هل الإمامة عند الشيعة لها مفهوم خاص؟ 

: السيد رعد المرسومي

مقدمة:

للإمامة في الفهم الشيعي معنىً خاص، يختلف عن معناها في كل المدارس الإسلامية الأخرى، فهو المذهب الوحيد الذي أوجب الإمامة في المعرفة الإسلامية، بنفس المرتبة التي تجب فيها النبوة، مما يعني أن الإمامة ليست ضرورة سياسية واجتماعية فحسب، وإنما هي ضرورة توحيدية اعتقاديه، لا تستقيم المعرفة الإسلامية بدونها.

وقد اتسع الجدل بين الشيعة والمدارس الإسلامية حول الإمامة، بسبب اتساع دلالة المقصود من الإمامة بين الطرفين، فالمدارس الأخرى تنطلق من وعي خاص، يحدد الإمامة باشتراطات تفرضها الظروف السياسية والتاريخية، فهي بالتالي لا تتعدى كونها ضرورة أوجدها الظرف التاريخي للمسلمين، فيتولد مفهوم الإمامة لديها وشروطها من خلال التجربة الإسلامية في الزعامة والحكم، وليس من النص، كمؤسس للخيار المعرفي لدى الإنسان المسلم، ومن هنا يتم حصر الإمامة في مفهوم الحكم والنظام السياسي الإسلامي.

ومن المؤكد أن خيارات المدارس المخالفة للتشيع في أمر الإمامة، خيارات مُلهَمة من التجربة التاريخية للمسلمين، حتى على مستوى كون الإمامة ضرورة سياسية، فالسؤال الذي يبحث عن نظام الحكم في الإسلام، لا تتم الإجابة عليه من خلال النص الديني، وإنما من خلال قراءة لواقع التجربة الإسلامية، مما يعني غياباً كاملاً لرؤية الرسالة في طبيعة الحكم الإسلامي.

فحقيقة الخلاف في الإمامة، تتسع باتساع المسافة الفاصلة بين الإسلام كدين ينطلق من الوحي، وبين الإسلام كتجربة ساهم في تكوينه الظرف التاريخي والبعد النفسي الاجتماعي.

فمن الصعب العثور على قواسم مشتركة، تقرب مفهوم الإمامة بين الطرفين، فالمفهوم الشيعي للإمامة يتأسس على حالة من القطيعة لواقع التجربة التاريخية، بعكس المدارس الأخرى التي استلهمت وعيها من واقع تلك التجربة.  

وأنا هنا لا أحاول أن أخلق نوعاً من المقاربة بين الطرفين، بقدر ما أحاول أن أرسم الملمح العام، الذي على أساسه تشكل الوعي الشيعي بمفهوم الإمامة، وسوف أركز الإشارة على البعد المعرفي والعقائدي، بوصفه المكون الحقيقي لمذهب الإمامية.

التوحيد والإمامة الارتباط والعلاقة:

لا يمكن تحقيق فهم للإمامة عند الشيعة إلا من خلال فهم العلاقة القائمة بين الله وبين خلقه، فإذا كان الله هو الخالق والإنسان هو المخلوق كيف يمكن أن يرتبط المخلوق بالخالق؟ وإذا كان توحيد الله تعالى يمثل الأساس الذي يبتني عليه اعتقاد الإنسان ومعارفه فكيف يتجلى هذا التوحيد في الحياة؟ 

ولكي نتمكن من رسم هذه الصورة بشكل أكثر وضوحاً عملت على تركيز البحث في نقاط تكون كل نقطة مقدمة للنقطة التي بعدها حتى نصل إلى النتيجة التي نبحث عنها. 

أولاً: إن حقيقة التوحيد تتجلى في التكوين والتشريع، أي في العقيدة والنظام؛ فالله هو الذي تكفل بالخلق والهداية، يقول تعالى: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى﴾(1)، وهذه الآية تأكيد لكلا المعنيين، التوحيد في التكوين والتشريع، فالله هو الذي أعطى الأشياء وجودها ونظامها، وهو الذي يمنحها غايتها ومنتهاها.

وتكشف هذه الحقيقة عن المالك الحقيقي والمهيمن على الوجود وهو الله سبحانه، الخالق والمدبر له الأمر والحكم: ﴿وَللهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (42)﴾(2)، ولا يشذّ الإنسان عن هذه القاعدة الشاملة، فهو ليس إلا مخلوقاً مربوباً لله تعالى، لا يملك من وجوده ومن شؤونه حولاً ولا قوة: ﴿ هَلْ أَتى عَلَى الإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً﴾(3)، ولكن غرور الإنسان وجهله يحجبه عن رؤية هذه الحقيقة الواضحة ﴿يا أَيُّهَا الإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8)﴾(4) ، فالإنسان في منطق القرآن، كائن مغرور بنفسه من غير أن يملك مبرراً لغروره، إذ لا يملك شيئاً من دون الله، فالإنسان مخلوق طارئ على هذا الوجود، مضطر في وجوده وبقائه لله تعالى، فهو ليس إلا عبداً مملوكاً لسيده. 

و من طبيعة المقابلة بين الله الخالق والمالك لخلقه، وبين الإنسان المخلوق المملوك لسيده، تأتي حقيقة (الحاكمية) المطلقة لله سبحانه على البشر جميعاً، بحيث لا يجوز للإنسان أن يتصرف في ملك الله، إلا بإذن خاص منه تعالى، فليس هو إلا عبد مملوك لسيده، لا يملك شيئاً في هذا الوجود، فكل ما هو مخلوق، مربوب لله تعالى، خاضع ومسلِّم له، يقول تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ﴾(5)، فالسجود - هنا- كاشف عن الخضوع التكويني لله تعالى في كل مظاهر الوجود، والإنسان المؤمن مظهر إرادي لهذا الخضوع الطبيعي المشترك. 

وهذا ما يؤكد أن الإرادة لا تعنى سوى المسؤولية، بحيث لا يخرج الإنسان من نظام الخلقة القائم بالله، وما خُصَّ به الإنسان دون سائر المخلوقات من حرية وإرادة، لا تُخرجه من ملكوت الله وحاكميته المطلقة، كما لا تحرر الإنسان من واقع فقره وحاجته لله سبحانه وتعالى.

فإذا لم يكن للإنسان سيادة على نفسه، فمن سفه الفكر، وسخافة التقدير، أن يعتقد بأن له سيادة على آخرين، والجميع في عرض واحد وهو العبودية المحضة لله تعالى، فالإنسان وكل ما يملك هو ملك لله تعالى الذي منحه الوجود: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ﴾ (6)، فهو المالك الوحيد، وله حق السيادة على ما يملك، قال الله تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) ﴾(7).

والتوحيد ضمن هذا الفهم، هو التسليم المطلق لله تعالى، بحيث لا يحق للإنسان أن يخرج عن سيادة الله طرفة عين، في فعله وسلوكه وكل شؤون حياته.

ثانياً: إذا ثبت ما قدمنا، بأن حقيقة الإنسان هي العبودية والمحكومية، بوصفه كائناً مخلوقاً مربوباً، لا يملك سيادة حتى على نفسه، وأن الله هو المالك والحاكم، بوصفه خالقاً ومدبراً لأمر الكون، نتساءل كيف يمكن أن تكون حاكمية الله على الإنسان، وهو مخلوق ذو طابع اختياري؟. 

لا يجوز لنا الاعتقاد بأن الله هو الذي يتنزل إلى واقع الإنسان، ليجري حكمه وسلطانه بحيث يباشر البشر ويخالطهم، فالله أعزّ وأجلّ وأكرم من أن تحيطه العقول أو تدركه الأوهام، فهو لا يُؤيَّن، ولا يُكيَّف ولا يشار إليه ولا يحد..، كما لا يجوز لنا الاعتقاد، بأن البشر هم الذين يرتفعون إلى مقام مخاطبة الله والتحاكم لديه.

ولا يكون هناك خيار لسيادة الله على البشر، وحكومته في الأرض، إلا عبر وسيط، يمثل حكم الله وإرادته، وبذلك تنكشف لنا فلسفة الرسول والرسالة، كحقيقة مرتبطة بحقيقة التوحيد، ومصداق عملي لولاية الله وسلطانه على الخلق.

وبما أن حاكميه الله حقٌّ لكونه مالكاً للخلق، وبما أن الخلق حقيقة موجودة ومستمرة، فحاكميه الله على الخلق باقية ببقاء الخلق، لا يمكن تصور برهة زمنية، يفقد فيها الله حق حكمه على البشر، وهذا ما يفسر لنا استمرار الولاية في العقيدة الشيعية.

ثالثاً: بات واضحاً، أن الإمامة والولاية عقيدة تستمد جذورها من التوحيد، بحيث لا يستقيم فهمنا للإمامة بمعزل عن التوحيد، كما لا يتحقق للتوحيد معنىً من غير إمام يمثل إرادة الله بين خلقه، وبهذا نكتشف خطأ الخيار الآخر، الذي اعتبر أن شرعية الإمامة مستمدة من التجربة التاريخية للحكم عند المسلمين. 

فالتوحيد ومعرفة الله ليست مسألة نظرية ذهنية، بحيث يكتفي الإنسان بمجرد الاعتقاد بكون الله واحداً أحداً فرداً صمداً، لم يلد ولم يولد، وليس له شريك ينازعه في ملكه، فلا يكون الإنسان بهذا فحسب موحداً، فلو اعتقد الإنسان بهذا الأمر اعتقاداً جازماً واكتفى، لا يصيره ذلك موحداً، وإلا جاز أن يكون إبليس سيد الموحدين؛ لأن إبليس كان وما زال يعتقد اعتقاداً جازماً لا يشك فيه بأن الله واحد أحد، فرد صمد، لا شريك له في ملكه، رغم أن علمه بهذه الحقيقة قد يكون أكثر يقيناً من علم الإنسان، لأن علمه بالله ارتقى إلى أن يخاطبه الله ويخاطب الله، وهذا ما لم يكن متأتياً للإنسان.

ومن هنا، فالتوحيد الذي يعتقد به الإنسان لا بد أن يخرجه من المنظور العقلي والنظري إلى التوحيد العملي، الذي يتجلى في واقع الحياة، والطريق الذي يحقق ذلك أن يكون هناك من يمثل سلطة الله وحاكميته، يحتك به الناس ويخالطونه، ليكون شاهداً على تسليمهم وطاعتهم لله وحده، وهذا بالضبط ما اختبر الله به إبليس، إذ اختبر الله توحيده بالسجود لآدم عليه السلام، وقبل هذا الاختبار لم يطرد إبليس من رحمة الله، بل أكدت بعض الروايات بأن إبليس كان أكثر عبادة من الملائكة.

وبذلك يمكننا أن نعتبر السجود لآدم عنواناً للتجلي الحقيقي للتوحيد، وإخراجاً للتوحيد من إطاره النظري لواقعه العملي.

ماذا كان يمثل سجود الملائكة لآدم (عليه السلام)؟.

إنه رمز الطاعة والتسليم وهو عنوان التوحيد الحقيقي، والسبب الذي أخرج إبليس هو التكبر وعدم التسليم، فإنه لا يستقيم التكبر وعدم التسليم مع التوحيد، وقد اختبر الله الخلق بالامتثال إلى من هم مثلهم من البشر، إخراجاً للكبر من نفوسهم.

يقول الإمام علي (عليه السلام): (الحمد للّه الّذي لبس العزّ والكبرياء، واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلهما حمىً وحرماً على غيره، واصطفاهما لجلاله، وجعل اللّعنة على من نازعه فيهما من عباده، ثمّ اختبر بذلك ملائكته المقرّبين، ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين، فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب: ﴿ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾(8)، اعترضته الحميّة فافتخر على آدم بخلقه، وتعصّب عليه لأصله، فعدوُّ اللّه إمام المتعصّبين، وسلَفُ المستكبرين، الّذي وضع أساس العصبيّة، ونازع اللّه رداء الجبريّة، وادّرع لباس التّعزّز، وخلع قناع التّذلّل، ألا ترون كيف صغّره اللّه بتكبّره، ووضعه بترفّعه، فجعله في الدّنيا مدحوراً، وأعدّ له في الآخرة سعيراً،  ولو أراد اللّه أن يخلق آدم من نور يخطف الأبصار ضياؤه، ويبهر العقول رواؤه، وطيبٍ يأخذ الأنفاسَ عَرْفُه لفعل، ولو فعل لظلّت له الأعناق خاضعة، ولخفّت البلوى فيه على الملائكة، ولكنّ اللّه سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله، تمييزاً بالاختبار لهم، ونفياً للاستكبار عنهم، وإبعاداً للخيلاء منهم، فاعتبروا بما كان من فعل اللّه بإبليس، إذ أحبط عمله الطّويل وجهده الجهيد، وكان قد عبد اللّه ستّة آلاف سنة لا يُدرى أمن سني الدّنيا أم سني الآخرة عن كِبْرِ ساعة واحدة، فمن ذا بعد إبليس يَسلَمُ على اللّه بمثل معصيته؟ كلاّ، ما كان اللّه سبحانه ليُدخل الجنّة بشرا بأمرٍ أخرج به منها ملَكاً، إنّ حكمه في أهل السّماء وأهل الأرض لواحد، وما بين اللّه وبين أحد من خلقه هوادة، في إباحة حمىً حرّمه على العالمين)(9).

ويقول عليه السلام: (وَلَوْ أَرَادَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ اَلذِّهْبَانِ، وَمَعَادِنَ اَلْعِقْيَانِ، وَمَغَارِسَ اَلْجِنَانِ، وَأَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طَيْرَ اَلسَّمَاءِ، وَوُحُوشَ اَلْأَرْضِ لَفَعَلَ، وَلَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ اَلْبَلاَءُ، وَبَطَلَ اَلْجَزَاءُ، وَاضْمَحَلَّتِ اَلْأَنْبَاءُ، وَلَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ اَلْمُبْتَلَيْنَ، وَلاَ اسْتَحَقَّ اَلْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ اَلْمُحْسِنِينَ، وَلاَ لَزِمَتِ اَلْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا، وَلَكِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ، وَضَعَفَةً فِيمَا تَرَى اَلْأَعْيُنُ مِنْ حَالاَتِهِمْ، مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ اَلْقُلُوبَ وَاَلْعُيُونَ غِنًى، وَخَصَاصَةٍ تَمْلَأُ اَلْأَبْصَارَ وَاَلْأَسْمَاعَ أَذًى)(10).

فتوحيد الله لا يتحقق إلا بالطاعة والامتثال، وتمام التسليم لمن أمر الله بطاعته، إخراجاً للكِبر من القلوب، وتحقيقاً للوحدانية في النفوس، ومن هنا كانت طاعة أنبيائه شرطاً في توحيده، فلا يكتمل الإيمان، ولا يكون الإنسان موحِّداً لله، ما لم يكن مطيعاً وممتثلاً لأنبيائه ورسله.

 وهنا نتساءل: ما هي العلاقة بين التوحيد وبين الإيمان بالرسل؟ لا يمكن أن نكتفي في فهم العلاقة بالرابط التشريعي، الذي يتحقق برسالة الأنبياء عليهم السلام، بوصفهم مبلغين عن الله يُعلِّمون الناس التوحيد، فبالتالي يصبح الإيمان بهم شرطاً للتوحيد، لأن هذا الفهم يبتنى على كون معرفة الأنبياء سابقة لمعرفة الله، ولولا الأنبياء لما عرف الناس ربهم، وهذا مخالف لكون معرفة الله حقيقة فطرية جبل عليها الإنسان، فالله قد فطر عباده على معرفته وتوحيده، وبمعرفتهم لله عرفوا أن لله رسلاً يبلغون عنه ويبينون أحكامه، فتكون مهمة الرسل حينئذ، أن يذكّروهم مَنسِيَّ نعمته ويستأدوهم ميثاق فطرته، وأن يثيروا لهم دفائن العقول، فنحن لا نعرف الله بالرسول، وإنما نعرف الرسول بالله. 

ومن هنا نكتشف حقيقة العلاقة الرابطة بين الإيمان بالرسل وبين توحيد الله، وهي أن الله يتجلى لخلقه بأوامره ونواهيه عبر رسله، ولذا تصبح طاعتهم هي عين طاعة الله، فمن أراد أن يطيع الله ويمتثل أوامره بوصفه خالقاً رازقاً ... فلا يمكنه ذلك بأن يتصل به مباشرة، لأن الله أعلى وأجل وأكرم، من أن تحيطه العقول، أو تدنو منه الخواطر، فتوحيده يتم عبر أنبيائه ورسله؛ لأنهم التطبيق العملي للتوحيد.

 وبما أن التوحيد حقيقة باقية ببقاء الإنسان، فلا بد أن تكون الطاعة والتسليم متحققة ودائمة لمن أراد الله لهم الطاعة، بوصفهم التمثيل الحقيقي للتوحيد، ومن هنا، فإنه لا ينفع الإنسان أن يكون مصلياً، صائماً، حاجاً، مذكياً، وهو مسبحٌ بحمد السلاطين والطواغيت يدين لهم بالولاء؛ لأنه حينئذ لا يكون موحداً متمحضاً في إرادة الله وأمره، بل خارجاً من سلطانه بولاية غيره، ونستفيد هذا الأمر من قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾(11)، فالآية تصفهم بأنهم مؤمنون بالرسول وبالقرآن، وبما جاء من كتب سماوية أخرى، والإيمان بالقرآن هو إيمان بما جاء فيه من أحكام وتشريعات، إلا أنهم-في الحقيقة- كافرون، وذلك وفقاً لمعيار الولاية، فمن يوالي أولياء الله فهو موحد، ومن يوالي أولياء الشيطان فهو كافر، وإن كان يصلي ويصوم ويؤدي باقي العبادات، ولذا نجد أن القرآن يفسر ذلك بقوله: (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت)، والطاغوت هنا هو الحاكم الذي يحكم بدون تفويض من الله، وقرينة ذلك: (يريدوا أن يتحاكموا..)، ومن هنا جعل الله شرط التوحيد الكفر بالطاغوت، قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ﴾(12)، فلا يبلغ الإنسان التوحيد، حتى يكفر بكل الزعامات التي تتحكم بدون إذن من الله.

فإذا نهانا الله عن التحاكم للطاغوت، وجعله مساوياً للكفر والشرك بالله، فلا بد أن يجعل لنا من عنده من نتحاكم إليهم، إذ لا يمكن التحاكم عنده مباشرة، وهذا ما يفسر لنا ضرورة أولياء الله، الذين يمثلون أمره وسلطانه. 

فبما أن الطاغوت هو شخص له مصداق في الخارج، أمرنا الله أن نكفر به، ولا بد أن يكون في المقابل شخص له مصداق في الخارج نتحاكم عنده لأنه يمثل الله، فيكون معنى الآية: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله)، أي من يكفر بهذا (الذي لا يمثل الله)، ويؤمن بهذا (الذي يمثل الله)، ولا يمكن أن يكون المقصود من قوله (ويؤمن بالله) أن يؤمن بقضية غيبية لا ترتبط بواقعيٍّ ملموس، فلا تكون هناك مناسبة حقيقية بين الكفر بالطاغوت، المتمثل في فلان من الناس، وبين الإيمان بالله كقضية غيبية ليس لها ممثل في أرض الواقع. 

ولكي نجد مثالاً لذلك نقول: من يكفر بفرعون ويؤمن بموسى فقد استمسك بالعروة الوثقى، فالإيمان بالله يتجلى في الإيمان بموسى (ع)، وكذلك من يكفر بيزيد بن معاوية، ويؤمن بالحسين بن علي (ع) وهكذا، فالقضية مستمرة باستمرار البشر على الأرض، تشكل ابتلاء حقيقياً للإنسان المؤمن.

 فلله أولياء فرض علينا طاعتهم وأوجب علينا امتثال أوامرهم، ولا يتوقف هذا الأمر عند الأنبياء والرسل، وإنما هو مستمر في ولاة الأمر: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾(13)، فطاعة ولاة الأمر هنا ليس فقط لانتظام أمر الجماعة وسياسة أمورهم، وإنما هي عنوان الإنسان المؤمن الموحِّد حقاً.   

 وهذا الأمر يفسر لنا الروايات المتضافرة والمتفق عليها بين كل المدارس، التي تؤكد على أن الإمام المفترض الطاعة من قبل الله، هو شرط في الإيمان والتوحيد، وأن الطواغيت هم السبب الموجب للكفر، كقول النبي (ص): (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)، و: (من مات ولم تكن في عنقه بيعة لإمام زمانه مات ميتة جاهلية)(14) ، وميتة الجاهلية تعني الكفر والشرك، وإن كان مصلياً عابداً، ولا يمكن أن يكون المقصود من إمام الزمان كل من حكم، فقد يكون من حكم هو الطاغوت الذي أمرني أن أكفر به، فكيف يأمرني بمبايعته وفي الوقت ذاته يأمرني بالكفر به؟، مما يعني أن ولاة الأمر هم من يتكفل الله بتعينهم. 

ومن هنا نعتقد صدق الروايات التي نصت على أن نجاة الإنسان مقرونة بإمامه، فعن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (لو أن عبداً عبد الله ألف عام ما بين الركن والمقام، ثم ذُبح كما يُذبح الكبش مظلوماً، لبعثه الله مع النفر الذين يقتدي بهم، وبهداهم يهتدي، ويسير بسيرتهم، إن جنة فجنة وان نارا فنار)(15) .

  جاء في حديث عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع)، قال: (إن أول ما يُسأل عنه العبد إذا وقف بين يدي الله جل جلاله، عن الصلوات المفروضات، وعن الزكاة المفروضة، وعن الصيام المفروض، وعن الحج المفروض، وعن ولايتنا أهل البيت، فإن أقرَّ بولايتنا ثم مات عليها قبلت منه صلاته، وصومه، وزكاته، وحجه، وإن لم يُقِرَّ بولايتنا بين يدي الله جل جلاله، لم يقبل الله عزّ وجلّ منه شيئاً من أعماله)(16) . 

وعن علي (ع) كان يقول: (لا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين، رجل يزداد كل يوم إحساناً، ورجل يتدارك سيئته بالتوبة، وأنى له بالتوبة؟ والله لو سجد حتى ينقطع عنقه، ما قبل الله منه إلا بولايتنا أهل البيت)(17) . 

وعن أنس بن مالك، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (معاشر الناس إليَّ إليَّ، إذا ذُكر آلُ إبراهيم (ع) تهلّلت وجوهكم وإذا ذُكر آلُ محمد كأنما يُفقأ في وجوهكم حبُّ الرمان؟ فو الذي بعثني بالحق نبياً لو جاء أحدكم يوم القيامة بأعمال كأمثال الجبل، ولم يجئ بولاية علي بن أبي طالب (ع)، لأكبّه الله عز وجل في النار)(18) .. 

وغير ذلك من الروايات، التي تشهد بنفسها على صحتها، لأنها تثبت قضايا ثابتة من العقل والدين بالضرورة.

فمن يمثل الله لا بد أن يكون مُعيَّناً منه، ولا يمكن الوصول إليه عبر الشورى والانتخاب، وهذا ما يؤكد إصرار الشيعة على أن الإمامة فريضة إلهية، بوصف الإمام ممثلاً عن الله.

رابعاً: بهذا نخلص إلى أن التوحيد العملي، والتطبيق الخارجي، يتحقق عبر التسليم لأولياء الله، أي الأنبياء والأئمة الذين اصطفاهم الله وانتجبهم من بين خلقه. 

ولهذا فإن الإمامة حقيقة مستمرة، وهي الطريق الذي يجعل الإنسان دائماً متصلاً بالله سبحانه وتعالى، ومرتبطاً بالغيب في شخص الإمام، بحيث لا يمكن أن يعتقد الموحِّد بانفصال الأرض عن السماء، فالله حاضر دوماً بأوامره ونواهيه في التسليم للإمام، كما كان حاضراً بالتسليم للأنبياء والرسل.

وبذلك، يكون التشيع هو الفهم الحقيقي والوحيد للدين، الذي يبقي حالة من الاتصال بين الأرض والسماء، بين الغيب والشهود، وهو المذهب الذي يبقي لله حاكمية وهيمنة على خلقه، بخلاف من أنزل الإنسان منزلة الله، مفوضاً له كل شيء، حتى غاب الله وأمره عن واقعنا، وأصبح مجرد أمر غيبي، نذكره بألسنتنا وقلوبُنا معلقة وطائعة لمن يحكمنا.

__________________

  (1) سورة طه/50.

  (2) سورة النور/42.

  (3) سورة الإنسان/1.

  (4) سورة الانفطار/6-8.

  (5) سورة الحج/18.

  (6) سورة الأنعام/57.

  (7) سورة يس/74-75.

  (8) سورة ص/71-74.

  (9) نهج البلاغة (الخطبة القاصعة) 2/139.

  (10) نهج البلاغة (الخطبة القاصعة) 2/145.

  (11) سورة النساء/60.

  (12) سورة البقرة/256.

  (13) سورة النساء/59.

  (14) السنن الكبرى – البيهقي ج 8 ص 156

  (15) المحاسن – احمد بن محمد بن خالد البرقي ج 1 ص 61

  (16) الأمالي – الشيخ الصدوق ص 328

  (17) الكافي – الكليني ج 8 ص 128

  (18) بحار الأنوار – المجلسي ج 27 ص 171