كيف وصلت قبيلتا تيم وعدي إلى الخلافة رغم ضعف مكانتهما؟
السؤال: كيف أصبح أبو بكر وعمر وعثمان خلفاءَ من بعد النبيِّ (صلى الله عليه وآله)؟ فإذا اختارت العرب الخليفة على أساسٍ دينيٍّ، فهم ليس لديهم منقبةٌ واحدةٌ في الإسلام، وإذا كان الاختيار على أساس المكانة الاجتماعيّة، فباستثناءِ عثمان الذي ينحدر من بني أُميّة، لم يكن أبو بكر أو عمر من أهل الشرف والمكانة العالية في قريش، فكيف يُعقلُ أنْ يقبل المجتمع القبليُّ بهم؟
الجواب:
إنَّ اختيار أبي بكر وعمر وعثمان للخلافة بعد وفاة النبيِّ (صلى الله عليه وآله) كان مفاجئاً؛ إذ لم يكن لهم ما يُميِّزُهم دينيّاً أو اجتماعيّاً بين الصحابة. ومع ذلك، تمّ اختيارهم بناءً على تحرُّكاتٍ سياسيّةٍ ودوافع مرتبطةٍ بمصالح قريش.
لقد كان الأمر في البداية محصوراً بين المهاجرين والأنصار، أي بين قريشٍ من جهةٍ، وبين الأوس والخزرج من جهةٍ أُخرى. وقد سارع الأنصار إلى الاجتماع في سقيفة بني ساعدة لاختيار سعد بن عُبادةَ زعيماً لهم، فعدُّوا أنفسهم الأحقَّ بالحكم؛ لأنّهم هم الذين آوَوا النبيَّ (صلى الله عليه وآله) ونصروه حين حاربه قومه.
لكنَّ أبا بكر وعمر ومعهما أبو عبيدة بن الجرّاح أدركوا أنَّ الأمر إذا استتبّ للأنصار، فسيخرج الحكم من يد قريش نهائيّاً، فسارعوا إلى السقيفة ليقطعوا الطريق عليهم، ورفعوا شعار أنَّ الخلافة لا تكون إلّا في قريش بحجّة قرابتهم من النبيِّ (صلى الله عليه وآله).
ورغم أنَّ هذه الحُجّة كانت كافيةً لإقصاء الأنصار، إلّا أنّ الجميع كان يعلم أنَّ بني هاشمٍ هم أولى الناس بالخلافة من بين بطون قريش، فهم أهل النبيِّ (صلى الله عليه وآله) وقرابتُهُ الأقربون، وهم الذين حَمَوا الإسلام منذ أيّامِهِ الأولى وقدَّموا التضحيات الكُبرى في سبيله، وكان فيهم أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالبٍ (عليهِ السلام)، الذي لا يُقارنُ أحدٌ بسبقه وإيمانه وعلمه وشجاعته.
و قريش أدركت أنَّه إذا تولّى بنو هاشمٍ الحكم، فلن يكون لأيِّ بطنٍ آخر منها مطمعٌ فيه بعد ذلك. ومن جهةٍ أُخرى، كان من المُستحيل تقديم بني أُميّة للخلافة؛ إذ لم يكن أحدٌ ليَقبلَ بهم بسبب تاريخهم العدائيِّ مع رسول الله (صلى الله عليه وآله).
لذا، كان تقديم أيِّ بطنٍ آخر من قريش هو الخيار الأقرب لمُقاومة مشروع الأنصار، وهو ما يُفسّرُ العَجَلةَ في البيعة لأبي بكرٍ حتّى قبل أن يُفرَغَ من تجهيز النبيِّ (ص) ودفنه. وهكذا، انتزعت قريش الخلافة من الأنصار بحُجّةِ القُرب من النبيِّ (ص)، ثمّ سعت لإبعاد أمير المؤمنين وأهل بيته (عليهم السلام) عن السلطة نهائيّاً.
لم يكنْ هذا موقفاً عابراً، بل كان جزءاً من صراعٍ طويلٍ بين أمير المؤمنين وقريش، التي حاربتْه حتّى في أيّام خلافته، تماماً كما حاربت النبيَّ (صلى الله عليه وآله) من قبل.
فقد كانت معارك الإسلام الكُبرى في مواجهة قريش، ولم تَستسلِمْ قريش للنبيِّ (ص) إلّا بعد جهادٍ طويلٍ كان الإمام عليٌّ (عليهِ السلام) في مُقدّمته.
وقد تَحدّث أمير المؤمنينَ (ع) عن استهداف قريش لهُ في خُطبٍ كثيرةٍ منها: قولُهُ:
«اللّهمّ فاجزِ قريشاً عنِّي الجَوازي، فقد قطعتْ رحِمي، وتظاهرتْ علَيَّ، ودفعتني عن حقِّي، وسلبتني سُلطانَ ابنِ عمِّي، وسلَّمَتْ ذلك إلى مَن ليس مثلي في قرابتي من الرسول، وسابقتي في الإسلام، إلّا أنْ يدّعيَ مدّعٍ ما لا أعرِفُه، ولا أظنُّ اللهَ يَعرِفُه، والحمدُ للهِ على كلِّ حال» [شرحُ نهجِ البلاغةِ للمعتزليِّ ج٢ ص١١٩].
ومنها قولُه:
«اللّهمّ إنِّي أستعديكَ على قريش ومَن أعانَهم، فإنّهم قد قطعوا رَحِمي، وأكفؤوا آنِيَتي، وأجمعوا على منازعتي حقّاً كنتُ أولى به من غيري، وقالوا: ألا إنَّ في الحقِّ أن تأخذَهُ، وفي الحقِّ أن تُمنَعَهُ، فاصبرْ مغموماً، أو مُتْ متأسِّفاً.
فنظرتُ فإذا ليسَ لي رافدٌ، ولا دابٌّ، ولا مُساعدٌ، إلّا أهلُ بيتي، فَضَنِنتُ بهم عنِ المنيّة، فأغضيتُ على القذى، وجرعتُ ريقي على الشَّجى، وصبرتُ من كظمِ الغيظِ على أمَرَّ من العَلْقَم، وآلَمَ للقلبِ من وخزِ الشِّفار» [نهجُ البلاغةِ ج٢ ص٢٠٢].
وقد تحمّلَ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام) كلَّ ذلك، وصبر عن حقِّه؛ حفاظاً على وحدة الإسلام، وقد أكّد ذلك في خُطبته أثناء مسيره إلى البصرة، حيث قال:
«إنَّ الله لمّا قبضَ نبيَّه، استأثرتْ علينا قريش بالأمر، ودفعتْنا عن حقٍّ نحن أحقُّ به من الناسِ كافّة.
فرأيتُ أنَّ الصّبرَ على ذلك أفضلُ من تفريقِ كلمةِ المسلمين، وسفكِ دمائِهم.
والناسُ حديثو عهدٍ بالإسلام، والدّين يُمخَضُ مَخْضَ الوَطْب، يُفسدُه أدنى وَهْن، ويعكسُه أقلُّ خَلَف.
فولِيَ الأمرَ قومٌ لم يألُوا في أمرِهم اجتهاداً، ثمّ انتقلوا إلى دارِ الجزاء، واللهُ وليُّ تمحيصِ سيّئاتِهم، والعفوِ عن هفواتِهم...» [شرحُ نهجِ البلاغةِ للمعتزليِّ ج١ ص٣٠٨].
لم يَستتبَّ الأمر لأمير المؤمنين (عليهِ السلام) حتّى بعد أن بايعَهُ الناس بعد مقتل عثمان، فخرجت عليه قريش مرّةً بقيادة عائشة في معركة الجمل، ومرّةً أُخرى بقيادة بني أُميّة في معركة صفِّين.
ثمّ لاحقتْ قريش ذريّتَه ووَلَدَه، فقتلَتْهم تارةً بالسُّمِّ والغدر، وتارةً أُخرى بالسيف، كما حدث مع الإمام الحسين (عليهِ السلام) في كربلاء.
ومن هنا نفهمُ سبب خروج أمير المؤمنين (عليهِ السلام) إلى الكوفة، وتَركِهِ مكّة والمدينة، وكذلك نفهمُ وجود شيعته في العراق واليمن، وعددٍ كبيرٍ من الموالي والعجم.
أمّا قريش، فلم تُشايعْهُ ولم تعترف بحقِّه، بل نافسته وعادته، ولم يَبقَ لهُ سوى القِلّةِ القليلة من بني هاشم.
ولذلك كانَ يَتحسّر ويقول:
«وا جَعفراه! ولا جعفرَ لي اليوم.
وا حَمزتاه! ولا حمزةَ لي اليوم» [شرح نهج البلاغة ج١١ ص١١١].
وفي المُحصّلة، فتقدم قبيلتَي عَديٍّ وتَيْمٍ لم يكن بسبب عظيم مكانتهما أو تميُّزهما بين بطون قريش، وإنّما لأنّ اختيارهما صادف هوىً في نفس قريش، التي رأت في ذلك فرصةً لإبعاد بني هاشم عن حقِّهم الطبيعيِّ في الخلافة.
وبذلك، تحقّق لقريش ما أرادت؛ إذ مهّدت الطريق لاحقاً للطُّلَقاء – الذين حاربوا الإسلام حتّى فَتحِ مكّة – ليُصبحوا خلفاء رسول الله في المستقبل القريب، وليحكموا الأمّةَ وفق مصالحهم، لا وفق ما جاء به النبيُّ (صلى الله عليه وآله).
اترك تعليق