هل يجوزُ نسبةُ الظنِّ للهِ تعالى؟

: السيد رعد المرسومي

السلامُ عليكُم ورحمةُ الله،إذا عرَفنا المُرادَ بالظنِّ، فحينَها سنعرفُ أنّه يجوزُ نسبتُه إلى اللهِ عزَّ وجلَّ أو لا يجوز، فنقولُ: بيّنَ أهلُ العلمِ منَ الفريقينِ (الشيعةِ والسنّة) أنَّ الظنَّ في القرآنِ الكريمِ جاءَ على عدّةِ معانٍ: الأوّلُ: بمعنى اليقينِ، ومنهُ قولهُ تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلَاقُو رَبِّهِم وَأَنَّهُم إِلَيهِ رَاجِعُونَ} [البقرة : 46]. قالَ القُرطبي في تفسيرِه (1/ 375): "والظنُّ هُنا في قولِ الجمهور: بمعنى اليقين." انتهى. وينظر: مجمعُ البيانِ للطبرسيّ عندَ تفسيرِ هذهِ الآية (ج1/ص147). وقالَ أبو حيان في تفسيرِه (1/ 300): "ويظنّونَ معناه: يوقنونَ، قالهُ الجمهورُ، لأنَّ مَن وصفَ بالخشوعِ لا يشكُّ أنّه مُلاقٍ ربَّه. ويؤيّدُه: أنَّ في مصحفِ عبدِ اللهِ الذينَ يعلمون." انتهى. ومنهُ قولهُ تعالى: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَن نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرضِ) الجنُّ/12، قالَ القرطبي (19/ 16): "الظنُّ هُنا بمعنى العلمِ واليقين." انتهى. وكذلكَ قولهُ تعالى: (إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَه) الحاقّة/20. قالَ الطبري (23/ 585): "يقولُ: إنّي علمتُ أنّي مُلاقٍ حسابيه، إذا وردتُ يومَ القيامةِ على ربّي." انتهى. ومنهُ قولهُ سبحانَه: (وَظَنَّ أَنَّهُ الفِرَاقُ) القيامة/28. الثاني: بمعنى الشكِّ، مِن ذلكَ قولهُ: وَمِنهُم أُمِّيُّونَ لَا يَعلَمُونَ الكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِن هُم إِلَّا يَظُنُّونَ البقرة/78. قالَ أبو حيّان بعدَ أن نقلَ أقوالاً في معنى (الظنِّ) هُنا: "وقالَ آخرون: يشكّون". وينظر: مجمعُ البيانِ للطبرسيّ عندَ تفسيرِ هذهِ الآية (ج1/ص217). الثالثُ: بمعنى التُّهمةِ، ومنهُ قولهُ تعالى: وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمُشرِكِينَ وَالمُشرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوءِ عَلَيهِم دَائِرَةُ السَّوءِ الفتح/6. قالَ ابنُ كثير (7/ 329): "أَي: يَتَّهِمُونَ اللَّهَ فِي حُكمِهِ، وَيَظُنُّونَ بِالرَّسُولِ وَأَصحَابِهِ أَن يُقتَلُوا وَيَذهَبُوا بِالكُلِّيَّةِ." انتهى. الرابعُ: بمعنى الوهمِ والتوهّمِ، ومنهُ قولهُ سُبحانه: وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيبَ فِيهَا قُلتُم مَا نَدرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحنُ بِمُستَيقِنِينَ. الجاثية/32. قالَ ابنُ كثير (7/ 272): "أي: إن نتوهّم وقوعَها إلّا توهماً، أي: مرجوحاً." انتهى. الخامسُ: بمعنى الحسبان، ومنهُ قولهُ تعالى: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَن تَقُولَ الإنسُ وَالجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا  الجن/5. قالَ ابنُ كثير (8/ 237): "أي: ما حسبنا أنَّ الإنسَ والجنَّ يتمالؤونَ على الكذبِ على اللهِ في نسبةِ الصاحبةِ والولدِ إليه." انتهى. السادسُ: الاعتقادُ الخاطئ، كما في قولِه تعالى: فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ الصافات/87. قالَ ابنُ عاشور: "أريدَ بالظنِّ الاعتقادُ الخطأ، وسُمّيَ ظنّاً لأنّهُ غيرُ مُطابقٍ للواقع، ولم يُسمِّه عِلماً؛ لأنَّ العلمَ لا يُطلَقُ إلّا على الاعتقادِ المُطابقِ للواقع... وكثُرَ إطلاقُ الظنِّ على التصديقِ المُخطئ، والجهلِ المُركّب، كما في قولِه تعالى: (إن يتّبعونَ إلّا الظنَّ وإن هُم إلّا يخرصون) في سورةِ الأنعام [116]. وقولِه: (إنَّ الظنَّ لا يُغني منَ الحقِّ شيئاً) [يونس: 36]. وقولُ النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله: إيّاكُم والظنّ فإنَّ الظنَّ أكذبُ الحديث. والمعنى: أنَّ اعتقادَكم في جانبِ ربِّ العالمينَ جهلٌ مُنكَر ." انتهى منَ "التحريرِ والتنوير"(23/ 140). وللفائدةِ يُنظر: "المُفرداتُ في غريبِ القرآن" للرّاغبِ الأصفهانيّ، وكتابُ موسوعةِ الفروقِ القرآنيّةِ للدّكتور سعدٍ بنِ عبدِ العظيم في مادّةِ (الظنّ).وكتابُ الميزانِ للسيّدِ الطباطبائيّ عند تعرّضِه لهذهِ الآيات. فإن قلتَ: كيفَ نُفرّقُ بينَ معاني الظنّ؟ فالجوابُ يكونُ مِن خلالِ السياقِ الذي يُبيّنُ إن كانَ الظنُّ بمعنى اليقينِ، أو الشكِّ، على أنّ أحدَ عُلماءِ العامّةِ وهو الزركشيّ قد وضعَ ضابطينِ للتفريقِ بينَ الظنِّ الذي بمعنى اليقينِ والظنِّ بمعنى الشكِّ، فقالَ في كتابِه "البرهانُ في علومِ القرآن" (4/ 156): وللفرقِ بينَهما في القرآنِ ضابطان: أحدُهما: أنّهُ حيثُ وجدَ الظنَّ محموداً مُثاباً عليه؛ فهوَ اليقينُ، وحيثُ وجدَ مذموماً متوعّدًا بالعقابِ عليهِ فهوَ الشكُّ. الثاني: أنَّ كلَّ ظنٍّ يتّصلُ بعدَه "أن" الخفيفةَ فهوَ شكٌّ، كقولِه تعالى: إن ظنّا أن يُقيما حدودَ اللهِ وقولِه: بل ظننتُم أن لن ينقلبَ الرّسول. وكلُّ ظنٍّ يتّصلُ بهِ أنَّ المُشدّدةَ، فالمُرادُ به اليقينُ، كقولِه: إنّي ظننتُ أنّي مُلاقٍ حسابيَه، وظنَّ أنّه الفراقُ. والمعنى فيهِ: أنَّ المُشدّدةَ للتأكيدِ، فدخلَت على اليقينِ، وأن الخفيفةَ بخلافِها؛ فدخلَت في الشكِّ.مثالُ الأوّلِ، قولهُ سبحانَه: وعلمَ أنَّ فيكُم ضَعفاً ذُكرَ بـ" أنّ" وقولهُ: فاعلم أنّه لا إلهَ إلّا الله. ومثالُ الثاني: وحسبوا ألّا تكونَ فتنةٌ والحُسبانُ: الشكُّ. فإن قيلَ: يردُّ على هذا الضابطِ قولهُ تعالى: وظنّوا أن لا ملجأ منَ اللهِ إلّا إليه. قيلَ: لأنّها اتّصلَت بالفعلِ. فتمسَّك بهذا الضابطِ فإنّه مِن أسرارِ القرآن." انتهى.وقولهُ في الجواب: "قيلَ لأنّها اتّصلَت بالفعلِ": مُرادُه: أنَّ (أن) الخفيفةَ، التي حملَت (ظنَّ) معَها على الشكِّ: جاءَت قبلَ (فعل)، مثلَ: يُقيما، ينقلب... وأمّا الآيةُ المذكورةُ (وظنّوا أن لا ملجأ..) ؛ فإنّما وليها اسمُ (ملجأ)، فليسَت واردةً على الضابطِ المذكور. وينظر: "الإتقانُ في علومِ القرآن" للسّيوطي (2/226). ثُمَّ مهما يكُن مِن شيءٍ، فإنّه لا يجوزُ نسبةُ الظنِّ إلى اللهِ تعالى، سواءٌ أكانَ الظنُّ بمعنى اليقينِ أم بمعنى الشكّ، لأنَّ اللهَ سبحانَه وتعالى لا يحتاجُ إلى طريقٍ للوصولِ إلى حقيقةِ الأشياء، لأنَّ الأصلَ في هذا الأمرِ الذي لا يختلفُ عليه اثنانِ مِن أهلِ العلمِ أنّ اللهَ سُبحانَه وتعالى لا يخفى عليهِ شيءٌ في الأرضِ ولا في السماء، فكلُّ شيءٍ معلومٌ عندَه ظاهرُه وباطنُه، فهوَ المُحيطُ بحقائقِ الأشياءِ وكُنهِها، ويدلُّ على ذلكَ عدّةُ آياتٍ كريمة، مِنها: قولهُ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخفَى عَلَيهِ شَيءٌ فِي الأَرضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران:5]. وقولهُ تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعلَمُ مَا نُخفِي وَمَا نُعلِنُ وَمَا يَخفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَيءٍ فِي الأَرضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 38]. {يَومَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخفَى عَلَى اللَّهِ مِنهُم شَيءٌ لِمَنِ المُلكُ اليَومَ لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ} [غافر: 16]. {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعلَمُ الجَهرَ وَمَا يَخفَى} [الأعلى: 7]. {يَستَخفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَستَخفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُم إِذ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرضَى مِنَ القَولِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108]. {وَإِن تَجهَر بِالقَولِ فَإِنَّهُ يَعلَمُ السِّرَّ وَأَخفَى} [طه: 7]. {أَلَّا يَسجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخرِجُ الخَبءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَيَعلَمُ مَا تُخفُونَ وَمَا تُعلِنُونَ} [النمل: 25]. {إِن تُبدُوا شَيئًا أَو تُخفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 54] وغيرُها منَ الآياتِ الصريحةِ والواضحةِ في هذا المعنى الذي بيّنّاه. ودمتُم سالِمين.