معاوية ينبش قبور الصالحين

السؤال: هل نبش معاوية بن أبي سفيان قبور الصحابة؟ وما الدليل على ذلك؟

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

لا إشكال ولا خلاف بين علماء المسلمين في أنّ معاوية بن أبي سفيان أمر عامله على المدينة أن يحفر له كظامة – وهي كالقناة، جمعها كظائم، وهي آبار تحفر في الأرض متناسقة، ويُخرّق بعضها إلى بعض تحت الأرض فتجمع مياهها الجارية، ثمّ تخرج عند منتهاها فتسيح على وجه الأرض، كما ذكر ابن الأثير في [النهاية في غريب الحديث ج4 ص178] -، فتبيّن لمعاوية أنّ ذلك لا يمكن إلّا عن طريق جريان الماء فوق مقبرة شهداء أُحُد، فأمر –حينئذٍ- عاملَه بنبش تلك القبور وتحويل جثامين الشهداء إلى أماكن أخرى وتنفيذ المشروع.

فكان له ما أراد بلا نكير، حيث نبشوها وعبثوا بجثامين الشهداء، ثمّ نودي في المدينة أنّ على أهل القتلى الحضور إلى المقبرة لحمل قتلاهم ونقلهم إلى أماكن أخرى، فكان من بين القبور التي تمّ نبشها قبر سيد شهداء الصحابة وأسد الله وأسد رسوله الحمزة بن عبد المطّلب (عليه السلام)، وقد أصابت المسحاة قدمه الشريفة أثناء الحفر حتّى قُطع جزءٌ منها وسالت الدماء الطاهرة على الأرض مع أنّه دُفن قبل أكثر من أربعين عاماً مضت، ولم يُصب جثمان شخصٍ آخر غير حمزة على الإطلاق.

وقد تعدّدت طرق رواية الحادثة في كتب علماء السنّة بأسانيد معتبرةٍ بلا إنكار منهم جميعاً، وإليك أخي السائل بعضاً منها:

روى ابن المبارك وعبد الرزاق من طريق سفيان بن عيينة قال: حدّثني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ، قال: «لمّا أراد معاوية أن يجري الكظامة قال: مَن كان له قتيل فليأتِ قتيله - يعني قتلى أُحد -. قال: فأخرجناهم رطاباً يتثنّون، قال: فأصابت المسحاة أصبع رَجِلٍ منهم، فانفطرت دماً. فقال أبو سعيد الخدريّ حينها: لا يُنكَرُ بعد هذا مُنكَرٌ أبداً» [كتاب الجهاد ص84، المصنّف ج3 ص547]. والإسناد صحيحٌ.

قال ابن قتيبة الدينوريّ -بعدما نقل الرواية-: (وهذا أمرٌ صحيحٌ، قد رآه أهل المدينة، من جماعة أولئك الشهداء المحوّلين، ولا يجوز أنْ يدّعي جابر بالمدينة مثل هذا الأمر العظيم؛ وهم لم يروه ولم يعرفوه) [أعلام رسول الله ص308].

وما يمكن أن يُلحظ هنا: أنّ راوي الخبر سفيان بن عيينة لم يذكر اسم الرجل الذي أُصيبت قدمه، لكن بالعود إلى طرق أخرى للرواية نجد التصريح بأنّه الحمزة بن عبد المطّلب (عليه السلام).

فقد روى ابن سعد وغيره بالإسناد إلى عبد الجبار بن الورد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله، قال: «لَمّا أراد معاوية أن يجري عينه التي بأحد كتبوا إليه: أنّا لا نستطيع أن نجريها إلّا على قبور الشهداء. قال فكتب: انبشوهم. قال: فرأيتهم ‌يحملون ‌على ‌أعناق ‌الرجال كأنّهم قومٌ نيامٌ. وأصابت المسحاة طرف رِجْلِ حمزة بن عبد المطلب فانبعثت دماً» [الطبقات الكبرى ج3 ص10، صفوة الصفوة ج1 ص142].

وروى البلاذريّ بإسناده عن حمّاد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله: «أنّ معاوية بن أبي سفيان أمر بكظامة تُصنع له، فمرّت بقتلى أُحُد فاستخرجوا من قبورهم رطابا تنثني أطرافهم بعد أربعين سنة». وروى أيضاً من طريق حماد عن أبي الزبير عن جابر وعمرو بن دينار: «أنّ المسحاة أصابت قدم حمزة فَدَمِيَت بعد أربعين سنة» [أنساب الأشراف ج4 ص389].

وأخرج أبو نعيم بإسناده عن حماد بن سلمة أيضاً قال: «سمعت عمرو بن دينار وأبا الزبير يقولان: إنّ المسحاة أصابت قدم حمزة، ‌فدُمِيَت ‌بعد ‌أربعين ‌سنة» [دلائل النبوّة ص570].

وعن السفارينيّ الحنبليّ قال: (وأصابت ‌المسحاة ‌رِجْلَ ‌رَجلٍ منهم -وهو حمزة-، فانبعث الدم، فقال أبو سعيد الخدريّ (رضي الله عنه): لا يُنكَر بعد هذا مُنكَرٌ، وكانوا وهم يحفرون يفيح عليهم من القبور ريح المسك) [لوامع الأنوار البهيّة ج2 ص368].

بناءً على ذلك يكون من القريب جدّاً أنّ سفيان بن عيينة تعمّد عدم التصريح باسم حمزة بن عبد المطلب (عليه السلام)، ولعلّ منشأ ذلك: هو كون سفيان من النواصب، كما جزم بذلك الشيخ حسن فرحان المالكيّ فقال: (والرجل الذي عبثوا بجثّته وقطعوا قدمه هو حمزة (رضي الله عنه) من رواية أبي الزبير عن جابر من طريق آخر، لكنّ سفيان بن عيينة فيه نصبٌ فأخفى ذكر حمزة) [ينظر: مقال له بعنوان: أوّل من نبش قبور الصحابة معاوية].

وكيفما كان فإنّ المستفاد من مجموع الروايات المتقدّمة هو التالي:

أوّلاً: هذه الحادثة تُعَدُّ الأولى من نوعها:

لم يعهد المسلمون من قبل قيام أحدٍ بمثل هذه السابقة الخطيرة، ولاسيّما وأنّها صدرت عن شخصيّةٍ ادّعت لنفسها الخلافة، وقاتلت في سبيلها، وتسبَّبت بسفك دماء الآلاف من المسلمين من أجل الوصول إلى دكّتها، فتكون هذه الحادثة وهذا الاعتداء الآثم من جملة أوّليات معاوية ومبتدعاته ومثالبه التي لوّثت أروقة التاريخ، وحفلت بها كتب المؤرّخين.

ثانياً: أنّ الكظامة كانت ملكاً شخصيّاً لمعاوية:

لقد صرّحت تلك الروايات بأنّ عين الماء التي حفرها معاوية إنّما كانت ملكاً شخصيّاً له، وليست للمصلحة العامّة للمسلمين كما زعم السلفيّة محاولين بذلك الدفاع عن معاوية وخداع أتباعهم بحرصه على المسلمين، فقد تقدّم في رواية الطبقات قول جابر: «لمّا أراد معاوية أن يجري عينه»، وفي رواية البلاذريّ قوله: «أمر بكظامة تُصنع له»، وهما -كما ترى- صريحان بأنّ العين الكظامة كانت ملكاً لمعاوية لا للمسلمين.

وبذلك يظهر لك فساد ما في فقه بعض النواصب من المالكيّة والوهابيّة، حينما اتخذوا من فعل معاوية هذا مستنداً لجواز نبش قبور الموتى وتحويل جثامينهم إلى أماكن أخرى متى اقتضت مصلحة المسلمين ذلك [ينظر: مواهب الجليل ج2 ص253، كتاب أبحاث هيئة كبار العلماء في السعوديّة ج5 ص20]. هذا مضافاً إلى أنّ أفعال معاوية بن هند ليست حجّةً في الشريعة الإسلاميّة حتى يُحتجَّ بها في المقام، فلا هو نبيّ ولا وصيّ ولا خليفة من خلفاء المسلمين، وإنّما هو مَلِكٌ فاجرٌ مفسدٌ في الأرض من ملوك الدنيا بإجماع علماء المسلمين، وبذلك صرّحت الأخبار المعتبرة عند الفريقين، فتنبّه جيّداً.

ثالثاً: تعمّد الإساءة لجثمان حمزة (عليه السلام):

من خلال جولةٍ سريعةٍ في أروقة التاريخ يستطيع الباحث أن يُرجّح كون إصابة قدم الحمزة بن عبد المطّلب (عليه السلام) هي أمرٌ مقصودٌ ومتعمَّدٌ، فإنّ نيران الحقد وحبّ الانتقام كانت تأجّج في قلوب آل أبي سفيان فتغلي بها غلي المرجلة، وقد كانت سُنَّتهم الجارية قبل وبعد دخولهم في الإسلام كارهين تتمثّل بنبش قبور خصومهم أو التمثيل بجثامينهم، فمن ذلك مثلاً:

1ـ إرادتهم نبش قبر السيّدة الجليلة آمنة بنت وهب أمّ النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وذلك عند مسيرهم إلى أُحُد لقتال المسلمين، إذ قالت هند بنت عتبة لأبي سفيان لـمّا نزلوا الأبواء: «لو بحثتم قبر أُمّ محمّدٍ فإنّها بالأبواء، فإن أَسَرَ أحداً منكم ‌فديتم ‌كلَّ ‌إنسان بإِرْبٍ من آرابها» أي بجزء من أجزاء جسدها الطاهر [ينظر: سبيل الهدى والرشاد ج4 ص183، السيرة الحلبيّة ج2 ص279، موسوعة الغزوات الكبرى ج2 ص56].

2ـ نبشهم قبر الشهيد زيد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) وإخراج جثمانه الطاهر وقطع رأسه ونصبه في دمشق، وصلب جسده على جذع نخلة في كناسة الكوفة في أيام هشام بن عبد الملك حتّى ولي الحكم الوليد بن اليزيد الذي أمر بإنزال الجثمان الطاهر وإحراقه ثمّ نثر رماده في الفرات؛ ليتذوّقه أهل العراق في طعامهم وشرابهم [ينظر: مقاتل الطالبيين 138، نهاية الأرب ج4 ص409، الصواعق المحرقة ص168].

وقد كان هذا الفعل الشنيع من مفاخر بني أميّة، حتّى روى العامّة قول شاعرهم حكيم بن عيّاش الكلبيّ:

‌صلبنا ‌لكم زيداّ على جذع نخلةٍ … ولم أرَ مهديًّا على الجذع يُصلبُ

وقستم بعثمانٍ عليًّا سفاهةً … وعثمان خيرٌ من عليٍّ وأطيبُ!

فبلغ قوله هذا الإمام الصادق (عليه السلام) فرفع يديه إلى السماء وهما ترعشان فقال: « اللهمّ إنْ كان عبدك كاذباً فسلّط عليه كلبك ». فبعثه بنو أميّة إلى الكوفة، فبينما هو يدور في سككها إذ افترسه الأسد، واتصل خبره بجعفرٍ فخرّ لله ساجداً وقال: « الحمد لله الذي أنجزنا ما وعدنا ») [ينظر: البصائر والذخائر ج8 ص16، نثر الدرّ ج1 ص243، إكمال تهذيب الكمال ج2 ص114، السيرة الحلبيّة ج1 ص413].

وبالعود إلى سيدنا الحمزة بن عبد المطّلب (عليه السلام) فإنّه لا يخفى على ذوي البصائر شدّة العِداء الأمويّ له، فقد عمدت هند بنت عتبة (أمّ معاوية) إلى التمثيل بجسده الطاهر؛ فجدعت أنفه وأُذنيه وصنعتهما قلائد، واستخرجت كبده الشريف فلاكته، حتّى صار الواحد من ذرّيتها يُعرف في الملأ بابن آكلة الأكباد، فقد أخرج أحمد بن حنبل - وصحّحه أحمد شاكر- عن ابن مسعود في أحداث معركة أحد قال: «فنظروا فإذا ‏‏حمزة ‏قد ‏‏بُقر ‏بطنه وأخذت ‏هند كبده ‏فلاكتها فلم تستطع أنْ تأكلها، فقال رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم):‏ ‏أأكلتْ منه شيئاً؟ قالوا: لا، قال: ما كان الله لِيُدخِلَ شيئاً من ‏حمزة ‏النار» [مسند أحمد ج4 ص250، وينظر: سيرة ابن إسحاق ص333، الطبقات الكبرى ج3 ص11، تاريخ الطبريّ ج2 ص258].

وكذا هو الحال في أبي سفيان فقد روى المقريزيّ أنّه لمّا افضى أمر الخلافة إلى عثمان بن عفان أتى أبو سفيان قبر حمزة فركله برجله، ثمّ قال: «يا حمزة، إنّ الأمر الذي كنت تقاتلنا عليه بالأمس قد ملكناه اليوم وكنّا أحقَّ به من تَيمٍ وعَديّ» [النزاع والتخاصم ص87].

وعلى هذا لم يبقَ ما يمنع من أن يكون معاوية قد فعل ذلك للتمثل بجسد حمزة سيّد الشهداء (عليه السلام)؛ انتقاماً لقتله عتبة بن ربيعة جدّ معاوية ووالد هند؛ فإنّ من نشأ في بيئة حزب الشيطان وترعرع في احضان أولياء الكفر لابدّ وأن يكتسب شيئاً من مزاياهم وخصائصهم وطباعهم، وكما قيل: (الإنسان ابن بيئته، والولد سرّ أبيه).

قال الشيخ حسن فرحان المالكيّ تعقيباً على الحادثة: (ومن يعرف معاوية يعرف تماماً أنّ هذا لم يحدث صدفة، وأنّه نبش القبور بحجّة أنّه يريد إجراء عين من ذلك المكان. وربّما كان قصده الرئيس التمثيل بجثّة حمزة فلمّا انبعث الدم من قدمه رطباً... ولذلك قال أبو سعيد: «لا يُنكَرُ مُنكَرٌ بعد هذا أبداً»، ولو كان الأمر مجرد خطأ ما قال أبو سعيد الخدريّ هذا الكلام) [ينظر: مقاله المشار إليه سابقاً].

ومن هنا تعلم - أخي السائل- السرّ وراء إخفاء الإمامين الحسنين (عليهما السلام) قبر أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهو الذي قتل حنظلة بن أبي سفيان أخا معاوية، وأسر أخاه الآخر عمرو بن أبي سفيان، وقتل الوليد بن عتبة يوم بدر واشترك في قتل عتبة بن ربيعة نفسه، فإنّه لا يمتنع أن ينبش الأمويّون قبره ليتفنّنوا في التمثيل بجسده الطاهر انتقاماً لقتلاهم.

والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.