هل ادعاء مُسَيلَمَة الكذّاب وغيره للنبوّة ينفي موضوع الإمامة..؟!

السؤال: ((‏لماذا قام مسيلمة ، وطُليحة ، والأسود العنسي ، وسجاح بادّعاء النبوّة بعد وفاة النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ) ولم يدّعوا الإمامة..؟!. إنّ ذلك يكشف لنا عن عدم وجود شيء اسمه الإمامة، لأنّها لو كانت موجودة لكان الأجدر بهؤلاء أن يدّعوها حتّى تجتمع عليهم الناس، لكنّهم علموا أنّ النبيّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ) لم ينصَّ على أحد بعده، فنازعوه في مقام النبوّة..!.))

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم ، من الواضح أن السائل يهدف إلى التشكيك في مسألة الإمامة في الإسلام، محاولًا إقناع جمهور المسلمين بفكرة جديدة تناقض الإمامة. هذا السعي يكشف عن جهله أو تجاهله لأدنى المعايير العلمية المعتبرة في عملية البرهنة، حيث يستخدم ادعاءات النبوة الكاذبة كدليل على نفي وجود الإمامة في الإسلام. غير مدرك أنّ هذا التصرف يؤدّي إلى اتهام الله تعالى ورسوله الكريم (صلّى الله عليه وآله) بأمور لا تليق بساحتيهما، كما سيتضح لاحقًا. للرد على كلّ ما ذُكر سيتمّ البحث في مسألتين رئيستين اشتمل عليهما السؤال:

فأمّا المسألة الأولى: ففي ما يتعلّق بقوله: (إنّ ادعاءهم النبوة يكشف لنا عن عدم وجود شيء اسمه الإمامة) ، وله جوابان ، أحدهما نقضي والآخر حَلِّي:

1- فأمّا الجواب النقضي فحاصله: أنّ "حكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد"؛ وعليه فإنّ لازم كلامكم هو التأسيس لقاعدة مفادها: (أنّ كلّ ما لا يدّعيه الكافر لا وجود له)، فينتج عن ذلك عدم وجود النبوّة أيضاً؛ لأنّ فرعون والنمرود - مثلاً - ادّعيا الربوبيّة ولم يدّعيا النبوّة؛ وهذا يكشف لنا عدم وجود شيء اسمه النبوّة؛ وإلّا لادّعاها الرجلان ليجتمع الناس عليهما.!. وبالمثل، يمكن قول ذلك عن ماركس ولينين وستالين الذين ادّعوا الإلحاد ولم يدّعوا الألوهية، فإنّ دعواهم هذه تكشف عن عدم وجود إله ولا ألوهية؛ إذ لو كانت لادّعاها هؤلاء..!. ومن الواضح أنّ هكذا استدلال لا تصدر عن عقل سليم، فإنّ القضايا العقائديّة والحقائق الدينيّة لا يتمّ إثباتها أو نفيها عن طريق موقف الكفّار منها.

2- وأمّا الجواب الحَلّي فنقول فيه: إنّ كلّ من تأمّل الموضوع بعين العقل والبصيرة يمكنه أن يجد أسباباً منطقيّة كثيرة تجعل الأشخاص المذكورين في السؤال يدّعون النبوّة دون الإمامة، وهذه الأسباب على قسمين، فبعضها أسباب عامّة تشملهم جميعاً، وبعضها خاصّة تتعلّق ببعضهم دون البعض الآخر، ونحن نذكر هنا الأسباب العامّة مقتصرين على أربعة منها فقط:

أوّلاً: بالرغم من الاختلاف بين أتباع أهل البيت(عليهم السلام)، وبين أتباع السقيفة في موضوع الإمامة، وهل أنّها بالنصّ أم بغيره كالاختيار والشورى ونحوهما، إلّا أنّ الذين ادّعوا النبوّة لا يمكنهم دعوى الإمامة؛ وذلك لأنّ المسلمين من مختلف البلدان الإسلامية وأصقاع الأرض كانوا قد شهدوا بيعة الغدير - كما ثبت بالتواتر - وعلموا من خلالها أنّ النصّ بالإمامة كان على خصوص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) دون أحد سواه، فلو ظهر شخص وادّعى أنّه منصوص عليه من قِبَلِ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لبان كذّبه للمسلمين قاطبة وافتضح في دعواه.

ثانياً: لو افترضنا - وفرض المحال ليس بمحال - أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) رحل عن الدنيا ولم يُوصِ لأحد قبل وفاته، فإنّ هؤلاء الأربعة أيضاً لا يمكنهم الدعوة إلى الإمامة ؛ وذلك لأنّ التحقيق في سيرهم وتراجمهم يظهر أنّهم كانوا جميعاً من الكافرين، وليسوا من المسلمين. فالأسود العنسي كان كافرًا أصلياً، ومسيلمة الكذّاب وطليحة بن خويلد الأسدي كانا كافرَين مرتدَّين على عهد النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم)[انظر عن الثلاثة سنن البيهقي ج8 ص175]. أمّا سجاح التميميّة فكانت كافرةً كتابيّة من النصارى ادّعت النبوّة وتزوّجت بمسيلمة الكذّاب[يلاحظ البداية والنهاية ج6 ص352]. وعلى ضوء ذلك فلو ادّعى أحدهم أنّ الله خصّه بالإمامة والولاية على الأمّة، لعرف المسلمون كذبه بوضوح، فلا يتابعونه في دعواه؛ وذلك لسبق علمهم أنّ الله تعالى لن يجعل الولاية عليهم للكافرين، كما هو صريح قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}[النساء/41]. وأيضاً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء/59]، حيث يتضح من مفردة {منكم} أنّ الحاكم على المسلمين يجب أن يكون منهم، ولا يمكن أن يكون من غيرهم. [انظر تفسير الكاشف ج2 ص358].

نعم يمكن للكافر وكذا الظالم أن يتسلّط على رقاب المسلمين بالقوّة والقهر والغلبة، لا بتولية شرعيّة وجعل إلهي؛ فإنّ ملاك الإمامة تماماً كملاك النبوّة في انحصاره بيده تعالى وهو أعلم أين يضعها؛ لذا فكما قال تعالى في النبوّة:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه}[الأنعام/124] فقد قال في الإمامة:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة/124].

ثالثاً: يعتقد الشيعة أنّ الإمامة لا تكون إلّا بالنصّ[انظر عقائد الإمامية للمظفر ص74]. بناءً عليه فإن المطالبة بالنبوّة تكون أكثر سهولة على هؤلاء من المطالبة بالإمامة؛ لأنّ النبوّة يمكن أن تثبت بالمعجزات حتّى وإن لم يكن هنالك نصّ، وهذا يجعل من السهل على الدجّالين التلاعب بعقول الناس من خلال الشعبذة والسحر وخداع الحواسّ، كما فعل السامري فجعل بني إسرائيل يعبدون العجل. ومن الواضح أنّ المذكورين في السؤال كانوا ماهرين في هذه الأساليب الشيطانية، كما نطقت به سيرتهم وتاريخهم.

من هنا، نجد أن الله سبحانه لم يكتفِ في إثبات نبوّة رسوله الكريم(صلّى الله عليه وآله) بالمعجزات التي أجراها على يديه، كانشقاق القمر ونحوه، بل أيّد ذلك بالنصّ عليه في التوراة والإنجيل؛ لِيقطع الطريق أمام من يتّهمه بالسحر. فقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ}[الأعراف/157]. وقال أيضًا: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}[الصف/6]، بل قد عرَّفه الله تعالى لأهل الكتاب بطريقة لا تترك لهم مجالًا للشكّ أو الريب، ممّا جعل الحجة البالغة قائمة عليهم. قال تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة/146].

رابعاً: من الواضح أنّ المذكورين في السؤال ليس لديهم أدنى معرفة بأصول الدين الإسلامي أو فروعه، ولا بأحكام الشريعة ومسائلها. وإذا كان حال الصحابة هو الجهل بمعظم تلك الأحكام حتّى أنّهم يختلفون في المسائل الواضحة على عدة آراء، كما حصل عندما توفي النبي (صلى الله عليه وسلم)، فاختلفوا في عدد التكبيرات عندما أرادوا الصلاة على جثمانه الطاهر. فهل يكبرون ثلاث مرات، أم أربع، أم خمس، أم ست، أم سبع مرات..؟!، واستمر الخلاف حتى وفاة أبي بكر فجمعهم عمر بن الخطاب وطلب منهم توحيد رأيهم. [انظر عمدة القاري في شرح صحيح البخاري للعيني ج8 ص22]. أقول: إذا كان هكذا الوضع مع أولئك الذين صحبوا النبيّ 23 عاماً وشاهدوا صلواته على موتاهم وشهدائهم، ومع ذلك لم يتمكنوا من تذكرها بشكل صحيح، فكيف يمكن لمسيلمة ونظرائه أن يفهموا شيئاً من فقه المسلمين ليدّعوا الإمامة عليهم..؟!. أضف إلى ذلك أنّ جميع أولئك الذين ادّعوا النبوة كذباً، كانوا يلهثون خلف الدنيا وزخرفها فقط، ولم يريدوا أبداً الالتزام بأحكام الشريعة حتّى يتعلموها؛ ولهذا تجدهم يبتدعون ديناً جديداً يسقطون به الفرائض عن أتباعهم ويبيحون لهم المنكرات كما تشهد به سيرتهم.

وأمّا المسألة الثانية: فهي ترتبط بقوله: (لكنّهم علموا أنّ النبيّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ) لم ينصَّ على أحد بعده...). وفي مقام الجواب نقول:

1- إنّ مفهوم "اللطف الإلهي" الذي نطق به الذكر الحكيم في العديد من آياته كقوله تعالى:{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ }[الشورى/19]

إنّما يعني: (أنّ يقرّب الله عباده من الطاعة ويبعّدهم عن المعصية) [للمزيد عن معنى اللطف وأدلّته انظر عقائد الإماميّة للشيخ المظفر ص49]، وذلك بأن يبعث الله إليهم رسله يبلغونهم رسالاته ويرشدونهم إلى الغاية التي خلقهم لأجلها، كما أنّ من لطفه بهم أن يجعل لهم إماماً في كلّ عصر؛ ليكون مرشداً وهادياً لهم نحو الخير والحقّ والكمال، وليكون أيضاً حافظاً للشرع وتعاليم السماء؛ ومن هنا قال تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}[الرعد/7]. والعقل يستدل لوجوب اللطف على الله بعد ملاحظة الفرق بينه تعالى وبين مخلوقاته، فهو سبحانه العالم القادر والقوي القاهر فلابدّ - والحال هذه - أن يرحم الإنسان الجاهل العاجز والضعيف المقهور ويلطف به؛ لأنّ ذلك هو اللائق بساحة قدسه تبارك وتعالى، ولأنّه الغاية والغرض الذي من أجله خلق للإنسان لا يمكن أن يتمّ إلّا من خلال لطفه تعالى به.

فإذا عرفت ذلك فدعوى أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله) لم ينصّ على أحد من بعده، لا تعني إلّا أنّ الله لم يلطف بعباده وإنّما أوكلهم إلى أنفسهم وترك شرعه ودينه عرضةً إلى أهوائهم مع علمه تعالى بما يؤول إليه حالهم وإخباره عنه بقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران/144]؛ وإذن: يكون سبحانه وتعالى قد نقض غرضه من الخلقة بنفسه، وهذا ما ينافي حكمته ويثبت جواز العبث عليه جلّ شأنه، كما ويلزم منه كذب قوله تعالى:{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ... الآية}[الشورى/19]، فهل علم السائل أنّه بكلامه هذا إنّما يتّهم الله في حكمته ويكذّبه فيما أخبر عنه من لطفه..؟! تعالى ربّنا عن ذلك كلّه علوّا كبيراً.

2- إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أخبر المسلمين بأنّهم سيرتدّون من بعده حتّى لا يبقى منهم إلّا (مثل هَمَلِ النِّعَم) أي إلّا بعض الأفراد القلائل، كما تواتر ذلك عند الفريقين، وقد روى البخاري لوحده تسع روايات عن ذلك وبطرق مختلفة فضلاً عمّا رواه غيره [ينظر صحيح البخاري ج7 ص 207]، كما وثبت بأسانيد صحيحة إخباره (ص) بافتراق أمّته إلى 73 فرقة كلّها في النار إلّا واحدة[لاحظ المستدرك للحاكم ج1 ص128 وقال عنه: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرّجاه"] ، وكذلك ثبت بإسناد صحيح أخباره أصحابه بأنّهم سيسلكون طريق الانحراف الذي سلكه اليهود والنصارى في جميع المجالات حتّى في أخلاقهم. [البخاري ج4 ص144 ، ومسلم ج8 ص58 ، مسند أحمد ج3 ص84 ، ابن ماجه ]، فلو أنّه (صلّى الله عليه وآله) خرج عن الدنيا وترك أمّته على ما أخبر به لكان – يجلّ مقامه الشريف – قد ضيّع الإسلام والمسلمين..!، فهل علم السائل أنّه يتّهم النبيّ الأكرم (ص) بذلك..؟!، نعوذ بالله من سوء المعتقد وقبح الزلل ونسأله الثبات في القول والعمل..، والحمد لله ربّ العالمين.