هل يصح حديث الطائر المشوي؟
هل يصح حديث الطائر المشوي: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فجاء عليّ بن أبي طالب فأكل معه»؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم –أيدك الله– أنَّ هذا الحديث يُعرف بخبر «الطائر المشوي»، وهو من الأحاديث المشهورة وله طرقٌ كثيرةٌ جدَّاً. وقد ورد عن جمعٍ غفيرٍ من الصحابة، من جملتهم: أمير المؤمنين (عليه السلام)، وجابر بن عبد الله الأنصاريّ، وأبي الطفيل عامر بن واثلة، وأبي سعيد الخدريّ، وأبي رافع، وعبد الله بن عباس، وحبشي بن جنادة، ويعلى بن مرة، وسفينة مولى النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وعمرو بن العاص، وأنس بن مالك. ويعـدّ أنس بن مالك المشهور به؛ حيث تزيد طرق الحديث عنه على التسعين طريقاً كما صرَّح الحافظ الذهبيُّ [ينظر: البداية والنهاية ج7 ص389].
وقد أفرد المحدّثون والعلماء مصنّفاتٍ خاصّةً لجمع طرق هذا الحديث، مثل: «طرق حديث الطير وألفاظه» لمحمد بن جرير الطبريّ [ت310هـ]، و«حديث الطير» لأحمد بن محمد ابن عقدة [ت333هـ]، و«طرق حديث الطائر» لعبيد الله بن أحمد بن عبيد الله الأنباريّ [ت356هـ]، و«طرق حديث الطير» لمحمد بن عبد الله الحاكم النيسابوريّ [ت407هـ]، و«طرق حديث الطير» لأحمد بن موسى ابن مردويه [ت410هـ]، و«حديث الطير» لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهانيّ [ت430هـ]، و«طرق حديث الطير» لأبي طاهر محمد بن أحمد بن حمدان [ت441هـ]، و«طرق حديث الطير» لشمس الدين الذهبيّ [ت748هـ]، وغيرها كما أنّ جمعاً من المحدّثين والنقّاد صحّحوا بعض طرق الحديث كالطبريّ والحاكم، وحسّنه آخرون كالعسقلانيّ والهيتميّ، وذكر بعضهم: أنَّ الحديث له أصلٌ كالذهبيّ، وإليك بعض كلماتهم:
1ـ أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ [ت310هـ]: قال سعد آل حميد: (تقدّم: أنّ ابن كثير ذكر أنّ الطبريّ له مجلدٌ في جمع طرق وألفاظ هذا الحديث، وظاهر كلام ابن كثير أنّ الطبريّ يرى صحّة الحديث وإنْ لم يصرّح به) [مختصرُ المستدرك ج3 ص1475].
2ـ أبو حفص ابن شاهين [ت385هـ]: قال: (تفرَّد بهذا الحديث عبد القدوس بن محمد عن عمّه، لا أعلم حدّث بغيره، وهو حديثٌ حسنٌ غريبٌ) [تاريخ دمشق ج42 ص249].
3ـ أبو عبد الله الحاكم النيسابوريّ [ت405هـ]: قال: (هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وقد رواه عن أنسٍ جماعةٌ من أصحابه زيادةً على ثلاثين نفساً، ثمّ صحّت الرواية عن عليّ وأبي سعيد الخدريّ وسفينة، وفي حديث ثابت البنانيّ عن أنس زيادة ألفاظ) [المستدرك ج3 ص141]. وقال أيضاً: (حديث الطير من مشهورات الأحاديث، وكان على أصحاب الصحاح أنْ يخرّجوه في الصحاح) [معرفة علوم الحديث ص93].
4ـ أبو عبد الله الذهبيّ [ت748 هـ]. قال: (حديث الطير، وله طرقٌ كثيرةٌ عن أنس متكلَّم فيها، وبعضها على شرط السنن، من أجودها حديث قطن بن نسير شيخ مسلم) [سير أعلام النبلاء ج2 ص504، تاريخ الإسلام ج2 ص359]. وقال: (وأمّا حديث الطير فله طرقٌ كثيرةٌ جدّاً، قد أفردتُها بمصنَّفٍ، ومجموعها هو يوجب أنْ يكون الحديث له أصل) [تذكرة الحفاظ ج3 ص164].
5ـ الحافظ أبو سعيد العلائيّ [ت761هـ]: قال: (والحق أنَّه ربما ينتهي إلى درجة الحسن، أو يكون ضعيفاَ يُحتمَل ضعفه. وأمّا أنْ ينتهي إلى كونه موضوعاً في جميع طرقه فلا) [النقد الصحيح ص51].
6ـ عبد الوهاب السبكيّ [ت771هـ]: قال: (وأمّا الحكم على حديث الطير بالوضع فغير جيّد، ورأيتُ لصاحبنا الحافظ صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائيّ عليه كلاماً، قال فيه - بعد ما ذكر تخريج الترمذيّ له، وكذلك النسائيّ في خصائص عليّ -: إنّ الحقّ في الحديث أنّه ربّما ينتهي إلى درجة الحسن، أو يكون ضعيفاً يُحتمَل ضعفه، قال: فأمّا كونه ينتهي إلى أنّه موضوعٌ من جميع طرقه فلا) [طبقات الشافعية الكبرى ج4 ص165].
7ـ ابن حجر العسقلانيّ [ت852هـ]: فإنّه حكم على الحديث بالحسن؛ وذلك بعد أن خرَّج الأحاديث الثمانية عشر في أجوبته على المصابيح، وكان من جملتها حديث الطائر والذي يحمل الرقم (16)، عقّبها بـ (فصلٌ في تلخيص مَن أخرج هذه الأحاديث من الأئمة الستة في كتبهم المشهورة على ترتبها)، وذكر: (السادس عشر: الترمذيّ، وهو حسن) [مشكاة المصابيح (أجوبة ابن حجر) ج3 ص1788].
8ـ ابن حجر المكيّ [ت974هـ]: قال: (وحينئذٍ، فيُقوّى كلٌّ من تلك الطرق بمثله، ويصير سنده حسناً لغيره، والمحقّقون أيضاً على أنّ الحسن لغيره يُحتجّ به كالحسن لذاته) [المنح المكيَّة ج3 ص1267].
أقول: علمتَ - مما تقدم - أنَّ للحديث طرقاً كثيرة جدّاً، تقوي بعضها البعض، ونقتصر في المقام على ذكر طريقين معتبرين:
الطريق الأول: طريق أنس بن مالك: تقدّمت الإشارة إلى كلام الحافظ الذهبيّ أنَّ مجموع ما رُوي عن أنس تزيد على التسعين طريقاً، نذكر منها طريقاً واحداً، ونتبعه بشاهدٍ: أخرج الترمذيُّ - واللفظ له - وأبو يعلى والنسائيّ وابن عساكر من طريق عيسى بن عمر، عن إسماعيل السديّ، عن أنس بن مالك قال: «كان عند النبيّ (صلى الله عليه [وآله] وسلم) طيرٌ، فقال: اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فجاء عليّ، فأكل معه» [سنن الترمذيّ ج5 ص636، مسند أبي يعلى ج5 ص664، خصائص عليّ ص10، تاريخ دمشق ج42 ص254].
قال الحافظ العلائيّ: (عبيد الله بن موسى – أحد المتفق عليهم –، عن عيسى بن عمر – وقد وثَّقه يحيى بن معين وغيره، ولم يضعّفه أحد -، عن إسماعيل عن إسماعيل بن عبد الرحمن السديّ، -وقد احتج به مسلمٌ والناس-، عن أنس) [النقد الصحيح ص49].
وقال الحافظ العسقلانيّ: (أخرجه الترمذيّ من طريق عيسى بن عمر، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السديّ، سمع من أنس. قلتُ: أخرج له مسلم، ووثّقه جماعةٌ منهم شعبة وسفيان ويحيى القطّان)، ثـمّ ذكر تخريج الحاكم له من طريق يحيى بن سعيد عن أنس، وأشار لشواهده عن جماعةٍ من الصحابة، ثـمّ قال في تلخيص ما ذكره: (السادس عشر: الترمذيُّ، وهو حسن) [مشكاة المصابيح (أجوبة ابن حجر) ج3 ص1788].
أقول: ويشهد له طرقٌ كثيرةٌ، منها: طريق يحيى بن سعيدٍ، عن أنس بن مالك، الذي أخرجه الطبرانيُّ وابن يونس والحاكم من طريق محمد بن أحمد بن عياض بن أبي طيبة، حدّثنا أبي، حدثنا يحيى بن حسان، عن سليمان بن بلالٍ، عن يحيى بن سعيدٍ، عن أنس بن مالك به. [المعجم الأوسط ج14 ص327، لسان الميزان ج5 ص634، المستدرك ج3 ص141].
قال الحاكم: (هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وقد رواه عن أنسٍ جماعةٌ من أصحابه زيادةً على ثلاثين نفساً، ثمّ صحّت الرواية عن عليٍّ وأبي سعيد الخدريّ وسفينة، وفي حديث ثابت البنانيّ عن أنس زيادة ألفاظ) [المستدرك ج3 ص141].
الطريق الثاني: طريق سفينة مولى النبيّ (صلى الله عليه وآله): أخرج الطبرانيّ من طريق فطر بن خليفة، عن عبد الرحمن بن أبي نعم، عن سفينة - وكان خادماً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - قال: «أهدي لرسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) طوائر، فصنعتُ له بعضها، فلما أصبح أتيتُه به، فقال: من أين لك هذا؟ فقلت: من التي أتيت به أمس، فقال: ألم أقلْ لك لا تدخرنَّ لغدٍ طعاماً، لكلّ يومٍ رزقه؟ ثمّ قال: اللهمّ أدخلْ عليّ أحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير. فدخل عليٌّ (رضي الله عنه) فقال: اللهم وإلي» [المعجم الكبير ج7 ص82].
قال الهيثميّ: (رواه البزار والطبرانيّ باختصار، ورجال الطبرانيّ رجال الصحيح غير فطر بن خليفة، وهو ثقة) [مجمع الزوائد ج9 ص126].
أقول: تضعيف بعض المخالفين لهذا الحديث مردودٌ بكثرة طرقه، واشتهاره، وتصحيح علمائهم له، مع وفرة شواهده. والظاهر أنَّ الباعث لتضعيفه هو دلالته على أفضلية أمير المؤمنين (عليه السلام) على جميع الخلق سوى النبيّ (صلى الله عليه وآله)، كما يتبيّن من تمني عائشة وحفصة أنْ يكون المدعو أبويهما وكذا تمني أنس أن يكون سعد بن عبادة كما أخرجها ابن عساكر من طريق عبد الله بن المثنى، عن عبيد الله بن أنس، عن أنس قال: «أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حجل مشوي بخبزة وظبابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطعام. فقالت عائشة: اللهم اجعله أبي. وقالت حفصة: اللَّهم اجعله أبي. قال أنس: فقُلتُ: اللهم اجعله سعد بن عبادة. قال: فسمعتُ حركةً بالباب فخرجت فإذا عليّ» [تاريخ دمشق ج42 ص247].
وهذا التمني يدلُّ على فهم عائشة وحفصة وأنس أنَّ الحديث يدلُّ على التفضيل وهو يستلزم الإمامة الكبرى.
نكتفي بهذا القدر والحمد لله أولاً وآخرا.
اترك تعليق