تقرير الاستدلال بآية الولاية على الإمامة
كيف يمكن الاستدلال بالآية الكريمة {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة/٥٥]. على إمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) ؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: ٥٥] يُعرَف بـ: «آية الولاية»، وقد استدلّ به الشيعة الإماميّة على إمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع)، ولبيان وجه استدلالهم ينبغي توضيح بعض مفردات الآية الكريمة، وهي:
الأولى: مفردة {إِنَّما}:
وهي تفيد الحصر، فتُثبِت الحكم لِـما يأتي بعدها وتنفيه عن غيره، وهذا معروفٌ عند علماء اللغة، ونصّ عليه الفرّاء وابن فارس والزجّاج والفارسيُّ والزمخشريُّ والرضيُّ وغيرهم [ينظر: الصاحبيّ ص94، معاني القرآن ج1 ص243، الشيرازيّات ج1 ص253، شرح الكافية ج4 ص58، شرح ابن عقيل ج1 ص235، وغيرها].
وبناءً عليه، تفيد هذه المفردة قصر الولاية في هذه الآية الكريمة على الثلاثة المذكورين بالتسلسل: الله تعالى، الرسول، الذين آمنوا، قال الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}. وهذه تعـدّ قرينةً على أنّ المراد بـ(الولي) معنىً مخصوص، وليس المراد هو الموالاة في الدين؛ لأنّ الآية تحصر الولاية في الثلاثة المذكورين، بينما الموالاة في الدين عامّة.
قال الشيخ الطوسيُّ: (الّذي يدلُّ على أنّ المراد به في الآية ما ذكرناه: هو أنّ اللّه تعالى نفى أن يكون لنا وليٌّ غير اللّه وغير رسوله والّذين آمنوا؛ بلفظة: {إِنَّمَا}. ولو كان المراد به الموالاة في الدين لما خصّ بها المذكورين؛ لأنّ الموالاة في الدّين عامّة في المؤمنين كلّهم، قال اللّه تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71].
والّذي يدلّ على أنّ لفظة «أنّما» تفيد التّخصيص: أنّ القائل إذا قال: (إنّما لك عندي درهم)، فُهِمَ منه نفي ما زاد عليه، وجرى مجرى: (ليس لك عندي إلّا درهم). وكذلك إذا قالوا: (إنّما النّحاة المدقّقون: البصريّون) فُهِمَ نفي التدقيق عن غيرهم. وكذلك إذا قالوا: (إنّما السخاء سخاء حاتم) فُهِمَ نفي السخاء عن غيره) [الرسائل العشر (المفصح في الإمامة) ص129ـ131].
الثانية: مفردة {وَلِيُّكُمُ}:
وقد ذهب علماء الشيعة -تبعاً لأئمّتهم (ع)- إلى أنّها تفيد معنى ولاية الأمر. ولبيان وجه ذلك نقول:
لو بُني على أنّ لفظ (الوليّ) مشتركٌ معنويٌّ – كما ذهب إليه أساطين علماء الفرقة المحقّة (أعلى الله برهانهم) – فهو موضوع لمعنى الأحقّ والأولى، فتتمّ دلالة الآية الكريمة على المطلوب.
ولو بُني على أنّه مشتركٌ لفظيٌّ على غرار لفظ (العين) الذي يشترك معناه الموضوع في الباصرة والماء والجاسوس وغيرها، فيكون تعيين المعنى الذي استُعمل فيه اللفظ المشترك إنّما هو بالقرينة المعيّنة له، فلو قال: (أخبرني عينٌ من عيوني) يُعلم بالقرينة أن المراد بالعين هو الجاسوس، كما هو الحال في سائر الألفاظ المشتركة، ولو رجعنا إلى القرائن اللفظيّة والحاليّة لآية الولاية نجدها تعيّن المعنى الذي تقصده الإماميّة وهو الأولويّة والأحقيّة بالأمر الثابتة للَّه وللرسول (ص) فهي ثابتةٌ للذين آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ
ومن جملة القرائن الدالّة على تعيّن معنى الأولويّة والأحقيّة بالأمر في الآية الكريمة:
1ـ الاطّراد: وهو أنّ اللفظ إذا كان موضوعاً لمعنىً عامّ ولكن كثر استعماله في أحد مصاديقه، فإنّ كثرة الاستعمال توجب ظهوره في ذلك المصداق عند إطلاقه دون الحاجة لقرينة، وقد ذكر العلماء: أنّ كثرة الاستعمال قرينةٌ على الانصراف.
نظير لفظ (الرسول) الموضوع لأيّ شخصٍ أُرسل إلى جماعةٍ أو فرد، ولكن لـمّا كثر استعماله للدلالة على النبيّ الأعظم (ص) صار ذلك موجباً لظهور اللفظ فيه، ونظير لفظ (العين) الموضوع للباصرة والنابعة والجاسوس، ولكن كثرة استعماله في الباصرة أوجب ظهوره فيها عند عدم القرينة.
وكذلك كلمة (الولاية) في الآية الكريمة، فإنّ كثرة الاستعمال القرآنيّ لها بمعنى الأولى بالتصرّف في عشرات الآيات، وكذلك في الأحاديث الشريفة، توجب انصراف اللفظ لها.
2ـ الاقتران: فإنّ الولاية المذكورة في الآية لا تشير إلى علاقةٍ بين أفرادٍ متساوين في الدرجة، بل هي تعبّر عن ولاية فردٍ متميّزٍ على الآخرين، وهذا يتضح من اقتران ولاية {وَالَّذِينَ آمَنُوا} بولاية الرسول وولاية الله تعالى، حيث يتمُّ وصفهم بمستوىً عالٍ من العبادة والتقوى، كما يتجلّى في قوله: {يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}؛ لذا لا يمكن فهم الآية على أنها تعبّر عن تبادل للولاية، بل تشير إلى ولاية الرسول على المؤمنين، وكذلك إلى دور المؤمنين في الحكومة والإدارة الاجتماعيَّة والسياسيَّة.
3ـ القيود: وهو أنَّ الآية لم تجعل قيداً في ولاية الله ورسوله، بينما جعلت لولاية الذين آمنوا قيوداً، وهذه القيود – إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة حال الركوع - تطرد مشاركة عامّة المؤمنين فيها؛ إذ تفرّد بها أمير المؤمنين (ع) كما جاء في الأخبار والآثار، وانحصار مصداق الآية فيه يدلّ على كون الولاية المذكورة ليست ولايةً عامّةً بل خاصّة على غرار ولاية الله وولاية الرسول.
4ـ الحصر: فالآية الكريمة حصرت الولاية بقولها: {إِنَّمَا وَلِيّكُم..} بثلاثة أصناف، وقد ذكرها عند بيان المفردة الأولى: أنّ الحصر تعـدّ قرينة على أنّ المراد بـ(الولي) معنىً مخصوص، وليس المراد هو الموالاة في الدين؛ لأنّ الآية تحصر الولاية في الثلاثة المذكورين، بينما الموالاة في الدين عامّة.
وقد تعرضنا لتفصيل الكلام في كون لفظ (المولى) مشتركاً معنويّاً أو لفظيَّاً في جواب سابق بعنوان: (لفظ المولى بين الاشتراك اللفظيّ والاشتراك المعنويّ).
الثالثة: مفردة: {وَالَّذِينَ آمَنُوا..}:
المعروف عند علماء المسلمين أنّ الآية الكريمة نزلت في حقّ أمير المؤمنين (ع)، وصرّح بذلك كثيرٌ من علماء المخالفين، كالشريف الجرجانيّ في قوله: (وقد أجمع أئمّة التفسير على أنّ المراد بـ{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ – إلى قوله تعالى - وَهُمْ رَاكِعُونَ} عليٌّ، فإنّه كان في الصلاة راكعاً، فسأله سائلٌ فأعطاه خاتمه، فنزلت الآية) [شرح المواقف ج3 ص641]، والتفتازانيّ في قوله: (نزلت باتّفاق المفسّرين في عليّ بن أبي طالب (رض) حين أعطى خاتمه وهو راكع في صلاته) [شرح المقاصد ج2 ص288]، والآلوسيّ في قوله: (والآية عند معظم المحدّثين نزلت في عليّ (كرّم الله وجهه) [روح المعاني ج6 ص186]، وقد ذكرنا في أجوبةٍ سابقةٍ جملةً من تصريحاتهم بهذا الخصوص، فيمكن مراجعتها.
وأمّـا استعمال لفظ الجمع (الذين) في المفرد -وهو أمير المؤمنين (ع)- فقد بيّنا وجهه مفصّلاً في جوابٍ سابقٍ عن استعمال القرآن صيغة الجمع للمفرد في آية الولاية، وخلاصة ما ذكرناه: أنّ استعمال (الذين) في الآية:
أمّا حقيقيّ: فيكون المراد بـ(الذين) هم الأئمّة الاثني عشر (ع)، وأمير المؤمنين (ع) – الذي هو أوّل الأئمّة – هو شأن نزولها.
وأمّا مجازيّ: فيكون المراد بـ(الذين) خصوص أمير المؤمنين (ع)، والمبرّر لهذا الاستعمال المجازيّ: التفخيم والتعظيم كما هو معروف ومشهور في لسان العرب من استعمال لفظ الجمع في المفرد بقصد التعظيم، أو الترغيب والحضّ على فعل الطاعات المذكورة في الآية، أو دفع شرور المناوئين وتبريد قلوب الحاقدين الذين لا يطيقون نزول الولاية في خصوص أمير المؤمنين (ع).
والمتحصّل: بعد أنْ تمّ بيان معاني المفردات الواردة في الآية الكريمة، حيث عرفنا دلالة {إِنَّمَا} على حصر الولاية في الله تعالى والرسول والذين آمنوا، وعرفنا أنّ معنى {وليّكم} هو الأولويّة والأحقيّة وولاية الأمر، وعرفنا أنّ المراد بـ{وَالَّذينَ آمَنُوا...} هو أمير المؤمنين (ع)، يتبيّن: أنّ معنى الآية الكريمة: إنّما وليّ أمركم والأولى بكم هو الله تعالى ورسوله وأمير المؤمنين.
نكتفي بهذا القدر، والحمد لله أوّلاً وآخراً.
اترك تعليق