(عارفاً بحقّه) في ضوء الرواية، ووصايا المرجعيّة
تضمّنت الكثير من الأحاديث الواردة بشأن زيارة الإمام الحسين(عليه السلام) تقييد الجزاء للزائر، وترتّب الأثر على الزيارة من غفران الذنوب، ودخول الجنّة.. بقيد تمثّل بعبارة " عارفاً بحقه"، وقد أخرج هذه الروايات الشيخ الصدوق في ثواب الأعمال، تحت عنوان: ثواب من زار قبر الحسين(ع). ومن قبله الكليني في الكافي في باب: فضل زيارة أبي عبد الله الحسين(عليه السلام)، وحسناً صنع ابن قولويه لمّا وضعها جزءاً من عنوان الباب في كتابه الجليل: كامل الزيارات، فكان العنوان: ثواب من زار الحسين(ع) عارفاً بحقّه. وخرّج فيه سبعة عشر حديثاً !
بالرغم من أنّ هذا التقييد ليس خاصاً بزيارة سيد الشهداء، بل ورد أيضاً في زيارة غيره من الأئمة، فوردتْ في زيارة أمير المؤمنين(عليه السلام)، وكذا في زيارة الإمام الرضا (عليه السلام) أنّ من زاره عارفاً بحقه وجبت له الجنّة.
تتبعتُ معظم_إن لم أقل كلّ- ما قيل في تفسير هذا القيد، وبيان المقصود منه، فوجدتُ معظمها: إمّا تحليلات لا تستند إلى روايات، وإنّما إلى كلمات أهل اللغة، أو بيانات لا تخلو من مناقشة عدم الإنسجام مع أصول وقواعد الطائفة الحقّة، وعقائد الفرقة المحقّة - وإن كان بعضها حسناً في نفسه- لكنّه وكما قلتُ: لا يستند إلى بيان روائي خالٍ من المناقشة، بالرغم من أهميّة الموضوع، وكثرة ما ورد فيه مما يستبعد معه عادة عدم تعرّض الأصحاب له، ومراجعة الأئمة بشأنه؛ لذا قمتُ بمراجعة مرة أخرى للأخبار، ودققتُ فيها أكثر فظفرتُ بجملة في حديث فسّرتْ لي العبارة، وشرحت المقصود، وما خلا ذلك فهو هامش عليها.
قبل البيان، ينبغي التنبيه على أمرٍ مهم، وهو أن هذا القيد ليس قيداً توضيحياً، بل هو احترازي، يشهد على ذلك، علاوة على أنّه مقتضى قاعدة احترازيّة القيود، فأنّه قد جاء مكرّراً وبكثرة كاثرة مع تعدد في الصياغة والأسلوب، ومنها مجيئه بأسلوب الشرط: ..ما يثاب به زائر الحسين، إذا عرف بحقه و حرمته و ولايته أن يغفر له..(الكافي،ج4،ص582).
نعود لصلب الموضوع: ما المقصود بقيد" عارفاً بحقه" حسبما يستفاد من الروايات؟
أقول: روى ابن قولويه بإسناد متصل قوي عن الإمام الصادق قال: من زار الحسين(عليه السلام) عارفاً بحقه يأتمّ به، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
محور القضيّة، وجوهرها- فيما أرى- يتمركز في كلمة " يأتم به" عقيب العبارة محل البحث مباشرة" عارفاً بحقه" ما يعني:
أولاً- أنّها شرح لها ، وبيان للمقصود منها، فقد جاءت بغير حرف عطف، فلو قال: عارفاً بحقه، و يأتم به لاحتملت الاختلاف والمغايرة بين المعنيين، لكنّها جاءت ملتصقة بها وعقيبها مباشرة، وبهذا يلغى احتمال المغايرة، وإذن، فجملة: يأتم به هي جملة شارحة لقيد: عارفاً بحقّه.
ثانياً- والإئتمام بالإمام يقتضي بالضرورة الاعتقاد بإمامته، والعلم بحجيته، وأنّه إمام مفترض الطاعة، لكن هذا الاعتقاد وإن كان ركناً ركيناً في معرفة حقه، وجزءاً أصيلاً منها، بل هي أقوم ركن، وأهم جزء من أجزاء معرفة حقه؛ ولذا اكتفت بها بعض الأخبار فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) مفسراً العبارة في حق الإمام الرضا، قائلاً: يعلم أنه مفترض الطاعة غريب شهيد. (أمالي الصدوق ص 121)، وفي خبر آخر جاءت على لسان أحد أصحاب الأئمة(محمد بن سليمان) مخاطباً الإمام الجواد: ..عارفا بحقك يعلم أنك حجة الله على خلقه وبابه الذي يؤتى منه..(الكافي،ج4،ص584) بيد أنّها ليست هي المعنى المنشود، ولا تمام المقصود بـ"عارفاً بحقه"
ثالثاً- فإنّ ظاهر هذه اللفظة "يأتمُّ به" هو الاتّباع والاقتداء العملي، علاوة على الاعتقاد القلبي، ما يعني أنّ عبارة "عارفاً بحقّه" تتقوم بركنين: (1-الاعتقاد. 2-والاتباع)، ومن ثمّ فلا يكفي محض الاعتقاد، ومجرّد الزيارة في ترتّب الأثر، من غفران الذنوب جميعاً، ودخول الجنّة...هذا هو الذي يقتضيه المسلك الحقّ في أنّ العمل جزءٌ من الإيمان، وأنّ الإيمان قول مقول، وعمل معمول، وعرفان العقول، أو كما في الحديث المعروف أنّ الإيمان: تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان.
رابعاً-أضف لما مرّ، فإنّ من الشواهد المؤيدة للمعنى المختار آنفاً هو ما رواه ابن قولويه عن الرضا(عليه السلام) أنّه قال: من زار الحسين بن علي(عليه السلام) عارفا بحقه كان من محدّثي الله فوق عرشه، ثمّ استشهد الإمام الرضا بقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ.(كامل الزيارات،ص141). وإنّما يتقبّل الله من المتقين.
أخيراً: يصبّ جميع ما تقدّم في نفس الإتجاه الذي يوصي به المرجع الأعلى الخطباء والمبلغين، فمما جاء عنه في هذا السياق قوله في الحكمة الرابعة:تؤكد وصايا أئمة أهل البيت(عليهم السلام) إلى أتباعهم على الالتزام العمليّ بتعاليم دينهم.. [وأضاف السيد المرجع مستشهداً بحديث] جابر الجعفيّ عن أبي جعفر (عليه السلام): "يا جابر، أيكتفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت، فوالله ما شيعتنا إلّا من اتّقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون يا جابر إلّا بالتواضع، والتخشّع، والأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم، والصلاة، والبرّ بالوالدين، والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفّ الألسن عن الناس إلّا من خير، وكانوا أمناء في عشائرهم في الأشياء". الكافي ج:2 ص:74. (انظر-وصايا المرجعيّة الدينيّة العليا للخطباء والمبلّغين بمناسبة قرب حلول شهر المحرّم الحرام عام 1441)ـ
اترك تعليق