يوم الغدير الأغر.. عيد الله الأكبر
قبل الخوض في غمار الحديث والبحث في تفاصيل الموضوع، لابدّ من تسليط الضوء - ولو بصورة مقتضبة - على مفردات العنوان وما انطوى عليه من مضامين.
فأقول: أما وصفه بيوم الغدير الأغر؛ فذلك لأنه أشهر من أن يذكر، واعرف من أن ينكر, حيث سارت حادثته بين الناس مسير الشمس في الأقطار، فهو اليوم الذي امتن الله عز وجل فيه على الناس وأغدق عليهم بأفضل النعم وأعظمها وهي نعمة الولاية والامامة الكبرى والخلافة العظمى التي قلدها رسول الله (صلى الله عليه واله) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ممتثلا بذلك أمر ربه في قوله عز وجل : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ} يعني في استخلاف عليّ (عليه السلام) والنص بالإمامة عليه, {وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فأكد الفرض عليه بذلك بأنّه إن لم يُنفِّذ إرادة الله ، ذهبتْ أتعابه ، وضاعت جهوده ، وتبدَّدَ ما لاقَاهُ من العناء في سبيل هذا الدين.
وأما نعته بانه عيد الله الاكبر، فذلك مستوحى من روايات وأحاديث أشارت الى شأن هذا العيد ومنزلته عند الله تعالى وأهل السماء والأرض، فقد نقل الشيخ الطوسي رواية ينتهي سندها الى محمد بن ابي نصير، قوله: " دخلت على عليّ ابن موسى الرضا (عليهم السلام) والمجلس غاص باهله، فتذاكروا يوم الغدير، فأنكره بعض الناس! فقال الرضا (عليه السلام): حدثني أبي عن أبيه (عليهما السلام) قال: إنّ يوم الغدير في السماء أشهر منه في الارض. أن الله بنى في الفردوس الأعلى قصراً لبنة من فضة و لبنة من ذهب ، فيه مائة ألف قبّة من ياقوتة حمراء ومائة ألف خيمة من ياقوت أخضر ، ترابه المسك والعنبر ، فيه أربعة أنهار, نهر من خمر ، ونهر من ماء ، ونهر من لبن ، ونهر من عسل ، وحواليه أشجار جميع الفواكه ، عليه طيور أبدانها من لؤلؤ ، واجنحتها من ياقوت ، تصوّت بالوان الاصوات ، إذا كان يوم الغدير ورد إلى ذلك القصر أهل السماوات يسبّحون الله ويقدّسونه و يهلّلونه ، فتتطاير تلك الطيور فتقع في ذلك الماء وتتمرغ على ذلك المسك والعنبر فإذا اجتمعت الملائكة طارت فتنفض ذلك عليهم و أنهم في ذلك اليوم ليتهادون نثار فاطمة (عليها السلام) فاذا كان اخر ذلك اليوم نودوا انصرفوا إلى مراتبكم فقد أمنتم من الخطأ والزلل الى قابل في مثل هذا اليوم تكرمة لمحمد (صلى الله عليه واله ) و عليّ (عليه السلام) .
ثم قال عليه السلام : يا بن أبي نصير أين ما كنت فاحضر يوم الغدير عند أمير المؤمنين (عليه السلام) فان الله يغفر لكل مؤمن و مؤمنة و مسلم و مسلمة ذنوب ستين سنة ، و يعتق من النار ضعف ما أعتق في شهر رمضان وليلة القدر وليلة الفطر والدرهم فيه بألف درهم لإخوانك العارفين ، فأفضل على اخوانك في هذا اليوم ، و سرّ فيه كل مؤمن و مؤمنة " ثم قال: يا أهل الكوفة لقد اعطيتم خيراً كثيراً وانكم لممن امتحن الله قلبه للأيمان ، مستقلون مقهورون ممتحنون يُصبّ عليكم البلاء صبّاً ، ثم يكشفه كاشف الكرب العظيم ، والله لو عرف الناس فضل هذا اليوم بحقيقته لصافحتهم الملائكة في كل يوم عشر مرات ، و لولا اني أكره التطويل لذكرتُ من فضل هذا اليوم ما أعطى الله فيه من عرَفَهُ ما لا يُحصى بعدد ."
والأعياد تنقسم الى قسمين: تشريعية وتكوينية، الأعياد التشريعية هي التي أقرّها الله عزّ وجلّ وتكون مقرونة بالنصر، والنصر تارة يكون على هوى النفس كما هو حال الصائم في شهر رمضان فيظهر فرحة النصر على أهوائه في عيد الفطر السعيد، وأخرى بحصول التوفيق في أداء مناسك الحج كعيد الاضحى المبارك، وثالثة بتنصيب الإمام الحق والإعلان عن ولايته وامامته كعيد الغدير الأغر الذي نحن بصدد الكلام عنه.
واما الأعياد التكوينية فهي نوع من العودة الى عالم الطبيعة كعيد النيروز.
ما تقدم كان كله في بيان العنوان، وأما الكلام حول المناسبة فهو كالآتي:
يُسمَّى هذا العيد بـعيد الغدير نسبة إلى المكان الذي وقعت فيه مراسم التنصيب الالهي والتتويج الرباني للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهذا المكان عرف بـ(غدير خم) وتقيّيد لفظ "الغدير" بإضافته إلى "خُمّ" انما هو للتمييز بينه وبين غدران أُخرى، قُيّدت ـ هي الأخرى ـ بالإضافة، أمثال:
ـ غدير الأشطاط: موضع قرب عسفان.
ـ غدير البركة: بركة زبيدة.
ـ غدير البنات: في أسفل وادي خماس.
ـ غدير سلمان: في وادي الأغراف.
ـ غدير العروس: في وادي الأغراف أيضاً.
وغدير خُمّ يقع في وادي الجحفة، على يسرة طريق الحاجّ من المدينة إلى مكّة، عند مبتدأ وادي الجحفة، حيث منتهى وادي الخرّار.
ولهذا العيد مسميات أخرى، فتارة يسمى عيد الولاية، كونه اليوم الذي أعلن فيه رسول الله (صلى الله عليه واله) ولاية وإمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) على المسلمين من بعده، وأخرى بعيد يوم العهد المعهود، وثالثة بعيد يوم الميثاق المأخوذ والجمع المشهود.
أما عن تفاصيل تلك المراسم الالهية فهي كالآتي:
لمّا قضى رسول الله (صلى الله عليه واله) نسكه أشرك الإمام عليّ (عليه السلام) في هديه، وقفل راجعاً إلى المدينة معه الإمام عليّ (عليه السلام) والمسلمون حتى انتهى إلى الموضع المعروف بـ(غدير خم) وليس بموضع يصلح للمنزل لعدم الماء فيه والمرعى، فنزل (صلى الله عليه وآله) في ذلك الموضع ونزل المسلمون معه.
وكان سبب نزوله في هذا المكان، هو نزول القرآن عليه بتنصيب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) خليفة وإماما في الأمة بعده، وكان قد تقدّم الوحي اليه في ذلك من غير توقيت له، فأخره لحضور وقت يأمن فيه الاختلاف منهم عليه.
وعلم الله عزّ وجلّ انّه إنْ تجاوز غدير خم انفصل عنه كثير من الناس إلى بلدانهم وأماكنهم وبواديهم، فأراد الله أن يجمعهم لسماع النصّ بخلافة وإمامة أمير المؤمنين عليه السلام وتأكد الحجة عليهم فيه.
فأمَرَ (صلَّى الله عليه وآله) باجتماع الناس، فَصلَّى بهم، وبعد ما انتهى من الصلاة، أمر أن توضع حدائج الإبل لتكون له منبراً، ففعلوا له ذلك، فاعتلى عليها وكان عدد الحاضرين ـ فيما يقول المؤرِّخون ـ مِائة ألف، أو يَزيدونَ على ذلك.
بدأ (صلى الله عليه واله) خطبته بذكر ما لاقاه من العناء والجهد في سبيل هدايتهم وإنقاذهم من الحياة الجاهلية والرق والعبودية، إلى الحياة الكريمة التي جاء بها الإسلام، كما ذكر (صلى الله عليه وآله) لهم جملة من الأحكام الدينية، وألزمهم بتطبيقها على واقع حياتهم، ثُمّ قال لهم: (انظُروا كَيفَ تخلفوني في الثقلين)، فناداهُ منادٍ من القوم: ما الثقلان يا رسول الله؟ فقال (صلَّى الله عليه وآله): (الثقل الأكبر: كتاب الله، طرف بيد الله عزَّ وجلَّ، وطرف بأيديكم، فتمسكوا به لا تضلُّوا، والآخر الأصغر: عترتي. وإنّ اللطيف الخبير نبأني: أنَّهما لنْ يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فسألتُ ذلك لهما ربي، فلا تقدِّموهما فتهلكوا، ولا تقصِّروا عنهما فتهلكوا)، ثُمّ أخذ (صلَّى الله عليه وآله) بيد أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) ـ لِيَفرضَ ولايته على الناس جميعاً ـ حتى بَانَ بَياضُ إِبطَيْهِمَا، فنظر إليهما القوم، ثُمّ رفع (صلَّى الله عليه وآله) صوته قائلاً: (يَا أَيُّهَا النَّاس، مَنْ أولَى النَّاس بِالمؤمنين مِن أَنفُسِهم؟ فأجابوه جميعاً: اللهُ ورسولُه أعلم. فقال (صلَّى الله عليه وآله): (إنَّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولَى بهم من أنفسِهِم، فَمَن كنتُ مَولاه فَعَلِيٌّ مَولاهُ) قال ذلك ثلاث مرَّات أو أربع، ثُمّ قال (صلَّى الله عليه وآله): (اللَّهُمَّ وَالِ مَن وَالاَهُ وَعَادِ مَن عَادَاهُ، وَأَحِبَّ مَن أَحبَّهُ وَأبغضْ مَن أبغَضَهُ، وانصُرْ مَن نَصَرَه واخْذُل مَن خَذَلَهُ، وَأَدِرِ الحَقَّ مَعَهُ حَيثُ دَار، أَلا فَلْيُبَلِّغِ الشاهِدُ الغَائِبَ).
وبذلك أنهى (صلَّى الله عليه وآله) خطابه الشريف الذي أَدَّى فِيه رسالة الله، فَنَصَّبَ أمير المؤمنين (عليه السلام) خليفة، وأقامه عَلَماً للأمّة، وقَلَّدَهُ مَنصب الإمامة، فقال ابن عبّاس: "وَجَبَتْ ـ والله ـ في أعناق القوم" ; يعنى بذلك البيعة بالولاية والإمرة والخلافة.
"ثمَّ طفق القوم يهنّئون أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، وممّن هنّأه في مقدّم الصحابة: أبو بكر وعمر، كلٌّ يقول: بخٍ بخٍ لك يا بن أبى طالب! أصبحتَ وأمسيتَ مولاي ومولي كلّ مؤمن ومؤمنة".
فهذا اليوم هو أهم أعظم عيد في الكون والدليل على أهميته عدَّة أحاديث، منها:
عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد، عن الإمام جعفر الصادق: «قلت: جعلت فداك للمسلمين عيد غير العيدين؟ قال: نعم يا حسن أعظمهما وأشرفهما، قلت: وأي يوم هو؟ قال: هو يوم نصب أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه فيه علما للناس، قلت: جعلت فداك وما ينبغي لنا أن نصنع فيه؟ قال: تصومه يا حسن وتكثر الصلاة على محمد وآله وتبرء إلى الله ممن ظلمهم فإن الانبياء صلوات الله عليهم كانت تأمر الاوصياء باليوم الذي كان يقام فيه الوصي أن يتخذ عيدا، قال: قلت: فما لمن صامه ؟ قال: صيام ستين شهرا... ».
وعن المفضل بن عمر قال: قلت للأمام جعفر الصادق: «كم للمسلمين من عيد؟ فقال: أربعة أعياد. قال: قلت: قد عرفت العيدين والجمعة. فقال لي: أعظمها وأشرفها يوم الثامن عشر من ذي الحجة، وهو اليوم الذي أقام فيه رسول الله أمير المؤمنين ونصبه للناس عَلَما. قال: قلت: ما يجب علينا في ذلك اليوم؟ قال: يجب عليكم صيامه شكرا لله وحمدا له، مع أنه أهل أن يشكر كل ساعة، كذلك أمرت الأنبياء أوصياءها أن يصوموا اليوم الذي يقام فيه الوصي ويتخذونه عيدا».
وورد لهذا اليوم العديد من الأعمال التي يحرص كل مؤمن على عدم فواتها: كالصوم, والغسل, وزيارة أمير المؤمنين(عليه السلام), وقراءة دعاء الندبة, وتهنئة المؤمنون لبعضهم البعض و ذلك بقول: ( الحمد لله الذي جعلنا من المتمسكين بولاية أمير المؤمنين و الأئمة عليهم السلام), ومؤاخاة المؤمن لأخيه المؤمن بقوله: ( وآخيتك في الله و صافيتك في الله و صافحتك في الله و عاهدت الله و ملائكته و رسله و أنبياءهُ و الأئمة المعصومين عليهم السلام على أني إن كنت من أهل الجنة و الشفاعة و أُذِن لي بأن أدخُل الجنة لا أدخُلُها إلاّ و أنت معي), ثم يقول أخوه المؤمن: قَبِلتُ ، ثم يقول: (أسقطتُ عنك جميع حقوق الأخوةِ ما خلا الشفاعة والدعاء والزيارة). [راجع مفاتيح الجنان].
جعلنا الله واياكم من المتمسكين بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
اترك تعليق