الإرادة تكوِّنَ الشيء وتحققه وتجسده، والله سبحانه لأجل سعة قدرته ونفوذ إرادته لا تنفك إرادته عن مراده ولا أمره التكوينيّ عن متعلقه.

وأما إذا تعلقت إرادته سبحانه بتشريع الأحكام وتقنينها في المجتمع حتى يقوم المكلف مختارا بواجبه، فهي إرادةٌ تشريعيَّةٌ، ففي هذا المجال يكون متعلق الإرادة تحقيقا هو التشريع والتقنين، وأما قيام المكلف فهو من غايات التكليف؛ ولأجل ذلك ربما تترتب عليه الغاية، وربما تنفك عنه، ولا يوجب الانفكاك خللاً في إرادته سبحانه، لأنه ما أراد إلا التشريع وقد تحقق، كما أنَّه ما أراد قيام المكلف بواجبه إلا مختارا، فقيامه بواجبه أو عدم قيامه من شعب اختياره، هذا هو إجمال القول في الإرادتين) [مفاهيم القرآن ج 10 ص 203]

وبناءً على ذلك، تنتزع الإرادة التكوينيَّة من العلاقة المباشرة بين الله وخلق الكائنات، فلا يمكن أنْ يتخلَّف المراد عنها أبداً. بينما تنتزع الإرادة التشريعيَّة من العلاقة بين الله وأفعال الإنسان الاختياريَّة، ومن ثم يمكن أن يتخلف المراد عنها إذا اختار الإنسان مخالفة الأمر الإلهيّ. فالإرادة التكوينيَّة حاكمةٌ في مجريات الكون، بينما التشريعيَّة تفتح المجال لاختيار الإنسان وفقاً لحريته التي منحها الله له.

مثالٌ توضيحيٌّ يبرز الفرق: إذا أراد الله أن ينزل المطر، فإنَّ إرادته التكوينيَّة تتحقق فوراً ولا يمكن لأي شيء أن يمنعها. ولكن إذا أراد الله من عباده أن يصلوا، فإن تحقيق الصلاة يتوقف على اختيارهم الحر، ومن الممكن أن يطيعوا أو يعصوا. هكذا يظهر أنَّ الإرادة التكوينيَّة هي إرادةٌ حتميةٌ لا يتخلف فيها المراد، بينما الإرادة التشريعيَّة تعتمد على اختيار الإنسان وقد تتخلف بسبب عصيانه أو تجاهله الأمر الإلهي.

من هذا المنطلق، نفهم أنَّ إرادة الله التشريعيَّة تتجلى في النصوص التي أمر بها عباده وأرشدهم إلى اتباعها، ومن ذلك تنصيب الإمام علي (ع) إماماً للمسلمين وخليفة بعد رسول الله (ص).

هذا التنصيب الإلهيُّ ورد في نصوصٍ كثيرةٍ منها على سبيل المثال قول النبيِّ (ص) يوم الغدير: "من كنت مولاه فهذا علي مولاه". وهذا يمثل إرادة الله التشريعيَّة التي أوجبت على المسلمين الالتزام بهذا الأمر.

وفي المقابل، مكَّن الله بإرادته التكوينيَّة الجميع من أيِّ خيارٍ يختارونه. فالله بإرادته التشريعيَّة أراد منهم أن يتبعوا أمير المؤمنين، ولكنه لا يحول بينهم إذا اختاروا غيره، فالله سمح للناس بأن يمارسوا دورهم في اختيار ما طلبه منهم أو عدم اختياره؛ وذلك لأنَّ الله سبحانه وتعالى جعل الدنيا دار اختبار، ووهب الإنسان حرية الاختيار بين طاعة الله ومعصيته. فتمكين بعض الصحابة من تولي الخلافة بدلاً من الإمام علي (ع) كان جزءاً من الابتلاء الإلهيّ للأمة، ليمتحن مدى تمسكهم بالحق وقدرتهم على اتباع أوامر الله فيمن يتولى الأمر بعد رحيل النبيّ (ص).

هذا الابتلاء لا يعني أن إرادة الله قد غُلبت، بل يعني أن الله شاء تكوينياً أن يختار الناس أفعالهم بحرية، ليظهر صدق المخلصين وتمييزهم عن المنافقين. وكما قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا یَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِینَ جَاهَدُوا مِنْکُمْ وَلَمْ یَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِینَ وَلِیجَةً) [التوبة: 16]. فكما اختبر الله بني إسرائيل عندما أرسل إليهم الأنبياء والرسل، اختبر أمة الإسلام بعد النبيِّ محمدٍ (ص) في مدى التزامها بالحق الذي أوصى به.

وفي المحصلة أن إرادة الله التكوينيَّة سمحت بوقوع الأحداث التاريخيَّة كما وقعت، بينما إرادته التشريعيَّة أوجبت اتباع الإمام علي (ع) كخليفة.

ورفض بعض الصحابة لهذا التنصيب الإلهيّ لا يعني أنَّهم تغلبوا على إرادة الله، بل يعني أنهم اختاروا بإرادتهم الحرة أنْ يخالفوا الحق، وسيحاسبهم الله على أفعالهم وفق عدله. وهكذا يتبيَّن أنَّ هذا الإشكال مبنيٌّ على سوء فهم لطبيعة الإرادة الإلهيَّة، وأنَّ أفعال البشر تقع ضمن علم الله وحكمته، وهي جزءٌ من الابتلاء الإلهيِّ الذي يميز بين المؤمنين والمنافقين.