مفاهيمُ الدّولةِ المدنيّةِ والقيمُ الإسلاميّة 

السلام عليكم .. في ظل مفاهيم المدنية والعلمانية كيف نستطيع فهم حدود حرية المجتمع العراقي في انتاج انماط السلوك التي قد تنظم بقوانين تحميها وتكون مخالفة للعقيدة او الشريعة مع الترويج والقبول لفكرة ان العلمانية قادمة وهو ما نلمس بواكيره اليوم في صور وانماط اجتماعية مختلفة

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :  

قبلَ الإجابةِ لابدَّ منَ الإشارةِ إلى مقدّمةٍ نفهمُ مِن خلالِها خلفيّاتِ النّزاعِ الذي تعيشه المُجتمعاتُ المُسلمةُ بينَ هويّتِها الإسلاميّةِ وبينَ الخياراتِ الحديثةِ للدّولةِ، فما يشيرُ إليه السّائلُ مِن إشكاليّةٍ ليسَت خاصّةً بالمُجتمعِ العراقيّ وإنّما هيَ إشكاليّةٌ مُمتدّةٌ عبرَ معظمِ المُجتمعاتِ الإسلاميّةِ، والسّببُ في ذلكَ يعودُ إلى الإخفاقِ السّياسيّ الذي تعانيه تلكَ الدّولُ، ممّا فتحَ البابَ واسعاً أمامَ خياراتٍ سياسيّةٍ تقومُ على إستبعادِ الدّينِ وقيمِه منَ المشهدِ السّياسيّ والإجتماعي، ومنَ المُفارقاتِ أنَّ كلَّ الأنظمةِ التي ورثَت نظامَ الحكمِ بعدَ حقبةِ الإستعمارِ تقومُ على التّشبّهِ بالنّظمِ الغربيّةِ، ولم تعمَل على إيجادِ نظامِها السّياسيّ الذي يناسبُ بيئتَها وتراثَها وقيمَها وهويّتَها الإسلاميّةَ، ومعَ ذلكَ نجدُ الدّعايةَ العالميّةَ والمحلّيّةَ تعملُ على تحميلِ الإسلامِ مسؤوليّةَ كلِّ ما في العالمِ العربيّ والإسلاميّ مِن كوارثَ، بل حتّى الأحزابُ ذاتُ التّوجّهاتِ الإسلاميّةِ بعدَ الرّبيعِ العربيّ بدأت ترفعُ شعاراتِ الدّولةِ المدنيّةِ في حالةٍ منَ الإستسلامِ الواضحِ لموجةِ الخطابِ العلمانيّ، وهكذا أصبحَ الخطابُ السّياسيُّ المُتحكّمُ في المشهدِ هوَ الخطابَ العلمانيَّ الذي يعملُ وبشكلٍ مدروسٍ على تفتيتِ بُنيةِ المُجتمعِ الدّيني وإستبدالِه ببُنيةٍ علمانيّة.  

 ومنَ المُؤكّدِ أنَّ الصّورةَ غيرُ واضحةٍ ويكتنفُها الكثيرُ منَ الغموضِ، والشّارعُ العربيُّ والإسلاميّ أصبحَ في حالةٍ منَ الإضطرابِ حتّى فقدَ القُدرةَ على تحديدِ خياراتِه السّياسيّةِ والإجتماعيّةِ والإقتصاديّةِ، والذي يتحمّلُ مسؤوليّةَ ذلكَ هوَ الفوضى التي خلقَتها النُّخبُ المُتحكّمةُ في الوضعِ الثّقافيّ سواءٌ كانَت إسلاميّةً أو علمانيّةً، فلو قُمنا بمقاربةٍ لإشكاليّةِ الإسلامِ والعلمانيّةِ بشكلٍ نظريٍّ بعيداً عَن مُعطياتِ الواقعِ، لوجدنا منَ الصّعبِ تقديم خيارِ العلمانيّةِ على خيارِ الإسلامِ، فالعلمانيّةُ في مفهومِها النّظريّ تقومُ على تضخيمِ الجانبِ المادّيّ على حسابِ الجانبِ الرّوحي، والإسلامُ يقومُ أساساً على خلقِ توازنٍ بينَ الجانبينِ، وبذلكَ تصبحُ العلمانيّةُ خياراً ناقِصاً لا يكتملُ إلّا بالإسلامِ، أمّا إذا قارَبنا إشكاليّةَ الإسلامِ والعلمانيّةِ على ضوءِ التّجربةِ العمليّةِ، لتمكّنَ البعضُ مِن جمعِ الكثيرِ منَ الشواهدِ التي تثبتُ الطّابعَ السّلبيَّ لتجاربِ الحُكمِ الدّينيّة، في مقابلِ الكثير منَ الشّواهدِ النّاجحةِ للدّولِ العلمانيّةِ وبخاصّةٍ في الدّولِ الأوروبيّةِ، ويبدو أنَّ هذهِ المُقارنات هيَ التي تجعلُ الصّورةَ مشوّشةً يصعبُ معها التّمييزُ الموضوعيّ بينَ التّجربةِ الدّينيّةِ والتجربةِ العلمانيّة، والتقييمُ الموضوعيُّ والمُحايدُ يجبُ أن يقودَنا إلى القولِ: لا التّجربةُ العلمانيّةُ تمثّلُ الصّورةَ المثاليّةَ لِما يطمحُ لهُ الإنسانُ، ولا التّجاربُ الدّينيّةُ تُمثّلُ تعبيراً صادِقاً عنِ الدّينِ، ومِن هُنا نؤكّدُ على أنَّ النّقاشَ العلمانيَّ الدّينيَّ يجبُ إعادةُ طرحِه بنفسٍ نزيهٍ يبحثُ عمّا يُمثّلُ طموحاً للإنسانِ، ومنَ الخطأ البحثُ عنِ الطّموحِ الإنسانيّ ضمنَ المُقارناتِ التّنافسيّةِ لكونِها تمنعُ الإنسانَ منَ التّفكيرِ في الخياراتِ خارجَ حدودِ ما هوَ مُجرّبٌ بالفعلِ، فبالقدرِ الذي يمكنُ جمعُ شواهدَ مشوّهةٍ لتجربةِ الحكمِ الدّينيّ يمكنُ جمعُ شواهدَ أيضاً مشوّهةٍ لتجربةِ الحُكمِ العلمانيّ، وكلُّ ذلكَ يجعلنا في حالةٍ منَ الجدلِ الدّائم ِالذي لا يخدمُ المصلحةَ الإنسانيّةَ، والخيارُ العقلانيُّ يوجبُ إعادةَ الوعي لمفاهيمِنا حولَ الإنسانِ والدّينِ والدّولةِ بعيداً عنِ الإسقاطاتِ السّلبيّةِ للتّجاربِ التّاريخيّةِ، وعليهِ فإنَّ التّيّارَ الدّينيَّ والتّيّارَ العلمانيّ يجبُ أن يرتقي إلى مستوى الهمِّ الإنسانيّ والبحثِ مِن جديدٍ مِن أجلِ إعادةِ فهمِ الإنسانِ روحيّاً ومادّيّاً ومِن ثمَّ إيجادِ النّظامِ الذي يُلبّي طموحاتِه بعيداً عَن جعلِ البحثِ محصوراً بينَ الخياراتِ المُجرّبةِ، وإذا تمَّ فهمُ الإنسانِ فهماً حقيقيّاً وواقعيّاً على أنّهُ روحٌ وجسدٌ يعيشُ في الدّنيا ويتطلّعُ إلى الآخرةِ، حينَها لا يمكنُ النّظرُ إلى الدّينِ بهذهِ السّطحيّةِ المُتفشّيةِ بينَ التّيّاراتِ اللّادينيّة.

وما يسألُ عنهُ السّائلُ مِن إشكاليّةِ التّوافقِ بينَ قيمِ الدّينِ وبينَ قوانينِ الدّولةِ المدنيّةِ ليسَ إلّا عرضاً متوقّعاً لِما يعانيهُ مُجملُ الواقعِ السّياسيّ في البلدانِ الإسلاميّةِ، وكلُّ المعالجاتِ التي تتوجّهُ للأعراضِ دونَ الأسبابِ الحقيقيّةِ هيَ معالجاتٌ إرتجاليّةٌ تُحرّكُها الحميّةُ الدّينيّةُ، وهيَ بدورِها لا تؤدّي إلّا إلى مزيدٍ منَ التّصادمِ بينَ تيّاراتِ الأمّةِ، ممّا يؤدّي إلى إتّساعِ الهوّةِ وزيادةِ الشّرخِ الإجتماعيّ، ومِن هُنا فإنَّ الحلولَ الجذريّةَ تستوجبُ معالجاتٍ تمتدُّ إلى البُنيةِ الدّينيّةِ والسّياسيّةِ والثقافيّةِ، فعلى الخطابِ الإسلاميّ أن يرتقي إلى مستوى الهمومِ الحقيقيّةِ للأمّةِ حتّى لا يتمَّ عزله ومِن ثمَّ تصفيته، وعلى الخطابِ العلمانيّ أن يبني خياراتِه السّياسيّةَ بما ينسجمُ معَ الإمكاناتِ المحليّةِ بعيداً عَن إسقاطِ نماذجَ جاهزةٍ فُصّلَت أساساً لتتناسبَ معَ مجتمعاتٍ أخرى، وبناءُ أيّ دولةٍ لا يكونُ إلّا مِن خلالِ مراعاةِ الإرثِ التّاريخيّ والحضاريّ لها، وإهمالُ ذلكَ لا يؤدّي إلّا إلى خلقِ صورٍ مُشوّهةٍ كما هوَ الحالُ في عالمِنا الإسلاميّ، بحيثُ ضيّعَت أنظمتُنا السّياسيّةُ قيمَنا الدّينيّةَ كما لم توجِد لنا دولاً حديثةً، وكما يقالُ ضيّعَت المَشيَتين.  

فالسّؤالُ عَن مدى حُرّيّةِ المُجتمعِ في خلقِ أنماطٍ سلوكيّةٍ لا يمكنُ تحديدُه بقرار؛ لأنَّ حركةَ المُجتمعِ وخياراتِه السّلوكيّةَ رهينةٌ بالمُتغيّراتِ التي لا يمكنُ التّحكّمُ فيها ما لم يتمَّ التّحكّمُ في المشهدِ العامِّ، ولا يمكنُ جبرُ المُجتمعاتِ على الحفاظِ على سلوكِها الإسلاميّ إذا كانَ الإسلامُ غيرَ مُتحكّمٍ في المشهدِ، ومِن هُنا تتعقّدُ المُعادلةُ وتتشابكُ الخيوطُ المُؤثّرةُ فيه، وحتّى يتمكّنَ الإسلامُ مِن فرضِ خياراتِه على المُجتمعِ لا بدَّ أن يكونَ خطابُه مُقنِعاً لهذا المُجتمعِ، وهذا ما يجبُ أن يشتغلَ عليهِ المُهتمّونَ بكلِّ جدٍّ وإخلاصٍ وتجرّدٍ، مُضافاً للموضوعيّةِ العلميّةِ التي تخاطبُ العقولَ وتستثيرُ القيمَ الفطريّةَ الكامنةَ في الإنسانِ بعيداً عنِ الخطاباتِ العاطفيّةِ التي لا تستهدفُ غيرَ تحريكِ الغرائز الدّينيّةِ ومن دونِ أيّ رؤيةٍ واضحةٍ ومدروسة.