"أحبابي فقومٌ يأتونَ مِن بعدي يؤمنونَ بي ولم يروني" ما صحة هذا الحديث عن النبي(ص)؟
بكى رسولُ اللهِ يومًا, فقالوا: ما يُبكيكَ يا رسولَ اللّه؟ قالَ: اشتقتُ لأحبابي, قالوا: أولسنا أحبابَك يا رسولَ الله؟ قالَ: لا أنتُم أصحابي, أمّا أحبابي فقومٌ يأتونَ مِن بعدي يؤمنونَ بي ولم يروني. هل هذا الحديثُ صحيحٌ، وما هيَ مصادرُه في ڪُتبِنا؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : هذا الحديثُ مِن أحاديثِ العامّةِ المعروفةِ والمشهورةِ عندَهم، وهوَ صحيحٌ وفقَ مبانيهم الحديثيّة، وقد رواهُ الجمُّ الغفيرُ مِن عُلمائِهم في مُصنّفاتِهم ومسانيدِهم، وإليكَ نصّه طِبقاً لِـما رواهُ أحمدُ والترمذيّ والدارميّ وغيرُهم، فَعَن أبي مُحَيرِيزٍ قَالَ: قُلتُ لِأَبِي جُمُعَةَ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: حَدِّثنَا حَدِيثًا سَمِعتهُ مِن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: نَعَم أُحَدِّثُكُم حَدِيثًا جَيِّدًا تَغَدَّينَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَمَعَنَا أَبُو عُبَيدَةَ بنُ الجَرَّاحِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. أَحَدٌ خَيرٌ منَّا؟ أسلمنا وَجَاهَدنَا مَعَكَ. قَالَ: «نَعَم قَومٌ يَكُونُونَ مِن بَعدِكُم يُؤمِنُونَ بِي وَلَم يَرَونِي». وقد صحّحَه الألبانيُّ كما في كتابِ مشكاةِ المصابيحِ للتبريزيّ، (ج3/ 1771)، رقمُ الحديث (6291). ومَن أرادَ المزيدَ مِن طُرقِه ومَن خرّجَه في كُتبِه، فليرجِع إلى كتابِ (سلسلةِ الأحاديثِ الصحيحةِ للألبانيّ (ج7/906)، رقمُ الحديث (3310). فالحديثُ - إذن - مِن جهةِ إسنادِه صحيحٌ ولا غُبارَ عليه، وقد تلقّاهُ عُلماءُ أهلُ السنّةِ بالقبول، وأمّا مِن جهةِ متنِه، فيُستفادُ مِن هذا الحديثِ عدّةُ أمورٍ لا بُدَّ مِنها: 1- إنّ هذا الحديثَ يُثبتُ صراحةً أنّ هناكَ أقواماً يأتونَ مِن بَعدِ الصّحابةِ يُؤمِنُونَ برسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) مِن دونِ أن يَرَوه، وهُم أفضلُ منَ الصّحابةِ وأخيَرُ مِنهم. وهذا الحديثُ يُخالفُ ما عليهِ جمهورُ العامّةِ أنّ الصّحابةَ هُم أفضلُ منَ الذينَ جاؤوا بعدَهم. 2 - إنّ هذا الحديثَ يُكذّبُ عدّةَ أحاديثَ افتريَت على رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، اختلقَها الكذّابونَ والمُدلّسونَ في مدحِ الصحابةِ عموماً، مِنها: حديثُ (خيرُ القرونِ قرني). وحديثُ « اللَّه اللَّه في أصحابي » ، وروايةُ : « لا تَمسُّ النارُ مُسلِماً رآني » ، وروايةُ : « ما مِن أصحابي يموتُ بأرضٍ إلّا بُعث قائِداً ونوراً لهم يومَ القيامة » وروايةُ : « لا تَسُبّوا أصحابي » و « لا تَتّخذوا أصحابي غرضاً » و « أكرموا أصحابي »، وغيرُها منَ الرواياتِ التي يستدلُّ بها على تفضيلِ الصّحابة. 3- إنّ روايةَ أبي جُمعة المُتقدّمةَ بيّنَت الموازنةَ بينَ مَن رأى النبيَّ (ص) ومَن لم يرَه، فإنَّ مَن شاهدَ النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم وصحبَهُ تطلبُه الآياتُ والمُعجزات، ومَن لم يصحَبه يطلبُها ، فمَن لم يصحَبهُ أعظمُ عناءً في طلبِ الحقّ، وكلّما تأخّرَ الزمانُ زادَ العناءُ وكثُرَت الشكوك ، فيكونُ المؤمنُ في الأزمنةِ المُتأخّرةِ أولى بعِظمِ المنزلةِ وأحقَّ بالأجرِ والرّعاية ، ولذا في أوّلِ البقرةِ وصفَ اللَّهُ سُبحانَه المُتّقينَ ومدحُهم ب « الَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِالغَيبِ » « 1 » ولا يُنافي ذلكَ دلالةَ القرآنِ المجيدِ على تفضيلِ السّابقين ، لأنَّ المقصودَ بهِ تفضيلُ السّابقينَ منَ الصّحابةِ على اللاحقينَ مِنهم ، ولا ريبَ بفضلِ السابقِ منهم إلى الإيمانِ عن صميمِ القلبِ على اللاحقِ مِنهم ، لأنّ السّبقَ إلى الحقِّ رغبةً فيهِ دليلٌ على كمالِ السّابقِ وأفضليَّتِه ، وهذا بخلافِ السّبقِ في الوجودِ الزمانيّ فإنّه لا دَخَلَ له بالفضلِ والكمالِ الذاتي ولا ينشَأ منهُ بالضّرورة . وهناكَ عدّةُ تفصيلاتٌ أخرى لهذا الحديث، فمَن أرادَ المزيدَ ، فليرجِع إلى كتابِ (حديثُ الروافضِ المكذوبِ عندَ العامّة، للحاجِ سعيدٍ أبي معاش، ص 45 وما بعدَها)، ففيهِ فوائدُ كثيرةٌ. ودمتُم سالِمين.
اترك تعليق