المسار التاريخيّ للتقليد
السؤال: متى بدأ تقليد غير المعصوم زمنيَّاً كما نراه في عصرنا الحالي؟ وهل صحيح أنَّ المرحوم كاظم اليزديّ (قده) في كتابه العروة الوثقى هو من اسَّس للتقليد بشكله الحالي ولم يشر له الفقهاء سابقا؟ فهل هو بدعةٌ متأخرة؟ كما اثبته الدكتور عبد الهادي الفضليّ في بعض كتبه!
الجواب:
اعلم أنّ العلماء السابقين كانوا يطرحون المسائل العلميَّة المرتبطة بـ(الاجتهاد والتقليد) في مدوّناتهم الأصوليّة، فنجد مثلَ السيّد المرتضى يعقد باباً في أصوله بعنوان: (باب الكلام في الاجتهاد وما يتعلّق به) [الذريعة ج2 ص792]، ثـمّ الشيخ الطوسيّ يعقد باباً بعنوان: (الباب الحادي عشر: الكلام في الاجتهاد) [العدّة في أصول الفقه ج2 ص723]، ثـمّ المحقّق الحليّ يذكر: (الفصل الأول: في المفتي والمستفتي) [معارج الأصول ص197]، وهكذا مَن جاء بعدهم نجدهم يطرحون المسائل المرتبطة بالتقليد في الكتب الأصوليّة.
وما كانوا يطرحون هذه المسائل في الكتب الفقهيّة - سواء العمليَّة أو الاستدلاليّة – تحت عنوانٍ مستقلٍّ وإنْ كانت بعض مسائلها تُبحث في بعض الأبواب كباب القضاء، فهذه هي كتب الشيخ الطوسيّ من النهاية والخلاف والمبسوط ليس فيها عنوانٌ لهذه المسائل، والمحقق الحليّ من الشرائع والمختصر والمعتبر ليس فيها عنوانٌ مستقل، والعلامة الحليّ من التبصرة والقواعد والمختلف والتحرير والتذكرة والتلخيص والمنتهى والنهاية، ثـمّ مَن جاء بعدهم من العلماء.
وهذا يعني أنّ العلماء السابقين كانوا يكتفون بذكر المسائل المرتبطة بالاجتهاد والتقليد في الكتب الأصوليّة، ولَـم يعنونوا لها في الكتب الفقهيّة.
إلى أنْ جاء المرجع السيّد محمّد كاظم الطباطبائيّ اليزديّ [ت1337هـ]، فإنّه صنّف كتاب (العروة الوثقى)، وجعل فاتحة كتابه في ذكر مسائل (الاجتهاد والتقليد)، وطرح فيه (72) مسألة، ثـمّ دخل في (كتاب الطهارة)، ثمّ (كتاب الصلاة)، وهكذا.
ويعـدّ كتابه هذا من أرقى الكتب الفقهيّة، وتميّز باشتماله على تفريعاتٍ كثيرةٍ، ولقي استحسان العلماء من بعده، فصار محطّ تعليقاتهم، وقد طُبع مؤخّراً مع تعليقات أكثر من (40) فقيهاً، وصار محوراً للدراسات الفقهيّة، ومداراً لأبحاث الخارج، كما تجد في أبحاث السيد محسن الحكيم والشيخ حسين الحليّ والسيد أبو القاسم الخوئي والسيد محمد باقر الصدر وغيرهم.
فالبحث العلميّ في مسائل (الاجتهاد والتقليد) كان يُطرح – من قبلُ – ضمن علم الأصول، وصار - من بعدُ - يُطرح ضمن علم الفقه أيضاً، ويغلب على الظنّ أنّ هذا التحوّل كان بعد تصنيف السيّد اليزديّ لكتابه هذا.
هذا ما يريد أن يقوله الشيخ عبد الهادي الفضليّ بقوله: (سيأتينا – تحت عنوان: «تاريخ التقليد» - أنَّ موضوع التقليد بدأ بحثاً أصوليّاً، وفي عهدٍ متأخّرٍ يسبق عصرنا هذا مباشرةً أو بقليل، تحوّل بحثاً فقهيّاً. وإخال أنّ هذا التحوّل كان من السيّد اليزديّ في رسالته العمليّة الموسومة بـ: «العروة الوثقى»... ومع هذا لا يزال بعض المؤلّفين الأصوليّين يدرجون مبحث الاجتهاد والتقليد في كتبهم الأصوليّة) [الاجتهاد والتقليد ص32ـ33].
وهذه العبارة للشيخ الفضليّ واضحة الدلالة على ما ذكرناه: من أنّ مباحث الاجتهاد والتقليد كانت تُطرح في علم الأصول ثـمّ صارت تُطرح في علم الفقه ببركة السيد اليزديّ بعد طرحه لها في فاتحة كتابه (العروة الوثقى).
ولا يقصد الشيخ الفضليّ أنّ السيّد اليزديّ هو مَن أسّس للتقليد بشكله الحالي، وأنه لَـم يذكره الفقهاء سابقاً، فإنّ تحميل عبارته لهذا المعنى مغالطةٌ واضحةٌ وتقوّلٌ عليه بما لا يقوله.
بل ولا يمكن أنْ يصدر مثل هذا الكلام من مثل الشيخ الفضليّ؛ وذلك لأنّ العلماء قديماً وحديثاً صرّحوا – بناءً على الأدلّة الكثيرة والشواهد الوفيرة – بأنّ التقليد الشرعيَّ تمتد جذوره إلى عصور متراميةٍ في القدم؛ إذ هي مرتبطة بأصلٍ رصينٍ في الاستنباط الفقهي القائم على ضرورة رجوع الجاهل إلى العالم، فهي تعود إلى زمن الأئمّة (عليهم السلام)، بل إلى زمن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وقد ذكرنا بعض الشواهد على ذلك في أجوبةٍ سابقةٍ يمكن مراجعتها، ونكتفي في المقام بذكر كلام للسيّد الخوئيّ، ثـمّ كلام للشيخ الفضليّ:
قال السيّد الخوئيّ – في جواب استفتاء بهذا الخصوص -: (التقليد كان موجوداً في زمان الرسول (صلى الله عليه وآله) وزمان الأئمة (عليهم السلام)؛ لأن معنى التقليد هو أخذ الجاهل بفهم العالم، ومن الواضح أنّ كلَّ أحدٍ في ذلك الزمان لم يتمكن من الوصول إلى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أو أحد الأئمة (عليهم السلام) وأخذ معالم دينه منه مباشرة، والله العالم) [مسائل وردود ص5].
وقال الشيخ عبد الهادي الفضليّ – تحت عنوان: تاريخ التقليد الشرعيّ -: (فقد بدأ التقليد الشرعيّ – كظاهرةٍ شرعيَّةٍ اجتماعيَّةٍ – في عهد رسول الله (ص)، وبتخطيطٍ منه (ص)، ثم بتطبيقه من قبل المسلمين بمرأى ومسمعٍ منه (ص)، وتحت إشرافه وبإرشاده. وتمثّل هذا في الأشخاص الذين كان ينتدبهم (ص) للقيام بمهمة تعليم الأحكام الشرعيَّة في البلدان والأماكن التي أسلم أهلها في عصره)، ثم ذكر كلام السيّد الخوئيّ ثم كلام الشيخ الطوسيّ [التقليد والاجتهاد ص43ـ47].
وكلامه واضح الدلالة على أنّ التقليد بدأ ظاهرةً شرعيَّةً اجتماعيَّةً في زمن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) بتخطيطٍ وإشرافٍ منه، وليس من الظواهر المتأخّرة التي استحدثها العلماء في القرن الأخير.
الخلاصة:
إنّ العبارة المنسوبة للشيخ عبد الهادي الفضليّ غير صحيحة، والصحيح أنّ الشيخ الفضليّ يقول: إنّ التقليد بدأ ظاهرةً اجتماعيَّةً شرعيَّةً في زمن النبيّ (ص)، وأنّ مسائله كانت تُطرح في كتب علم الأصول، ثـمّ في أزمنةٍ متأخّرةٍ صارت تُطرح في كتب علم الفقه أيضاً، ويغلب على الظنّ أنّ طرحها في الفقه بعد تصنيف السيّد اليزديّ كتاب (العروة الوثقى).
والحمد لله ربِّ العالمين.
اترك تعليق