من المسؤول عن دماء يوم الجمل؟

السؤال: هل تقع مسؤوليَّة كلِّ ما سال من الدماء يوم الجمل على عليّ بن أبي طالب أولاً وبالذّات؛ لأنّه لم يُسَلِّم قتلة عثمان للقصاص، وأنّه المسؤول عن قتل طلحة والزبير وما جرى لأمّ المؤمنين عائشة وباقي الدماء المُسلِمة التي سالت يوم الجمل؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

إنّ تحميل الإمام عليّ (عليه السّلام) مسؤوليّة الدماء التي سالت يوم الجمل، واعتباره السبب في نشوب الحرب، هو قولٌ بعيدٌ عن الإنصاف والحقيقة التاريخيّة. فمَن يتتبّع الأحداث التي سبقت موقعة الجمل بدقّة، يجد أنّ موقفه كان موقف المدافع عن وحدة الأمّة واستقرار الدولة الإسلاميّة، في مقابل حركة تمرّدٍ سعت إلى السّلطة.

فبعد أنْ قتل الثوّار عُثمانَ، وبايعت الأمّة الإمام عليّاً (عليه السّلام)، انقلب عليه بعض الصحابة وطالبوه بدم عثمان، رغم أنّهم أنفسهم كانوا جزءاً من تلك الثورة أو سكتوا عنها.

وعندما بُويع الإمام عليّ (عليه السّلام) للخلافة، كانت البيعة بقرارٍ ثوريٍّ من عامّة الناس الذين خرجوا على عثمان، ولو لم يكن القرار ثوريَّاً يتناسب مع الظرف الثوريّ الذي أطاح بالحكومة السابقة لَـمَا آلت الأمور إليه أبداً. فالنّخبة السياسيّة وقيادات الصفّ الأوّل عادةً ما تتحكّم في الخيارات الكبرى، ولو أُتيح لها الوقت لوجَّهت الجماهير إلى وجهةٍ أُخرى. وعندما وُضعت هذه القيادات أمام الأمر الواقع بايعوا الإمام، لكنّهم سرعان ما نكثوا بيعتهم، وألّبوا الجموع البعيدة، وساروا بها إلى حرب الجمل وصِفّين. فأمير المؤمنين (عليه السّلام) أصبح خليفةً عندما كانت المبادرة بيد عامّة الناس، أمّا حين كانت بيد قيادات قُريش، فقد حرموه منها ثلاث مرّات، ولو استمرّ لهم الأمر لمنعوه منها إلى الأبد.

أمّا خروج عائشة، فلا يمكن توهُّم أنّه كان في رضا الله تعالى؛ لأنّ الله تعالى أمرها بالاستقرار في بيتها بقوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33]، ولم يأذن لها بالخروج إلّا لضرورةٍ شرعيّةٍ، ولم تكن هناك ضرورة شرعيّة تقتضي خروجها لمقاتلة الإمام عليّ (عليه السّلام). فلا توجد حتّى شُبهة يمكن أنْ تقود إلى تصوّر أنّ خروجها كان مَرضيًّا عند الله، فهو بالقطع لم يكن كذلك طالما ثبت خطأ خيار الحرب. وبالتالي، فإنّها تتحمّل المسؤوليّة الشرعيّة والقانونيّة والأخلاقيّة عن الدماء التي سُفِكت، وعن حالة عدم الاستقرار التي أحدثتها في الدولة الإسلاميّة، وعن الأموال التي أُهدرت، وعن الأيتام والأرامل الذين تضرّروا بسبب هذه الحرب، فضلًا عن الجرحى والإعاقات الدائمة، وما تبع ذلك من انحرافاتٍ فكريّةٍ وثقافيّةٍ مزّقت الأمّة، وأدّت إلى انقساماتٍ استمرّت إلى يومنا هذا. فهل يمكن إهمال كلّ هذه التداعيات وتجاهلها، لمجرّد أنّها زوجة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)؟

أمّا الثورة على عثمان، فلم تكن حادثاً عابراً أو نتيجة تحريضٍ خارجيّ، بل كانت امتداداً لغضبٍ شعبيٍّ واسعٍ بسبب سياساته التي أثارت استياء الصحابة والتابعين. فمنذ تولّيه الخلافة، عمل على تمكين بني أُميّة في الحُكم، ومنحهم من بيت مال المسلمين الأموال الطائلة، ممّا أدّى إلى تهميش الصحابة وحرمانهم من دورهم القياديّ. كما عيّن وُلاةً جائرين أثقلوا كاهل الأمّة بالمظالم، وأثاروا الفوضى في الأمصار. ورغم الشكاوى المتكرّرة التي رُفعت إليه، إلّا أنّه لم يستجِب، بل دافع عن وُلاته تحت عنوان (صلة الرّحم)، ممّا أدّى إلى تفاقم الأوضاع حتّى انتهت الثورة بقتله.

وما يثبت أنّ الثورة لم تكن مجرّد عملٍ فوضويٍّ قام به دخلاء - كما يزعم بعض المؤرّخين -، هو أنّ بيت عثمان ظلّ محاصَراً أكثر من شهر، ولم يتحرّك الصحابة لنُصرته إلّا في حالاتٍ نادرةٍ جدًّا لا تتناسب مع خطورة الحدث، ممّا يدلّ على وجود توافقٍ عامٍّ - ولو بالصمت - على ضرورة التغيير. حتّى أنّ معاوية - الذي كان يملك جيشًا كبيرًا في الشّام- لم يستجِب لطلب عثمان بالنُّصرة، وفضّل التريّث وعدم التدخّل، وكان من أكبر الخاذلين له. وهذا يثبت أنّ الدّعوات اللاحقة للأخذ بثأر عثمان لم تكن صادقة، بل كانت مجرّد وسيلةٍ لتحقيق مكاسب سياسيّة.

وفي المحصّلة، فإنّ معركة الجمل لم تكن لتقع لولا خروج عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة، وتحشيدهم الناس ضدّ الإمام عليّ (عليه السّلام)، ورفعهم شعار الثّأر لدم عثمان. ومع ذلك، تؤكّد الرّوايات التاريخيّة أنّ الإمام عليَّاً (عليه السّلام) حاول تجنّب الحرب حتّى اللّحظة الأخيرة، وأرسل الرّسل للتفاوُض معهم، وعرض عليهم العودة دون قتال، لكنّ المعسكر المقابل لم يكن مستعدًّا للتراجع، خاصّةً بعد أن استُقطب الكثير من الناس تحت تأثير العاطفة والشّعارات الدينيّة. وهكذا، فإنّ المسؤوليّة عن الدماء التي سالت تقع على الذين بدأوا التمرّد، وحملوا السلاح في وجه السّلطة الشرعيّة، وليس على الإمام عليّ (عليه السّلام) الذي اضطرّ للدّفاع عن الدولة ووحدتها.