أسباب اختلاف الحديث الناشئة عن أئمَّة الهدى (ع)

السؤال: لماذا اختلفت أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) الناشئة عنهم رغم عصمتهم؟ وما هو السبب وراء هذا الاختلاف في الإجابات التي قدَّمها الأئمَّة؟

: السيد أبو اَلحسن علي الموسوي

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

اعلم – أيدك الله – أنَّه في البداية ينبغي أنْ تعلم أنَّ أسباب اختلاف الحديث متنوعةٌ، فبعضها يرجع إلى فهم الأحاديث فيُتوهَّم وجود اختلافٍ بينها، وبعضها يرجع إلى الرواة والمدوّنين بسبب اختلالٍ في تلقّي الحديث ونقله عمداً أو سهواً أو غير ذلك، وبعضها يرجع للأئمَّة المعصومين (عليهم السلام) أنفسهم.

ويقع الكلام فعلاً في بيان الأسباب التي ترجع للأئمَّة (عليهم السلام) أنفسهم، وقبل بيان أسبابها ينبغي أنْ يُعلم أنَّ جميع هذه الأجوبة - رغم اختلافها وكونها تتعلق بمسألةٍ واحدةٍ - صادرةٌ عن الأئمَّة (عليهم السلام)، وهي صحيحةٌ ومُصيبةٌ، وذلك بسبب عصمتهم من الخطأ، وإنّما يقع الاختلاف بسبب مراعاة ظروف السائل، والتقية من السلطة الحاكمة، أو من المذهب السائد بين الناس، أو من التيارات الفكريَّة المناوئة، كما يُمكن أنْ يكون من باب السوق إلى الكمال من خلال ذكر المُستحبّ أو المكروه كحكمٍ إلزاميٍّ دون قرينةٍ على الترخيص من باب التأكيد. وإليك بيان الأسباب:

السبب الأول: المداراة:

من أسباب الاختلاف الحديث مداراة ظروف السائل، ولها وجوهٌ متعددةٌ يمكن الإشارة إلى بعضٍ منها بما يأتي:

١- أن يكون السائل حديث عهدٍ بالتشيع، ممَّا يستدعي ضرورة التدرّج في تعليمه، حيث قد لا يكون لديه القدرة على استيعاب الحكم الواقعيّ؛ لذا من غير المناسب أنْ يصرّح الإمام له بالحكم الواقعيّ، حتى لا يتعرّض للشكّ في عقيدته الصحيحة.

٢- أن يكون السائل من الفرق التي انحرفت عن نهج أهل البيت (عليهم السلام)، مثل الغلاة أو المقصّرين أو مذاهب المخالفين. وفي هذه الحالة، قد يُستخدم إبلاغه بالحكم الواقعيّ وسيلةً لتعزيز خطه المنحرف الذي يسعى للترويج له.

٣ـ أنْ يكون السائل يعيش في بيئةٍ منحرفةٍ لا تتقبّل هذا الحكم؛ لذا يراعي الإمام ظروفه ومحيطه، وقد أمر الله سبحانه أئمَّة الهدى (عليهم السلام) بـ: «مداراة الناس» [الكافي ج2 ص344].

السبب الثاني: كتمان السر:

وجود الرقابة المشدَّدة من قبل السلطة الظالمة على الأئمَّة وشيعتهم يفرض وجود اختلافاتٍ شكليَّةٍ في الأحكام، فالاتفاق يكشف للسلطة انتماء الرواة لأئمَّة الهدى (عليهم السلام)، وهذا يعرّضهم لخطرٍ يمكن تفاديه بإلقاء الخلاف، وهذا المعنى ورد التصريح به في رواية زرارة حيث جاء فيها: «يا زرارة، إنَّ هذا خيرٌ لنا وأبقى لنا ولكم، ولو اجتمعتم على أمرٍ واحدٍ لصدَّقكم الناس علينا، ولكان أقلَّ لبقائنا وبقائكم» [الكافي ج1 ص89]، وفي خبرٍ آخرَ قال أبو الحسن (عليه السلام): «اختلاف اصحابي لكم رحمة.. أنا فعلتُ ذلك بكم، لو اجتمعتُم على أمرٍ واحدٍ لأُخذ برقابكم» [علل الشرائع ج2 ص396].

السبب الثالث: التقية:

من أسباب اختلاف الأحاديث التقية، فالإفتاء بما يتوافق مع آراء العامة يأتي وسيلةً لتجنّب المخاطر عن الإمام مرّةً، وعن شيعته مرّةَّ أخرى وعن كليهما، ثم يبيّن الإمام الحكم الواقعيّ في موردٍ آخر عندما ترتفع الحاجة إلى التقية، ويمكن حصر أسباب التقية في ثلاث:

أحدها: هو حماية الإمام (عليه السلام) من الأذى، حيث قد يكون السائل شخصًا لا يحفظ الأسرار، مما قد يؤدّي إلى تعرّض الإمام (عليه السلام) للخطر. في مثل هذه الحالة، يجيب الإمام بالتقية، وهذا ما تدعمه رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن مسألةٍ فأبى وأمسك ثم قال «لو أعطيناكم كلَّما تريدون كان شراً لكم وأخذ برقبة صاحب هذا الأمر» [الكافي ج1 ص225].

والثاني: هو حماية الراوي من الأذى، حيث قد يكون تحت مراقبة السلطة الحاكمة. فإذا ذكر الإمام الحكم الواقعيّ ولم يعمل بالتقية، فقد يتعرّض للكشف عن هويته ويكون عرضةً للأذى، كما ورد في رواية سالم أبي خديجة عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «سأله إنسانٌ وأنا حاضر، فقال: ربما دخلت المسجد وبعض أصحابنا يصلُّون العصر، وبعضهم يصلُّون الظهر؟ فقال: أنا أمرتهم بهذا؛ لو صلُّوا على وقتٍ واحدٍ عرفوا، فأخذ برقابهم» [الكافي ج6 ص40]. ورواية داود بن زربي قال: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الوضوء فقال لي توضأ ثلاثاً ثلاثاً. قال: ثم قال: أليس تشهد بغداد وعساكرهم؟ قلت بلى. قال: «كنتُ يوماً أتوضأ في دار المهدي فرآني بعضهم وأنا لا اعلم به فقال: كذب من زعم أنَّك فلانيٌّ [جعفريٌّ] وأنت تتوضأ هذا الوضوء قال: قلتُ: لهذا والله أمرني» [تهذيب الأحكام ج 1ص 82]. ورواية سلمة بن محرز قال: «قلت لابي عبد الله (عليه السلام): إنَّ رجلا أرمانيَّاً مات وأوصى إلي فقال لي: وما الارمانيُّ؟ قلت: نبطيٌّ من أنباط الجبال مات وأوصى إليَّ بتركته وترك ابنته، قال: فقال لي: أعطها النصف، قال: فأخبرت زرارة بذلك، فقال لي: اتقاك، إنما المال لها، قال: فدخلتُ عليه بعد فقلت: أصلحك الله إنَّ أصحابنا زعموا أنَّك أتقيتني، فقال: لا والله ما اتقيتُك ولكن أتقيت عليك أنْ تضمن فهل علم بذلك أحد؟ قلت: لا، قال: فأعطها ما بقي» [الكافي ج7 ص86].

والثالث: دفع الضرر عن كليهما، ويدلُّ عليه رواية زرارة بن أعين، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «سألتُه عن مسألةٍ فأجابني، ثم جاءه رجلٌ فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني، ثم جاء رجلٌ آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان قلت: يا ابن رسول الله، رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبتَ كلَّ واحدٍ منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟ فقال: يا زرارة، إنَّ هذا خيرٌ لنا وأبقى لنا، ولكن لو اجتمعتم على أمرٍ واحدٍ لصدَّقكم الناس علينا، ولكان أقلَّ لبقائنا وبقائكم، قال: ثم قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): شيعتكم لو حملتموهم على الأسنة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين! قال: فأجابني بمثل جواب أبيه» [الكافي ج١ ص٦٥]. ورواية أبو عمرو الكنانيّ قال: قال أبوعبد الله (عليه السلام): «يا أبا عمرو، أرأيتك لو حدثتك بحديثٍ أو أفتيتك بفتيا، ثم جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبر تك أو أفتيتك بخلاف ذلك، بأيهما كنت تأخذ؟ قلت: بأحدثهما وأدع الآخر، فقال: قد أصبتَ - يا أبا عمرو - أبى الله إلَّا أنْ يعبد سراً، أما والله لئن فعلتم ذلك إنَّه [ل‍] خيرٌ لي ولكم، وأبى الله (عزَّ وجلَّ) لنا ولكم في دينه إلَّا التقية» [الكافي ج2 ص173].

السبب الرابع: السوق إلى الكمال:

إنَّ في تكاليف الإمام تربية الأفراد ودفعهم نحو الكمال؛ ولهذا فإنَّ له الحق في الكتمان، حيث يظهر الأحكام الترخيصيَّة والمستحبَّة والمكروهة كأحكامٍ إلزاميَّة، رغم أنَّها في الواقع تتضمن الترخيص، لكنَّه يكتم ذلك لمصلحةٍ يراها، كما ورد في رواية أحمد بن الحسن الميثميّ عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: «وإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن اشياء ليس نهيَ حرامٍ بل إعافة وكراهة، وأمر بأشياء ليس أمر فرضٍ ولا واجب بل أمر فضلٍ ورجحانٍ في الدين ثم رخَّص فيه في ذلك» [عيون اخبار الرضا ج1 ص290].

وهذا بيانٌ إجماليٌّ للأسباب الناشئة من الأئمَّة (عليهم السلام) لاختلاف الحديث، ولمن أراد التفصيل يمكنه مراجعة تقريرات درس المرجع الدينيّ الأعلى السيّد علي السيستانيّ (دام ظله الوارف)، بقلم العلّامة السيد هاشم الهاشمي (رحمه الله)، المطبوعة بعنوان: [تعارض الأدلّة واختلاف الحديث].

نكتفي بهذا القدر، والحمد لله أوّلاً وآخراً.