هل يسمع الموتى؟

السؤال: ما هو ردُّكم على من يستند إلى الآية الكريمة {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ} في دلالتها على أنَّ الميت لا ينفع ولا يضر، وأنَّه لا يسمع دعاء من يدعوه أو الكلام بشكلٍ عام؟ وهل هناك آيةٌ أخرى تصرّح بخلاف ذلك؟

: الشيخ أحمد الكعبي

الجواب:

يعتقد المسلمون كافة أنَّ سؤال الله تعالى هو الأساس في استغاثاتهم وحاجاتهم؛ وذلك لأنَّ الله تعالى وحده يملك مفاتيح كلِّ شيءٍ، وله السلطان المطلق الذي يتجلَّى في حقيقة أنَّ كلَّ أمرٍ يقع في الكون سواء كان خيراً أو شراً يتمُّ بمشيئته وقدره؛ وذلك لما ورد في القرآن الكريم من قبيل قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ممَّا يؤكّد أنّ الله تعالى هو المبدع والمدبّر لكلِّ شيء، وهو الضار النافع؛ ولما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: لا يجد عبدٌ طعم الايمان حتى يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنَّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنَّ الضار النافع هو الله عزّ وجلّ» [الكافي ج٢ ص٥٨].

فالله تعالى هو المانح للمنفعة والضار، إذ إنَّ كلَّ نفعٍ وضررٍ هو بتقديره تعالى وإنْ كان بوساطة الغير، فالنفع والضرر الحقيقيان هما منه مباشرة، وأما الضرر اليسير الواقع بوساطة الغير وتعقبه الجزاء الوفير في الآخرة فلا يُعد ضررًا حقيقيّاً، بل نسبيّاً.

وكذلك المنافع الدنيويَّة الفانية إذا كانت مصحوبةً بعقوباتٍ أخرويَّةٍ فهي في جوهرها ضرر، وبالجملة يكون كلُّ نفعٍ وضررٍ يُعتد بهما من عند الله تعالى، كما أنَّ كلَّ نفعٍ أو ضررٍ يحدث بوساطة غيره يكون إما بتوفيقه أو بخذلانه، وهو ما يعكس شمولية تدبيره وحكمته التي تتجاوز إدراك الإنسان. [ينظر بحار الأنوار ج٦٧ ص154].

فالأسباب والعلل التي نراها في الظواهر الطبيعيَّة ما هي إلا وسائل وأدوات تُستخدم لتحقيق مشيئته؛ وذلك لأن تلك العلل والأسباب تعمل كأدواتٍ يتمُّ من خلالها تنفيذ إرادة الله تعالى، وليس لها قدرة مستقلة بذاتها، مما يوضح أنَّ لكلِّ ظاهرةٍ طبيعيَّةٍ أساساً إلهيَّاً يكمن وراءها وتحت إشراف الله تعالى، كما يؤكّد ذلك تأصيل توحيد الربوبيَّة الذي يُثبت أنَّ جميع القوى والظواهر في الوجود تخضع لتدبير الله تعالى وتعمل كوسائل لتحقيق مقاصده.

ومن هنا يتبين أنَّ العلم بالنظام الكونيّ وقوانينه لا يتعارض مع الاعتقاد بالسلطان الإلهيّ المطلق، بل يظهر بوضوح أنَّ الله تعالى يدبر شؤون خلقه باستخدام هذه الأسباب التي تبدو قوى مستقلة، ولكنها في الحقيقة مجرد أدواتٍ لتحقيق مشيئته المطلقة مما يعزز ثقة المؤمن واعتماده على الله تعالى في كلّ شؤون الحياة. [ينظر: تفسير الميزان ج2 ص333].

ومن تلك الأسباب طلبُ المسلمين من الله تعالى أنْ يستجيب لمطالبهم ويحقق رغباتهم بحق هذه الوسائط، حيث يُشيرون إلى مكانتهم وكرامتهم عند الله تعالى؛ ولهذا فإنَّ دعاءهم يكون: «أسألك بحق نبيِّك وأوليائك أنْ تقضي حاجتي»؛ لحديث أنس بن مالك (رضي الله عنه) عند موت فاطمة بنت أسد أم علي، وهو حديثٍ طويلٍ وفي آخره أنَّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: «الله الذي يحيي ويميت، وهو حيٌّ لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ولقّنها حجّتها، ووسّع عليها مُدخَلَها بحقّ نبيّك والأنبياء الذين من قبلي، فإنّك أرحم الراحمين» [المعجم الكبير ج24 ص351، المعجم الأوسط ج1 ص67، حلية الأولياء ج3 ص121]، قال الهيثميّ: (رواه الطبرانيُّ في الكبير والأوسط، وفيه روح بن صلاح، وثَّقه ابن حبَّان والحاكم، وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح) [مجمع الزوائد ج9 ص257].

بخلاف مَن شدّد كابن تيمية على رفع اليدين مباشرةً بالدعاء إلى الله تعالى من دون استخدام وسائط. ووفقًا لرأيه أنَّ الوساطة بين العبد وخالقه تعتبر شركاً أو بدعة في الدين. يقول: (فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل أنْ يسألهم غفران الذنب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات، فهو كافرٌ بإجماع المسلمين) [مجموع الفتاوى ج1 ص121].

الآية الكريمة التي استند إليها السائل، وهي قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر: 22-23]، تحتاج إلى تأمل وتفسير دقيق في ضوء فهم العقيدة الإسلاميَّة الصحيحة.

فالآية الشريفة تتحدث عن المفاضلة بين المؤمن والكافر، فتكون كلمة "الأحياء" هنا إشارة إلى المؤمنين الذين يملكون حياةً معنويَّةً وروحيَّة، وكلمة "الأموات" إشارة إلى الكافرين الذين ماتت قلوبهم روحانيًا.

فالتعبير بقوله تعالى "وما أنت بمسمعٍ من في القبور" كناية عن عدم تأثير دعوة النبيّ (صلى الله عليه وآله) في قلوب الكافرين الميتة بسبب كفرهم وعنادهم، وليس عن عدم قدرة الموتى الحقيقية على السماع.

فالآية لا تنفي بالضرورة سماع الموتى حسيًا أو روحانيًا؛ بل تعبّر عن عدم قدرة النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن جعل القلوب الميتة (الكافرة) تتقبّل الهداية. قال العلامة الطباطبائيُّ (قده): ({وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ} تمثيلات للمؤمن والكافر وتبعات أعمالهما. وقوله: {إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ} وهو المؤمن كان ميتاً فأحياه الله فأسمعه لما في نفسه من الاستعداد، لذلك قال تعالى: {أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً} [الأنعام: ١٢٢] ، وأمّا النبيّ (صلى الله عليه وآله) فإنما هو وسيلة والهدى هدى الله. وقوله: {وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} أي الأموات، والمراد بهم الكفار المطبوع على قلوبهم. قوله تعالى: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} قصر إضافي، أي: ليس لك إلَّا إنذارهم، وأما هداية من اهتدى منهم وإضلال من ضلّ ولم يهتد جزاءٌ له بسيئ عمله فإنّما ذلك لله سبحانه) [تفسير الميزان ج17 ص37].

المراد بسماع الموتى هو قدرة الأموات في عالم البرزخ على سماع أصوات الأحياء في عالم الدنيا، وقبول هذه المسألة يتوقف على الإيمان بالحياة البرزخيَّة وأن حقيقة الموت ليست انعدام الشيء بل الانتقال من عالمٍ إلى عالمٍ أخر.

وقد ورد في القرآن الكريم آياتٌ تفيد أنَّ الموتى يسمعون في بعض الحالات، منها:

1ــ قوله تعالى:{وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12]. فالآية تدلُّ على أنَّ الموتى يُعاد إليهم السمع والبصر في ظروفٍ خاصة.

2ــ وقوله تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]. يوم القيامة يُعاد للإنسان إدراكه الكامل بعد الموت.

3ــ وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243]. هذا يدلُّ على أنَّ الله يستطيع أنْ يعيد السمع والبصر للأموات وقتما يشاء.

وفي الرواية أنَّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) خاطب قتلى المشركين في بدر، وقال لهم: «هل وجدتُم ما وعد ربُّكم حقًا»؟

وأكَّد للصحابة أنَّ الموتى يسمعون: «فلما كان ببدر اليوم الثالث امر براحلته فشدَّ عليها رحلها ثم مشى وتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق الا لبعض حاجته حتى قام على شفة الركى فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان بن فلان ويا فلان ابن فلان أيسركم أنَّكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنَّا قد وجدنا ما وعدنا ربُّنا حقَّاً فهل وجدتُم ما وعد ربُّكم حقَّا؟

قال فقال عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أجسادٍ لا أرواح لها؟

فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والذي نفس محمدٍ بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» [صحيح البخاري ج ٥ ص٨].

الرؤية الإسلامية الصحيحة حول سماع الموتى وفق المذهب الحق، هي أنَّ الموتى يعيشون في حياة البرزخ، وهي حياةٌ تختلف عن حياتنا الدنيويَّة، وللموتى إدراكٌ خاصٌّ بها، وعدم سماعنا لهم لا يعني أنَّهم لا يسمعوننا، ووجود هذا العالم ثابتٌ كما قدَّمنا.

قال الصدوق (قده): (اعتقادنا في المسألة في القبر أنّها حقٌّ لا بدّ منها، ومن أجاب الصواب، فاز برَوْحٍ وريحانٍ في قبره، وبجنّة النعيم في الآخرة، ومن لم يجب بالصواب، فله نزلٌ من حميمٍ في قبره، وتصلية جحيمٍ في الآخرة) [الاعتقادات ص۸۱].

والروايات الصريحة تؤكّد أنَّ زيارة القبور والدعاء عندها يسمعها الموتى وينتفعون بها، فعن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): « الموتى نزورهم؟ قال: نعم. قلت: فيعلمون بنا إذا أتيناهم؟ فقال: إي والله إنهم ليعلمون بكم و يفرحون بكم، ويستأنسون إليكم » [من لا يحضره الفقيه ج1 ص181].

الخلاصة:

الميت لا يضرّ ولا ينفع بذاته، بل كل شيءٍ بيد الله تعالى، وما يُنسب للموتى من تأثير - كشفاعة الصالحين أو دعاء المظلوم - هو بإذن الله تعالى، وليس بقدرتهم الذاتية، والآية المذكورة لا تدلُّ على نفي سماع الموتى مطلقاً، بل تتحدث عن الكافرين الذين ماتت قلوبهم عن الحق.

وهناك آياتٌ وأحاديث كثيرةٌ تؤكّد سماع الموتى في سياقاتٍ معينة، وهو ما ينسجم مع الاعتقاد الصحيح بأنَّ الموتى في عالم البرزخ لهم إدراكٌ وروحانيَّةٌ خاصة.

وزيارة القبور وطلب الشفاعة عند الأولياء أمرٌ مشروعٌ ومسنونٌ في الفكر الإسلاميّ، ولا يتعارض مع النصوص القرآنيَّة.

والحمد لله ربِّ العالمين.