ما هي الضرورة العقلية الداعية لوجود الأنبياء ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الإجابةُ الأوليّةُ والتي لا تحتاجُ إلى بذلِ المزيدِ منَ الجهدِ العقليّ، هيَ أنَّ العقلَ لا يتساءلُ عَن ضرورةِ الأنبياءِ والرّسولِ إلّا بعدَ تسليمِه بوجودِ اللهِ تعالى، فالمُلحدُ لا يمكنُ أن يشغلَ عقله بهذا السّؤالِ طالما لا يؤمنُ بالمُرسلِ فكيفَ يبحثُ عَن رسوله؟ وعليهِ مَن يؤمنُ بأنّهُ جاءَ إلى الوجودِ بفعلِ إرادةٍ غيرِ إرادتِه، لابدَّ أن يؤمنَ أيضاً بوجودِ رسالةٍ وهدفٍ مِن هذهِ الخلقةِ بحسبِ ما تُمليهِ أبجديّاتُ التّفكيرِ المنطقي، وهذا لا يمكنُ إلّا ضمنَ ثلاثِ خياراتٍ بحسبِ الحصرِ العقليّ، الأوّلُ: أن يخاطبَ اللهُ خلقَه بشكلٍ مُباشرٍ. والثّاني: أن يتمكّنَ الخلقُ جميعاً منَ التّواصلِ المباشرِ معهُ، والثّالث: أن يكونَ هناكَ وسيطٌ بينَ اللهِ وخلقِه هوَ الذي يُبلّغُ رسالتَه للجميعِ. وبعيداً عنِ الموانعِ العقليّةِ التي تمنعُ الخيارَ الأوّلَ والثاني، فإنَّ الخيارَ الأقربَ للعقلِ هوَ الخيارُ الثّالثُ، وبذلكَ تثبتُ أهميّةُ الرّسولِ والرّسالة.
وللتّفصيلِ في الأدلّةِ العقليّةِ يمكنُنا تناولُها مِن عدّةِ وجوهٍ تشملُ الجانبَ الوجوديَّ أي البدايةَ، والجانبَ التّشريعيّ أي المسؤوليّةَ الحياتيّةَ، والغايةَ النّهائيّةَ أي المصيرَ الأبديّ للإنسان.
ففي الجانبِ الوجوديّ الإنسانُ لم يكُن ثمَّ كانَ، وبالتّالي جاءَ إلى الوجودِ بشكلٍ طارئٍ وعرضيّ، وعندَما يكونُ وجودُه غيرَ أصيلٍ لابدَّ مِن حِكمةٍ تستوجبُ وجودَه، والحِكمةُ لا يمكنُ أن يوجدَها الإنسانُ لنفسِه لكونِها بالضّرورةِ سابقةً لوجودِه، فتحديدُ الغايةِ والهدفِ سابقٌ بالطّبعِ لتحقّقِ العملِ في الخارجِ، ممّا يدفعُ الإنسانَ بشكلٍ دائمٍ للتّعرّفِ على تلكَ الحِكمةِ والوقوفِ على تلكَ الغايةِ التي أخرجَتهُ منَ العدمِ إلى الوجودِ، وإحساسُ الإنسانِ بالحاجةِ وإضطرارُه للخالقِ يجعله في حالةٍ منَ الإرتباطِ الدّائمِ بمَن أوجدَه، فالمَخلوقُ مُعلّقٌ دوماً بخالقِه، والموجودُ مُحتاجٌ إلى مُوجدِه، وهذهِ العلاقةُ لا تُفهمُ إلّا في إطارِ المالكِ والمملوكِ وبعبارةٍ أكثرَ وضوحاً في إطارِ العبدِ والمعبودِ، وبالتّالي فلسفةُ الإيجادِ والخلقِ تقودُ الإنسانَ إلى الإعترافِ بكونِه عبداً في حالةٍ منَ البحثِ الدّائمِ عَن معبودِه، والإهتداءُ لذلكَ المعبودِ مُعلّقٌ فقَط بتدخّلِ المعبودِ وبيانِ الطّريقِ المُوصلِ إليه، ولا يمكنُ للإنسانِ إفتراضُ ما يمكنُ أن يكونَ طريقاً لأنّه لا يكونُ إلّا تخرّصاً وجهلاً، ومِن هُنا أوجبَ اللهُ على نفسِه أن يهدي خلقَه إليه عبرَ إرسالِ الأنبياءِ والرّسلِ وإلّا كانَ الإنسانُ في حالةٍ منَ التّيهِ والحيرةِ لا يعرفُ مِن أينَ أتى ولماذا أتى.
وهذا الجانبُ الوجوديُّ يقودُنا إلى المسؤوليّةِ الحياتيّةِ المُعلّقةِ بالإنسانِ، فإذا كانَ لوجودِه غايةٌ ولحياتِه هدفٌ لابدَّ حينَها مِن وجودِ وسائلَ وتشريعاتٍ وقوانينَ تحكمُ مسيرتَه نحوَ تلكَ الغاياتِ، وبخاصّةٍ أنَّ الإنسانَ لم يُجبَر على سلوكِ طريقٍ مُحدّدٍ وإنّما جُعلَ مُخيّراً في إختيارِ السّبلِ التي يرى فيها غاياتِه، ومِن هُنا ليسَ كافياً أن يهتدي الإنسانُ إلى وجودِ خالقٍ، وإنّما لابدَّ أن يهتدي إلى الطّرقِ المُوصلةِ إليهِ وإلّا ضلَّ الطّريقَ وتاهَ بعيداً عنهُ، والعبوديّةُ على مستوى التّكوينِ التي تحقّقَت مِن طبيعةِ العلاقةِ بينَ الخالقِ والمخلوقِ لابدَّ أن تُرافقَها عبوديّةٌ على مُستوى الإرادةِ الإنسانيّةِ، صحيحٌ أنَّ الإنسانَ حرٌّ في أن يعبدَ اللهَ بإرادتِه أو لا يعبدَه، ولكنَّهُ مسؤولٌ بحُكمِ كونِه مخلوقاً، فالعبادةُ على مُستوى التّشريعِ ليسَت إلّا إقراراً بكونِه مخلوقاً، وهذهِ الحقيقةُ هيَ بدايةُ الطّريقِ لسعي الإنسانِ إراديّاً نحوَ اللهِ الخالقِ، ومِن هُنا كانَ واجباً على اللهِ بلُطفِه أن يُبيّنَ للإنسانِ طريقَ عبادتِه ويهديهِ إلى تشريعاتِه، فكانَ الأنبياءُ والرّسلُ هُم الذينَ يحملونَ للخلقِ تعاليمَ اللهِ وتشريعاته.
ولا تكتملُ الصّورةُ بالنّسبةِ للإنسانِ ما لم يقِف على الغاياتِ النّهائيّةِ وما يكونُ عليه مصيرُه الأبديّ، ومنَ الواضحِ أنَّ الإنسانَ وبحسبِ مقدراتِه العقليّةِ لا يمكنُه كشفُ الغيبِ والوقوفُ على المصيرِ الذي ينتظرُه، وبخاصّةٍ أنّه يعلمُ يقيناً أنّهُ ليسَ دائماً في هذهِ الحياةِ، فالسّؤالُ الضّروريّ الذي يؤرّقُ الإنسانَ هوَ ما بعدَ الموتِ، ماذا يكونُ مصيرُه؟ ولبيانِ ذلكَ لابدَّ مِن وجودِ الأنبياءِ والرّسلِ حتّى يشرحوا تفصيلاً للإنسانِ ما يكونُ عليهِ مصيرُه، والخطواتِ التي يتّبعُها والتي يجبُ أن يتجنّبَها حتّى يحظى بحياةٍ هنيّةٍ بعدَ الموتِ. قالَ تعالى: (رُسُلاً مُبشِّرينَ ومُنذِرِينَ لِئَلاَّ يكونَ للناسِ على الله حُجّةٌ بعدَ الرُّسُلِ) وقالَ تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولاً)
وفي المُحصّلةِ إنَّ ضرورةَ الأنبياءِ للكشفِ عنِ الأسئلةِ الكُبرى التي رافقَت الإنسانَ منذُ وجودِه وإلى اليومِ ولم تتمكّن كلُّ الفلسفاتِ البشريّةِ مِن تقديمِ إجاباتٍ لها، ولولا الأنبياء لما عرفَ الإنسانُ مِن أينَ أتى ولِماذا أتى وما هوَ المصيرُ الذي ينتظرُه، بإجاباتٍ واضحةٍ ومُفصّلةٍ ترسمُ للإنسانِ رؤيةً كونيّةً ورؤيةً تشريعيّةً ورؤيةً تفصّل مصيرَه الأبديّ، وبالشّكلِ الذي ينسجمُ معَ العقلِ ويتطابقُ معَ الفطرةِ والوجدان.
اترك تعليق