تنصيب الإمامة بالنص لا بالشورى

السؤال: لماذا لم يستشر رسول الله المسلمين في تعييّن الخليفة بعده، رغم أنَّ الله تعالى أمره بمشاورتهم في الأمر، كما في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}؟ وقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].

: السيد أبو اَلحسن علي الموسوي

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

اعلم -أيدك الله- أنَّ الإمامة منصبٌ إلهيٌّ وعهدٌ ربّانيٌّ كالنبوَّة يعهده اللّه سبحانه إلى مَن يشاء مِن خلقه، ويختار من عباده، ولا حظَّ للناس في تنصيب الإمام مثلما لا حظَّ لهم في تنصيب النبيّ (صلى الله عليه وآله)؛ لذا لم يشاور النبيّ (صلى الله عليه وآله) الناس في أمر (الإمامة) لأنها أمرُ الله سبحانه لا أمر الناس، كما دلَّ عليه العقل وبيانات الوحي من الكتاب والسنة وبيانه بما يأتي:

1ـ دليل العقل بمقتضى اللطف:

أجمعت الاثنا عشرية على أنَّ نصب الإمامة لا يكون إلَّا من الله سبحانه وتعالى، جعلٌ ونصبٌ منه تعالى، ولا فرق بين الإمامة والنبوَّة من هذه الحيثية، حيثُ الخلق يعجز عن نصب الإمامة كما هو الحال في النبوَّة فلا يجوز أنْ يناط بهم نصبه؛ ولأنَّ ذلك يفضي إلى وقوع الفتن والهرج والمرج لرغبة أهل كلِّ بلدٍ في نصب إمامٍ منهم، وإنما نُصِب لدفع ذلك بحكم العقل.

2ـ دليل النقل من القرآن:

وردت في الكتاب الكريم آياتٌ متعددةٌ تدلُّ على أنَّ الإمامة جعلٌ إلهيٌّ: كقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30].

وقوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].

وقوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5].

وقوله تعالى: {وَجَعَلنَاهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا} [الأنبياء:73].

وقوله تعالى: {وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24].

وقوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26].

وقوله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 28].

فهذه النصوص القرآنيَّة تثبت بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ أنَّ الإمامة وولاية الأمر هي جعلٌ إلهيٌّ وليس للناس حقٌّ في تنصيب أو اختيار الإمام.

3ـ السنَّة النبويَّة:

وردت نصوصٌ نبويّةٌ متواترةٌ تنصّ على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) وذريّته الطاهرين (عليهم السلام)؛ كحديث الغدير، وحديث الثقلين، وحديث المنزلة، وحديث الطائر، وحديث مدينة العلم، وحديث الأئمّة اثنا عشر، وحديث الأخوّة، وغيرها من الأحاديث الكثيرة جداً.

وهذه الأحاديث صريحةٌ في أنّ الإمامة والخلافة بعد النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ليست شورى، وإنّما هي بالنصّ؛ إذ صدور مثل هذه النصوص الصريحة والواضحة على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) مصححٌ لكون الإمامة بالنصّ، وليس للشورى فيها أيّ مدخل، ولو كانت الإمامة بالشورى لكان صدور هذا الكم الهائل من النصوص بلا معنىً.

ثـمّ إنّه توجد شواهد تفيد تنصيص النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) على أنّ الإمامة من بعده تكون بالتنصيب الإلهيّ، وذلك أنّه لـمّا كان النبي (صلى الله عليه وآله) يعرض نفسه على القبائل في أول بعثته، كانت بعض القبائل تقبل عرضه بشرط أن يكون لها الخلافة من بعده، فأجابها النبي (صلى الله عليه وآله) بأن الأمر ليس له، بل هو لله سبحانه يجعله حيث يريد، نذكر في المقام شاهدين منها وكلا الشاهدين في أوّل البعثة:

1ـ حديث بني عامر بن صعصعة:

لمّـا أتى النبي (صلى الله عليه وآله) بني عامر ابن صعصعة، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه/ فقال رجلٌ منهم - يقال له بيحرة ابن فراس -: والله لو أنى أخذت هذا الفتى من قريش لأكلتُ به العرب، ثم قال له: أرأيتَ إنْ نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الامر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يصنعه حيث يشاء. قال فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ّ لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه [سيرة ابن هشام ج2 ص289 ، تاريخ الطبري ج2 ص84، السيرة الحلبية ج٢ ص١٥٤].

2ـ حديث قبيلة كنده اليمانية:

قال عبد الله بن الأجلح: حدثني أبي عن أشياخ قومه أنَّ كندة قالت للنبي: إنْ ظفرتَ تجعل لنا الملك من بعدك؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنَّ الملك لله يجعله حيث يشاء، فقالوا: لا حاجة لنا فيما جئتنا به [سيرة ابن كثير ج2 ص159].

فهذه الأحاديث تدلُّ بشكلٍ صريحٍ على أنَّ تنصيب الإمام لا يتم باختيار الأمة، وإنما عزا النبيّ (صلى الله عليه وآله) الأمر إلى الله تعالى يجعله حيث يشاء.

وأما الآيتان اللتان يُستدلّ بهما على أنّ الإمامة بالشورى، فإليك بيان معنيهما:

1ـ قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159].

هذه الآية لا تدلُّ على أنَّ تعيّين الإمام والخليفة يتمُّ من خلال الشورى، بل تدلُّ على أنَّ الخطاب موجَّهٌ إلى الحاكم الذي استقرّت سلطته، حيث يأمره الله سبحانه بأنْ يستشير أفراد الأمة ويستفيد من آرائهم، في شؤون الحرب وسياسة البلاد مما يساعده في الوصول إلى أفضل النتائج، تطيباً لخاطرهم، وهو غير ملزمٍ بالأخذ برأيهم، لقوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، وقد جاء في تفسير «مجمع البيان»: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} أي: استخرج آراءهم، واعلم ما عندهم.

واختلفوا في فائدة مشاورته (صلى الله عليه وآله) إيّاهم ـ مع استغنائه بالوحي عن تعرّف صواب الرأي من العباد ـ على أقوال:

أحدها: إنّ ذلك على وجه تطييب نفوسهم، والتآلف لهم، والرفع من أقدارهم، ليبيّن أنّهم ممّن يوثق بأقوالهم، ويرجع إلى آرائهم، عن قتادة والربيع وابن إسحاق.

وثانيها: إنّ ذلك لتقتدي به أمّته في المشاورة، ولم يروها نقيصة، كما مدحوا بأنّ أمرهم شورى بينهم، عن سفيان بن عيينة.

وثالثها: إنّ ذلك ليمتحنهم بالمشاورة، ليتميّز الناصح من الغاش.

ورابعها: إنّ ذلك في أُمور الدنيا، ومكائد الحرب، ولقاء العدو، وفي مثل ذلك يجوز أن يستعين بآرائهم، عن أبي علي الجبائي [ينظر: مجمع البيان ج2 ص428].

2ـ قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].

هذه الآية المشاورة فيها لا يُراد بها مسألة تعيين الخليفة، حيث إنَّ آية الشورى حثَّت على التشاور فيما له صلةٌ في شؤون المؤمنين، بينما الإمامة هي من أمر الله تعالى لا أمر الناس إذ الوارد في بيانات الوحي في (الامامة) إنها جعلٌ إلهيٌّ لا حظ للناس في تعيين الإمام مثلما لا حظ لهم في تعيين النبيّ، ولثبوت النصّوص الكثيرة عندنا على ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة من ولده (عليهم السلام).

نكتفي بهذا القدر، والحمد لله أولاً وآخراً.