أسباب اختلاف الشيعة في النص على الإمامة

يطرح البعض تعليقاً على إحدى الروايات المتعلقة بالنص على الأئمة الإثني عشر، حيث يقولون: (إن الأحاديث المروية في النصوص المتعلقة بالأئمة، بما في ذلك ما ورد في خبر اللوح وغيره، هي جميعها مصنوعة في فترة الغيبة. فإذا كانت هذه النصوص موجودة لدى الشيعة الإمامية في زمن الأئمة، فلماذا وقع بعض أصحاب الأئمة وأبنائهم في الحيرة)؟

: السيد أبو اَلحسن علي الموسوي

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

اعلم - أيّدك الله - أنَّ الأحاديث الواردة في النصّ على الأئمّة تنقسم إلى قسمين: أحدهما: النصّ على عدد الأئمّة وأسمائهم وكناهم وألقابهم، مثل حديث اللوح وغيره. والآخر: النصّ من الإمام السابق على الإمام اللاحق.

وقد اعترض بعض الزيديّة على الإماميّة بأنّ النوع الأوّل من النصوص على أسماء الأئمّة الاثني عشر (عليهم السلام) إنّما تمّ اختلاقه في زمان الغيبة الصغرى للإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، كما نقل ذلك الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) عن بعض الزيدية قولهم: (إنّ الرواية التي دلّت على أنّ الأئمّة اثنا عشر قول أحدثه الإماميّة قريباً، وولَّدوا فيه أحاديث كاذبة)، وقولهم: (فإن كان رسول الله صلى الله عليه وآله قد عرف أمته أسماء الأئمة الاثني عشر فلم ذهبوا عنه يمينا وشمالا وخبطوا هذا الخبط العظيم؟) [كمال الدين ص67-68].

ومن هنا يظهر: أنّ أصل الكلام المنقول في السؤال يعدّ من جملة الشبهات التي طرحها بعض الزيديّة قديماً، وليس أمراً جديداً، وقد أجاب عنه من ذلك الحين الشيخ الصدوق وغيره من علماء هذه الطائفة المحقّة (أعلى الله كلمتها).

ثم الذي يُلاحظ في المسألة أنّ الشبهة جعلت ملازمةً بين (وجود النصّ) وبين (عدم الاختلاف)، وما دام أنّ أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) قد اختلفوا في تعيين الإمام ووقعوا في الحيرة، فيلزمه أنّه لا يوجد نصّ على أسماء الأئمّة الاثني عشر؛ إذ لو كان النصّ موجوداً لَـمَا وقع الاختلاف، وهذا يعني أنّ النصوص التي تضمّنت أسماء الأئمّة الاثني عشر – كحديث اللوح وغيره – هي أحاديث مصنوعة مكذوبة بعد زمان الأئمّة (عليهم السلام) في فترة الغيبة والحيرة.

وعليه يقع الجواب عن هذه الشبهة من وجهين نقضاً وحلّاً:

الوجه الأوّل: الجواب النقضي:

إذا كانت هناك ملازمة بين (وجود النص) و(عدم الاختلاف)، لَـمَا حدث أي اختلاف في نبوة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) على الرغم من تنصيص النبي عيسى (عليه السلام) عليه، كما ورد في قوله تعالى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]. وكذلك الأمر بالنسبة لخلافة أمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث توجد نصوص متواترة – مثل حديث الغدير وحديث المنزلة وغيرها – تؤكد إمامته وخلافته. فقد نصّ النبي (صلى الله عليه وآله) على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) بعده، ومع ذلك اختلف الناس حول ذلك وخالفوا أمر رسول الله، كما هو معروف. 

هذا يشير إلى أن وجود النص لا يعني بالضرورة عدم وجود الاختلاف، لأنه قد يُعتبر دليلاً على أنّ الأحاديث المتواترة والمشهورة على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) مكذوبة، وهذا ما لا يقول به الزيديّة أنفسهم، وذلك أنّهم يذهبون إلى أنّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله) نصّ على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام)، نصا جليا بلا فصل [انظر: الأساس ص69، الإصباح على المصباح ص120، حقائق المعرفة ص480].

ومن الواضح أنّ القول بالملازمة بين (وجود النصّ) وبين (عدم الاختلاف)، يلزمه إبطال حقّ كلّ ذي حقّ مع تخلّل الاختلاف؛ وذلك لأنّ (وجود النصّ) يعني وجود الحقّ بالخلافة، فالملازمة بين (وجود الحقّ) و(عدم الاختلاف) يعني أنّ حصول الاختلاف يكشف عن (بطلان الحقّ)، وهل يمكن الالتزام بمثل هذا الكلام الذي يبطل كلّ حقّ مع حصول الاختلاف، كما في اختلاف أهل الكتاب في نبوّة النبيّ (صلى الله عليه وآله) المنصوص عليه في الكتب السابقة؟!

وقد أشار الشيخ الصدوق لذلك في جواب شبهة بعض الزيديّة: (إنكم تقولون: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) استخلف عليّاً (عليه السلام)، وجعله الإمام بعده، ونصّ عليه، وأشار إليه، وبيّن أمره وشهّره، فما بال أكثر الأمّة ذهبت عنه وتباعدت منه حتّى خرج من المدينة إلى ينبع [البقيع] وجرى عليه ما جرى، فإنْ قلتم: إنّ عليّاً (عليه السلام) لم يستخلفه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلِمَ أودعتم كتبكم ذلك وتكلّمتم عليه؟!) [كمال الدين ص68].

الوجه الثاني: الجواب الحلّي:

بعد أنّ تبين مـمّا تقدّم: أنّه لا ملازمة بين (وجود النصّ) وبين (حصول الاختلاف)، فينبغي تفسير ظاهرة الاختلاف الحاصلة في النصّ على الأئمّة (عليهم السلام)، ومنشأ حصول الحيرة عند بعض الأصحاب، فنقول:

إنّ قضيّة النصّ على الأئمّة الاثني عشر تعـدّ من القضايا الحسّاسة، والتي تمّ تداولها في نطاق ضيّق؛ وذلك للحفاظ على حياة الأئمّة من السلاطين والجبابرة، فهي من الأسرار التي ورد النهي الشديد عن إفشائها والبوح بها، وجاء الذمّ الغليظ على مَن يذيعها ويشيعها، من ذلك: ما رواه المعلّى بن خنيس قال: قال لي الصادق (عليه السلام): «يا معلّى، اكتم أمرنا، ولا تذعه - إلى أن قال: - يا معلّى، إنّ المذيع لأمرنا كالجاحد له» [الكافي ج2 ص223-224]، وهي واضحة الدلالة على حرمة إذاعة أسرارهم، وكشف الستر عن خصوصيّاتهم ومزايا شيعتهم؛ وذلك لترتّب الضرر على المذيع والمؤمنين بل وعلى الأئمّة (عليهم السلام)، كما صرّح بذلك المولى المازندرانيّ بقوله: (وضرر الإذاعة يعود إلى المذيع وإلى المعصوم وإلى المؤمنين، واعلم أنّه (عليه السلام) كان خائفاً من أعداء الدين على نفسه المقدّسة، وعلى شيعته، وكان في تقيّة شديدة منهم، فلذلك نهى عن إذاعة خبر دالّ على إمامته وإمامة آبائه وأولاده الطاهرين) [شرح أصول الكافي ج١٠ص٣٤].

فالسلاطين كانوا يتربّصون بالأئمّة الدوائر للقضاء عليهم، ومن جملة الشواهد على ذلك: أنّه لـمّا استُشهد الإمام الصادق (عليه السلام) أمر المنصور الدوانيقيّ والي المدينة محمّد بن سليمان أن يبحث عمّن أوصى الإمام (عليه السلام) به واستخلفه للإمامة بعده ليقتله، وقد بحث والي المدينة عنه فوجد أنّ الإمام (عليه السلام) أوصى إلى خمسةٍ، وهم: المنصور الدوانيقيّ ووالي المدينة وعبد الله الأفطح وحميدة زوجته وعبد الله الأفطح والإمام الكاظم (عليه السلام)، فعمّى الإمام الصادق (عليه السلام) على عيون السلطة خليفته الحقيقيّ من بعده بهذه الوصيّة الظاهريّة حفاظاً عليه، ولـمّا أخبر والي المدينة الدوانيقيَّ بذلك غضب وقال: كيف يمكن قتل جميع هؤلاء؟ [ينظر الكافي ج١ ص310].

ومثل هذه الوصيّة الظاهريّة لَـم يخفَ وجهها على حواري الإمام (عليه السلام)، أمثال أبي حمزة الثماليّ الذي قال – لـمّا سمع بها -: «الحمد لله الذي هدانا إلى الهدى، وبيّن لنا عن الكبير، ودلّنا على الصغير، وأخفى عن أمر عظيم» [مناقب آل أبي طالب ج3 ص434]؛ وذلك لأنّ الأوّلَين – أي المنصور والوالي – غير مؤهّلين للإمامة أصلاً لعدم كونهم من ذريّة النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وأمّا حميدة فهي مرأة ولا تكون المرأة إماماً، وأمّا عبد الله الأفطح فقد كان ناقصاً بفطحه، ولا يكون الإمام ناقصاً، فتعيّن أن يكون الإمام الكاظم (عليه السلام) هو الإمام بعد أبيه الصادق (عليه السلام).

فنظراً للتحديات التي واجهها أئمّة الهدى (عليهم السلام) أصبح الإفصاح عن النصوص مثل حديث اللوح يشكل خطراً على حياتهم، ولم يكن ذلك ممكناً إلّا للأشخاص الموثوق بهم كأصحاب السرّ، وقد كان الاختلاف بعد كلّ إمام أمراً طبيعيّاً يحدث حتّى في ظلّ وجود النصوص، وله أسبابه ودوافعه لدى بعض الأتباع، كما حدث مع استخلاف النبيّ موسى (عليه السلام) أخيه هارون النبيّ (عليه السلام) على قومه فترة ذهابه إلى ميقات ربّه، فاتّبع بنو إسرائيل السامريَّ وعبدوا العجل، ومثل ذلك حدث مع أئمّتنا (عليهم السلام)، حيث اختلف بعضُ الناس في إمامتهم وظهرت فرقٌ كالزيديّة والواقفيّة والفطحيّة: إمّـا بسبب الجهل بالنصوص الدالّة على إمامتهم بسبب عدم الفحص الكافي أو خطورة إذاعة النصوص أو لعروض شبهةٍ، وإمّـا بسبب الطمع والجشع كما حصل لجملة من الواقفة الذين استأثروا بالأموال ولَـم يقرّوا بإمامة الإمام الرضا (عليه السلام) إذ كان عندهم مالٌ كثير للإمام الكاظم (عليه السلام)، وإمّا لغير ذلك.

وعلى كلِّ حال، فإنّ حصول الاختلاف لا يعني بطلان الحقّ وعدم حقّانيته، فإنّ حقانيّة نبوّة النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) ثابتة بالبرهان القاطع ومع ذلك نجد البعضَ يخالف في ذلك، وكذلك إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث نصّت الآيات الكثيرة والأحاديث المتواترة على إمامته ومع ذلك نازعه القومُ وخالفوا أمر الله تعالى وأمر رسوله الكريم، وكذلك غيرها من المسائل الحقّة التي وقع الاختلاف فيها، ولهذا نجدُ أنّ مثل الشيخ الصدوق يقول – في معالجة شبهة الزيديّة بخصوص المورد، بعد ذكره الجوابَ النقضيّ -: (فإنّ الناس قد يذهبون عن الحقّ وإنْ كان واضحاً، وعن البيان وإنْ كان مشروحاً، كما ذهبوا عن التوحيد إلى التلحيد، ومن قوله عزّ وجلّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} إلى التشبيه) [كمال الدين ص69].

نكتفي بهذا القدر، والحمد لله أولا وآخراً.