لماذا لم يجمع النبي (صلى الله عليه وآله) القرآن في مصحف؟

السؤال: لماذا لم يأمر محمد (صلى الله عليه وآله) بجمع وتنقيط وضبط القرآن في مصحفٍ أساسيٍّ يكون هو المرجع الوحيد، إذا كان هذا القرآن نزل من السماء ويمثل دستوراً للتشريع وللحياة؟ هل كان تقصيراً منه، أو إهمالاً، أو أنه لم يهتم به أصلاً؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

يبدو أنّ هذا السؤال قد طُرح بصيغٍ مختلفةٍ في سياقاتٍ متعدّدةٍ، وقد تمّ الردّ عليه مراراً وتكراراً، إلّا أنّ بعض المشكّكين يعيدون إثارته، إمّا عن جهلٍ بطبيعة الأمور، أو عن سوء نيّةٍ في الطعن والتشكيك. ومن خلال النظر في أسلوب طرح السؤال، نرى أنّه لا ينطلق من بحثٍ موضوعيٍّ متجردٍ، بل يكشف عن موقفٍ مسبقٍ يحمل في طيّاته استهانةً واضحةً بمقام النبوّة، وصياغةً توحي بابتعاد السائل عن فهم الدين ومبادئه، بل وربّما ببعدِهِ عن أدب الحوار والمنهجيّة العلميّة في البحث.

ومع ذلك، ولإزالة اللبس وتفنيد الشبهة، نجمل الردّ في النقاط الآتية:

أوّلاً: من المتسالم عليه بين جميع المسلمين أنّ القرآن الذي بين أيدينا هو ما أنزله الله على النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله) من غير زيادةٍ أو نقيصةٍ، ولم يقع جدالٌ بين الفرق الإسلاميّة الكبرى حول ذلك، وإنْ وجدت آراءٌ شاذّةٌ أو أخبارٌ آحادٌ تزعم وقوع نقصٍ أو تحريفٍ، فإنّها لا يُعتدّ بها لأنّها تخالف إجماع الأمة. وعليه، فإنّ السؤال عن سبب عدم جمع النبيّ (صلى الله عليه وآله) للقرآن في مصدرٍ واحدٍ يكون مرجعاً لجميع المسلمين لا معنى له؛ لأنّ الواقع يشهد بأنّ القرآن الموجود اليوم هو المرجع الوحيد للمسلمين جميعاً، ولم يكن هناك في أيّ مرحلةٍ من التاريخ الإسلاميّ خلافٌ بين المسلمين في أصل القرآن أو تعدّد نسخه، ممّا يجعل هذا

ثانيًا: هذه الشبهة قائمةٌ على تصوّرٍ خاطئٍ بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يهتم بجمع القرآن، وهذا غير صحيحٍ؛ إذ إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان يأمر بكتابته فور نزوله، وكان له كتّابٌ للوحي يدوّنونه على الرقاع والعسب وسعف النخيل، ممّا يعني أنّ التدوين لم يكن مهملاً أو مؤجّلاً.

ثالثًا: هناك اختلافٌ بين المذاهب الإسلاميّة في مسألة وقت جمع القرآن، حيث يذهب جمهور أهل السنة إلى أنّ الجمع تمّ في عهد الخلفاء، بينما يرى كثيرٌ من الشيعة أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قد جمع القرآن بنفسه وأقرّه بصورته النهائيّة قبل وفاته. وهذا الاختلاف لا يؤثّر في حقيقةِ أنّ القرآن الذي يتعبّد به المسلمون اليوم هو نفسه الذي نزل على النبيّ (صلى الله عليه وآله) بلا تغييرٍ.

رابعًا: بالنسبة لروايات جمع القرآن في عهد الخلفاء، فقد ناقشها السيّد الخوئيّ في كتابه "البيان في تفسير القرآن"، وأثبت أنّها متناقضةٌ وغير موثوقةٍ، ممّا يجعلها غير صالحةٍ للاستدلال بها؛ إذ تزعم هذه الروايات أنّ القرآن لم يكن مجموعاً في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وأنّ الخلفاء اضطرّوا إلى جمعه لاحقاً خوفاً من ضياعه بعد مقتل عددٍ من الحفظة في المعارك، خصوصاً في واقعة بئر معونة وحرب اليمامة. إلّا أنّ هذه الروايات تتضارب في تحديد من قام بجمعه، فتارةً يُنسب الجمع إلى أبي بكرٍ بأمرٍ من عمرٍ، وأخرى يُقال إنّه تمّ في عهد عثمانٍ، كما تختلف حول طريقة الجمع، ممّا يفقدها قيمتها التاريخيّة. وللوقوف على تفاصيل هذه التناقضات، يمكن الرجوع إلى ما كتبه السيّد الخوئيّ في تفسيره "البيان".

خامسًا: لم يكن العرب في ذلك الزمن بحاجةٍ إلى تنقيطٍ أو تشكيلٍ للقرآن؛ لأنّهم كانوا يتقنون القراءة بالسليقة، ومع توسّع الدولة الإسلاميّة ودخول غير العرب في الإسلام، نشأت الحاجة إلى وضع النقاط والحركات، وهو ما تمّ لاحقاً دون أيّ تغييرٍ في النصّ القرآنيّ نفسه.

وفي المحصّلة، النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله) لم يهمل جمع القرآن، بل قام بجمعه بنفسه، وحرص على حفظه في الصدور والسطور معًا، وكان لديه كتّابٌ للوحي يسجلونه أوّلاً بأوّل وفق الترتيب الذي كان يأمر به. إلّا أنّه لم يجمعه في مصحفٍ واحدٍ في أثناء حياته؛ لأنّ الوحي كان مستمرّاً بالنزول حتّى آخر لحظات عمره الشريف. وبعد وفاته، حُفظ القرآن كما أنزله الله وبالطريقة التي تركه رسول الله (صلى الله عليه وآله). أمّا الادّعاء بأنّه لم يهتم بجمعه، فهو مغالطةٌ ناشئةٌ عن عدم فهمٍ لطبيعة النقل والتدوين في ذلك الزمن، حيث كان التوثيق يعتمد على الكتابة بشكلٍ أساسيٍّ من خلال كتّاب الوحي الذين سجلوا القرآن فور نزوله، إلى جانب الحفظ الجماعيّ المتواتر الذي عزّز صيانته، ممّا وفّر أعلى درجات الحماية للنصّ القرآنيّ.