اختيار الخليفة بيد الله تعالى

السؤال: ممكن توضيح المعنى الذي أراده الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) عند استدلاله بعدم جواز اختيار الخليفة من غير الله تعالى اذ يقول (قده): (وقول الله (عزَّ وجلَّ): {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} " جاعلٌ " منون، صفة الله التي وصف بها نفسه، وميزانه قوله: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} فنوَّنَه ووصف به نفسه، فمن ادّعى أنه يختار الإمام وجب أن يخلق بشرا من طين، فلما بطل هذا المعنى بطل الاخر إذ هما في حيزٍ واحد

: الشيخ أحمد الكعبي

الجواب:

تُعتبر مسألة الإمامة من الموضوعات المحورية في الفكر الإسلامي عامة والفكر الشيعيّ خاصة، حيث إنها نظير النبوّة، تعد أحد الركائز الأساسية في العقيدة، ويرى الشيعة أن تنصيب الإمام لا يكون إلا من قبل الله تعالى، خلافاً لغيرهم ممن يقول إنَّ اختيار الإمام والخليفة يكون بالشورى من قبل الناس.

واستدلَّ علماء الإمامية على أنَّ تنصيب الإمام يكون من الله تعالى بأدلَّةٍ كثيرة، ومن جملتهم الشيخ الصدوق - الذي يعد أحد كبار العلماء والمحدثين في القرن الرابع الهجريَّ - فقد ذكر في كتابه (كمال الدين وتمام النعمة) بعد التوطئة أموراً حول مسألة الإمامة، أوّلها حول (الخليفة قبل الخليقة)، ثم حول (وجوب طاعة الخليفة)، ثم حول (ليس لأحد أنْ يختار الخليفة إلَّا الله (عز وجل).

هنا ذكر أنَّ اختيار الخليفة ليس من صلاحيات البشر، واستند لإثبات ذلك إلى أدلَّةٍ قرآنيَّةٍ وعقليَّةٍ، ومن جملة ما استدلَّ به هو الآية الكريمة، فقال:

(وقول الله (عزَّ وجلَّ): {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (جاعل) منوّن، صفة الله التي وصف بها نفسه، وميزانه قوله: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ}، فنوّنه ووصف به نفسه، فمَن ادّعى أنه يختار الإمام وجب أنْ يخلق بشراً من طين، فلمّا بطل هذا المعنى بطل الاخر؛ إذ هما في حيّز واحد) [كمال الدين ص20ـ21].

توضيح الاستدلال:

يستشهد الشيخ الصدوق (قده) في هذا الجزء من استدلاله، بقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة 30].

يحلّل الشيخ الصدوق لفظ (جاعل) الذي هو اسم فاعل من الفعل (جَعَلَ)، و(جاعل) في الآية الكريمة مُنوَنٌ غير مُعرّف، مما يدلُّ على أنَّ هذه الصفة تختصّ بالله تعالى وليست مجرد حدثٍ مؤقت؛ إذ التنوين هنا يشير إلى العموم والثبوت، فهي صفةٌ مختصّةٌ بالله تعالى، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}. ووفقا لقواعد اللغة العربيَّة، يُفيد اسم الفاعل المنوَّن الديمومة والاستمرار، مما يعزز الحقيقة أنَّ (الجَعل) من الأفعال الخاصة بالله تعالى، وهذا يعني أنَّ جعل الخليفة في الأرض هو فعلٌ خاصٌّ بالله تعالى وصف به ذاته المقدّسة.

ثـمّ يذكر الصدوق نظيراً للآية الكريمة، وهو قوله تعالى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ}، حيث يصف الله تعالى نفسه بأنه (خالق) للبشر من طين، فكلمة (خالق) اسم فاعلٍ من الفعل (خَلَقَ)، وهو منوّنٌ غير معرَّف، فتشير إلى أنَّ الخلق صفةٌ خاصةٌ بالله تعالى لا يشاركه فيها أحد.

استنادا إلى هذا المعنى، يشير الشيخ الصدوق إلى أنَّه مَن يدّعي القدرة على اختيار الإمام يجب أنْ يكون قادراً أيضا على خلق البشر من طين، وهو ما لا يستطيع أيُّ مخلوقٍ فعله، وبالتالي، فإن جعل الخليفة في الأرض هو فعلٌ خاصٌّ بالله تعالى وحده، مما يعني أنَّ ادّعاء القدرة على اختيار الإمام يساوي ادّعاء القدرة على الخلق، وهو باطلٌ بالضرورة.

فكلا الفعلين – الجعل والخلق – يقعان في (حيّزٍ واحدٍ)، فهما متناظران من حيث كونهما مختصَّين بالله تعالى، أي ّهما من الأفعال الإلهيَّة الخاصة التي لا يشارك الله تعالى فيها أحد، فإذا بطل ادّعاء القدرة على الخلق، فإنَّه بالضرورة يبطل ادعاء القدرة على اختيار الإمام، الذي هو خليفة الله تعالى في أرضه.

خلاصة:

إنَّ استدلال الشيخ الصدوق (قده) يعتمد على مقارنةٍ واضحةٍ بين فعلين إلهيين خاصين، فكما أنَّ الله تعالى وحده هو الخالق، فهو وحده من يملك حقَّ تعيين خليفته في الأرض، وهو الإمام المعصوم (عليه السلام) في الاعتقاد الشيعيّ الحق، فهذا الاستدلال ينفي أيَّ حقٍ للبشر في اختيار الإمام، مؤكّدًا على أنَّ الإمامة منصبٌ إلهيٌّ لا يخضع لاختيار المخلوقين.

والحمد لله ربّ العالمين.