ما صحّةُ أنَّ الخليفةَ الثاني لم يقسِم بالسويّةِ وكانَ يفاضلُ بينَ الناس؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : منَ المعلومِ أنَّ عُمرَ بنَ الخطّاب هوَ أوّلُ مَن أسّسَ ديواناً خاصّاً ببيتِ المالِ سُجّلت فيهِ الأسماءُ وحُدّدَت فيهِ العطاءات، وقد اجتهدَ عُمر برأيه في تحديدِ ما يتمُّ دفعُه لكلِّ واحد، ففي كتابِ فتوحِ البلدانِ للواقدي: قالَ: لما أجمعَ عُمر على تدوينِ الديوان، وذلكَ في المُحرّم سنةَ عشرين، بدأ ببني هاشمٍ في الدعوة، ثمَّ الأقربُ فالأقرب لرسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلم. فكانَ القومُ إذا استووا في القرابةِ قدّمَ أهلَ السابقةِ ثمَّ انتهى إلى الأنصارِ فقالوا: بمَن نبدأ؟ فقالَ: ابدؤوا برهطِ سعدٍ بنِ معاذ الأشهلي منَ الأوس، ثمَّ الأقربُ فالأقرب لسعد. وفرضَ عُمرُ لأهلِ الديوان، ففضّلَ أهلَ السّوابقِ والمشاهدِ في الفرائض. وكانَ أبو بكرٍ قد ساوى بينَ الناسِ في القسم. فقيلَ لعُمر في ذلكَ. فقالَ: لا أجعلُ مَن قاتلَ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم كمَن قاتلَ معه. فبدأ بمَن شهدَ بدراً منَ المُهاجرينَ والأنصار، لكلِّ رجلٍ منهم خمسةُ آلافِ درهم في كلِّ سنة، حليفُهم ومولاهم معهم بالسواء. وفرضَ لمَن كانَ له إسلامٌ كإسلامِ أهلِ بدر، ومِن مُهاجرةِ الحبشةِ ممَّن شهدَ أحداً، أربعةَ آلافِ درهم، لكلِّ رجلٍ. وفرضَ لأبناءِ البدريّينَ ألفينِ ألفين، إلّا حسناً وحُسيناً فإنّه ألحقَهما بفريضةِ أبيهما لقرابتِهما برسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلم، ففرضَ لكلِّ واحدٍ منهما خمسةَ آلاف. وفرضَ للعبّاسِ بنِ عبدِ المُطّلب خمسةَ آلاف لقرابتِه برسولِ الله صلّى اللهُ عليه وسلم. وقالَ بعضُهم: فرضَ له سبعةَ آلافِ درهم. وقالَ سائرُهم: لم يُفضّل أحداً على أهلِ بدر إلّا أزواجَ النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وسلم، فإنّه فرضَ لهنَّ اثني عشرَ ألفاً إثني عشرَ ألفاً. وألحقَ بهنَّ جويريّة بنتَ الحارثِ وصفيّةَ بنتَ حيى بنِ أخطب. وفرضَ لمَن هاجرَ قبلَ الفتحِ لكلِّ رجلٍ منهم ثلاثةَ آلافِ درهم. وفرضَ لمُسلمةِ الفتحِ لكلِّ رجلٍ منهم ألفين. وفرضَ لغلمانٍ أحداثٍ مِن أبناءِ المُهاجرين كفرائضِ مُسلمةِ الفتح. وفرضَ لعُمرَ بنِ أبي سلمةَ أربعةَ آلاف. فقالَ محمّدٌ بنُ عبدِ الله ابن جحش: لمَ تفضّلَ عمرُ علينا؟ فقد هاجرَ آباؤنا وشهدوا بدراً. فقالَ عمر: أفضّلهُ لمكانِه منَ النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وسلم. فليأتِ الذي يستغيثُ بأمٍّ مثلِ أمّ سلمة أغثه. وفرضَ لأسامةَ بنِ زيد أربعةَ آلاف. فقالَ عبدُ اللهِ بنُ عمر: فرضتَ لي في ثلاثةِ آلاف وفرضتَ لأسامةَ في أربعةِ آلاف. وقد شهدتُ ما لم يشهَد أسامة. فقالَ عُمر: زدتُه لأنّه كانَ أحبَّ إلى رسولِ الله صلّى اللهُ عليهِ وسلم منكَ، وكانَ أبوهُ أحبَّ إلى رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلم مِن أبيك. ثمَّ فرضَ للناسِ على منازلِهم وقراءتِهم القرآنَ وجهادِهم. ثمَّ جعلَ مَن بقيةِ الناسِ باباً واحداً. فألحقَ مَن جاءَه منَ المُسلمينَ بالمدينةِ في خمسةٍ وعشرينَ ديناراً لكلِّ رجل. وفرضَ لآخرينَ معهم. وفرضَ لأهلِ اليمنِ وقيسٍ بالشامِ والعراقِ لكلِّ رجلٍ ما بينَ ألفين إلى ألف إلى تسعمائة إلى خمسمائة إلى ثلاثمائة، ولم يُنقِص أحداً عن ثلاثمائة. وقالَ: لئِن كثرَ المالُ لأفرضنَّ لكلِّ رجلٍ أربعةَ آلافِ درهم ألفاً لسفره، وألفاً لسلاحِه، وألفاً يخلفُه لأهلِه، وألفاً لفرسِه ونعلِه. وفرضَ للنساءِ المُهاجرات: فرضَ لصفيّة بنتِ عبدِ المُطلب ستّةَ آلافِ درهم، ولأسماءَ بنتِ عميس ألفَ درهم، ولأمّ كلثوم بنتِ عقبة ألفَ درهم، ولأمِّ عبدِ الله بنِ مسعود ألفَ درهم..) ويؤكّدُ ذلكَ وجودَ امتيازاتٍ للبعضِ دونَ البعضِ الآخر، وعندَما استلمَ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام) عمدَ إلى مساواةِ الجميعِ في العطاءِ مِن بيتِ المال، الأمرُ الذي حرّكَ عليهِ بعضَ الاعتراضاتِ والعداوات، فأوّلُ خطابٍ خطبَه أميرُ المؤمنينَ بعدَ أن بايعَه الناسُ جاءَ فيه: ألا لا يقولنَّ رجالٌ منكم قد غمرَتهم الدنيا فاتّخذوا العقارَ وفجّروا الأنهارَ وركبوا الخيولَ الفارهة، واتّخذوا الوصائفَ الروقةَ فصارَ ذلكَ عليهم عاراً وشناراً إذا منعتُهم ما كانوا يخوضونَ فيه، وأصرتُهم إلى حقوقِهم التي يعملونَ، فينقمونَ ذلكَ ويستنكرونَ ويقولون: حرمنا ابنُ أبي طالب حقوقنا!! ألا وأيّما رجلٌ استجابَ للهِ وللرّسول، فصدّقَ ملّتنا، ودخلَ في ديننِا واستقبلَ قبلتَنا فقد استوجبَ حقوقَ الإسلامِ وحدودَه، فأنتم عبادُ اللهِ والمالُ مالُ الله، يُقسَمُ بينَكم بالسويّة، لا فضلَ لأحدٍ على أحد، وللمُتّقينَ غداً أحسنُ الجزاءِ وفضلُ الثواب. ثمَّ قال: وإذا كانَ غدٌ ـ إن شاءَ الله ـ فاغدوا علينا، فإنّ عندَنا مالاً نقسمُه فيكم، ولا يتخلفنَّ أحدٌ منكم، عربيٌّ ولا عجمي، كانَ مِن أهلِ العطاءِ أو لموقد احتجَّ طلحةُ والزبيرُ ومَن اعترضَ معهم على أنّهم منَ السابقينَ والناصرينَ للإسلامِ بسيوفِهم، فكيفَ يساوى بينَهم وبينَ مَن هُم دونَهم في العطاء؟ فخطبَ أميرُ المؤمنينَ فيهم قائلاً: يا معشرَ المُهاجرين والأنصار: أتمنّونَ على اللهِ ورسولِه بإسلامِكم؟ بل اللهُ يمنُّ عليكُم أن هداكُم للإيمان إن كُنتم صادقين، أنا أبو الحسنِ ـ وكان يقولها إذا غضبَ ـ ألا إنَّ هذهِ الدنيا التي أصبحتُم تتمنّونها، وترغبونَ فيها، وأصبحَت تغضبُكم وترضيكم ليسَت بدارِكم ولا منزلِكم الذي خلقتُم له، فلا تغرنّكم، وأمّا هذا الفيءُ (المال) فليسَ لأحدٍ أثرة. فقد فرغَ اللهُ مِن قسمتِه فهوَ مالُ الله، وأنتُم عبادُ اللهِ المُسلمون وهذا كتابُ الله، بهِ أقررنا وله أسلمنا، وعهدُ نبيّنا بينَ أظهرنا فمَن لم يرضَ فليتولَّ كيفَ شاء، فإنَّ العاملَ بطاعةِ الله الحاكمَ بحُكم الله لا وحشةَ عليه! وقد شكّلَ هذا الموقفُ الحاسمُ مِن أميرِ المؤمنينَ صدمةً لكلِّ مَن تعوّدَ على التمييزِ في العطاءِ، وقد حاولَ طلحةُ والزبيرُ أن يستعطفا أميرَ المؤمنين حيثُ قالا له: يا أميرَ المؤمنين: قد عرفتَ حالَ هذهِ الأزمنةِ وما نحنُ فيه منَ الشدّة، وقد جئناكَ لتدفعَ إلينا شيئاً نصلحُ به أحوالنا ونقضي به حقوقاً علينا. فقالَ أميرُ المؤمنين: قد عرفتُما مالي بـ(ينبع) فإن شئتُما كتبتُ لكما منهُ ما تيسّر. فقالا: لا حاجةَ لنا في مالِك بـ(ينبع) فقالَ أميرُ المؤمنين: ما أصنعُ؟ فقالا: أعطِنا مِن بيتِ المالِ شيئاً لنا فيه كفايةٌ. فقالَ أميرُ المؤمنين: سبحانَ الله وأيّ يدٍ لي في بيتِ مالِ المسلمين؟ وأنا خازنُهم أمينٌ لهم، فإن شئتُما رقيتما المنبرَ وسألتما ذلكَ منَ الناسِ ما شئتما فإن أذنوا فيهِ فعلت، وأنّى لي بذلكَ وهو لكافّةِ المُسلمين شاهدِهم وغائبهم؟ ولكنّي أبدي لكُما عذراً، فقالا: ما كنّا بالذي نكلّفكَ ذلك، ولو كلّفناكَ لما أجابَك المسلمون. فقالَ أميرُ المؤمنينَ: فما أصنع؟ فقالا: سمِعنا ما عندك. ثمَّ خرجَ الرجلانِ مِن دارِ أميرِ المؤمنين، وقد يئسا مِن بيتِ المال، فجعلا يفكّرانِ في كيفيّة الخروجِ إلى مكّة، والالتحاقِ بعائشة، إلى أن صارَ رأيهما على هذا وجاءا إلى أميرِ المؤمنين (عليهِ السلام) وقتَ خلوتِه وقالا: قد جئناكَ نستأذنُك للخروجِ في العُمرة، لأنّا بعيدا العهدِ بها. فأذَن لنا فيها. فنظرَ أميرُ المؤمنينَ في وجهيهما، وقرأ الغدرَ مِن فلتاتِ لسانِهما ودورانِ عيونِهما، وقد احمرَّ وجهُه ولاحَ الغضبُ فيهِ فقال: واللهِ ما تريدانِ العُمرة، ولكنّكما تريدانَ الغدرة، وإنّكما تريدانَ البصرة. فقالَ الرجلانِ: اللهمَّ غفراً، ما نريدُ إلّا العُمرة. فقالَ أميرُ المؤمنين: احلفا لي باللهِ العظيم أنّكما لا تفسدانِ عليَّ أمرَ المسلمين، ولا تنكثانِ لي بيعةً ولا تسعيانِ في فتنة. فحلفا بالأيمانِ المؤكّدةِ فيما استحلفَهما عليهِ مِن ذلك فخرجَ الرجلانِ مِن عندِه، فلقيهما ابنُ عبّاس سائلاً: أذنَ لكُما أمير المؤمنين؟ فقالا: نعم. ودخلَ ابنُ عبّاس على الإمامِ فابتدأ الإمامُ (عليهِ السلام) قائلاً: يا ابنَ عباس: أعندكَ الخبر؟ فقالَ ابنُ عبّاس: قد رأيتُ طلحةَ والزبير. فقالَ أميرُ المؤمنين: إنّهما استأذنا في العُمرة، فأذنتُ لهما بعدَ أن أوثقتُ منهما بالأيمانِ أن لا يغدُرا ولا ينكثا ولا يُحدثا فساداً ـ وبعدَ هنيئةٍ ـ قالَ: واللهِ يا بنَ عباس: إنّي لأعلمُ أنّهما ما قصدا إلّا الفتنة، فكأنّي بهما وقد صارا إلى مكّةَ ليسعيا إلى حربي، فإنَّ يعلى بنَ منبه الخائنُ الفاجرُ قد حملَ أموالَ العراقِ وفارس لينفقَ ذلك، وسيفسدُ هذانِ الرجلانِ عليَّ أمري، ويسفكانِ دماءَ شيعتي وأنصاري، فقالَ ابنُ عبّاس: إذا كانَ ذلكَ عندكَ يا أمير المؤمنين معلوماً، فلمَ أذنتَ لهما؟ هلّا حبستَهما، وأوثقتهما بالحديد، وكفيتَ المؤمنينَ شرّهما؟ فقالَ أميرُ المؤمنين مُتعجّباً: يا ابنَ عبّاس أتأمرُني بالظلمِ أبدأ؟ وبالسيّئةِ قبلَ الحسنة؟ وأعاقبُ على الظنّةِ والتُهمة؟ وأؤاخذُ بالفعلِ قبلَ كونه؟ كلّا والله، لا عدلتُ عمّا أخذَ اللهُ عليَّ منَ الحُكمِ والعدل، ولا ابتدأ بالفصلِ، يا ابنَ عبّاس: إنّني أذنتُ لهُما وأعرفُ ما يكونُ منهما، ولكنّي استظهرتُ باللهِ عليهما واللهِ لأقتلنّهما ولأخيبنَّ ظنّهما، ولا يلقيانِ منَ الأمرِ مُناهما، وإنَّ اللهَ يأخذُهما بظلمِهما لي، ونكثِهما بيعتي وبغيهما علي.
اترك تعليق