لماذا خلقَ اللهُ الملائكةَ
لماذا خلقَ اللهُ الملائكةَ معَ قُدرتِه وهيمنتِه؟
الجواب :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
قبلَ الإجابةِ لابدَّ مِن تحليلِ السؤالِ وبيانِ مُبرّراتِ وجودِه، ويبدو أنَّ الإشكالَ برزَ إلى ذهنِ السائلِ عندَما تصوّرَ أنَّ قُدرةَ اللهِ وهيمنتَه تجعلُه في غِنىً عن خلقِ الملائكة، وبمعنىً آخر أنَّ السائلَ تصوّرَ وجودَ تعارضٍ بينَ وصفِ اللهِ بالقُدرةِ والهيمنةِ وبينَ الحاجةِ لخلقِ الملائكة، ومِن هُنا فإنَّ مُعالجةَ الإشكالِ تكونُ بمُعالجةِ التصوّرِ الخاطئِ لمعنى القُدرةِ والهيمنة، فإذا ثبتَ عدمُ وجودِ تعارضٍ بينَ القُدرةِ والهيمنةِ وبينَ نظامِ الوجودِ القائمِ على الأسبابِ والمُسبّباتِ لا يبقى مُبرّرٌ لهذا السؤال.
أوّلاً: لابدَّ منَ التأكيدِ على أنَّ القُدرةَ التي نتحدّثُ عنها هيَ القُدرةُ التي نراها مُتجلّيةً في خلقِ اللهِ وصُنعِه، ولا نتحدّثُ عن القُدرةِ بوصفِها صفةً مِن صفاتِ الذات؛ ففي مقامِ الذاتِ ليسَ بمقدورِ الإنسانِ غيرُ إثباتِ الصّفةِ حتّى لا يقعَ في التعطيل، وفي نفسِ الوقتِ ليسَ بمقدورِه التصوّرُ والإحاطةُ حتّى لا يقعَ في التشبيهِ، فنقولُ اللهُ قديرٌ بمعنى أنَّ فعلَه قدير؛ أي أنّه يصنعُ بقُدرةٍ، وعليهِ فإنَّ خلقَ السماواتِ والأرض وما فيها مِن مخلوقاتٍ دليلٌ على قُدرةِ الله، قالَ تعالى: (لِلَّهِ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَمَا فِيهِنَّ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ)، وبهذا المعنى يكونُ خلقُ الملائكةِ بنفسه أحدَ مظاهر القُدرةِ الإلهيّة، وقد أشارَت آيةٌ أخرى لهذا المعنى وهوَ قولُه تعالى: (جَاعِلِ المَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجنِحَةٍ مَّثنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الخَلقِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ)، وبالتالي عندَما نتحدّثُ عن خلقِ الملائكةِ نحنُ نتحدّثُ بشكلٍ آخر عن قُدرةِ اللهِ تعالى، فنقولُ إنَّ اللهَ قادرٌ لأنّه خلقَ الملائكةَ ولا نقولُ إذا كانَ اللهُ قادراً لماذا خلقَ الملائكة؟
ثانياً: كما أنَّ وجودَ المخلوقِ دليلٌ على قُدرةِ اللهِ تعالى، كذلكَ حاجةُ المخلوقِ للخالقِ وتعلّقهُ بهِ واضطرارُه إليه دليلٌ آخرُ على قُدرتِه، وبمعنىً آخر ليسَ الخالقُ علّةً للوجودِ فقط وإنّما علّةٌ للإبقاءِ أيضاً، فلا يكفي أن تكونَ الملائكةُ بحاجةٍ لمَن يُخرجُها مِن طورِ العدمِ إلى طورِ الوجود، وإنّما هيَ أيضاً في حاجةٍ إليه لتستمرَّ في هذا الوجود، وعليهِ لا شيءَ مِن مخلوقاتِ اللهِ خارجٌ عن قُدرتِه وسُلطانِه، وبهذا المعنى نفهمُ كونَ اللهِ مُهيمناً على خلقِه؛ لأنَّ الهيمنةَ ليسَت شيئاً آخرَ غيرَ اضطرارِ المخلوقِ للخالقِ وتعلّقُه به، فجميعُ الخلقِ قائمٌ به وراجعٌ إليه ولا شيءَ خارجٌ عن هيمنتِه وسُلطانِه، وقد جاءَ اسمُ المُهيمنِ في القرآنِ معَ اسمِ (العزيزِ، الجبّار، المُتكبّر) في دلالةٍ واضحةٍ على أنَّ اللهَ وحدَه صاحبُ العزِّ والسلطانِ والجبروتِ والكبرياء، قالَ تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلَامُ المُؤمِنُ المُهَيمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ ۚ سُبحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشرِكُونَ)، وعليهِ فإنَّ الهيمنةَ تعني كونَ المخلوقِ قائماً باللهِ تعالى، ووجودُ المخلوقِ دليلٌ على تلكَ الهيمنة، وقد بيّنَ اللهُ ذلكَ بشكلٍ واضحٍ في آيةِ الكُرسي حينَ قال: (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ ۚ لَا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَومٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذنِهِ ۚ يَعلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِم وَمَا خَلفَهُم ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِّن عِلمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفظُهُمَا ۚ وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ)، وكلمةُ قيوم صيغةُ مُبالغةٍ منَ القيام، وهيَ تدلُّ على أنَّ اللهَ تعالى وحدَه هوَ قائمٌ بذاتِه وجميعُ ما دونَه قائمٌ بهِ تعالى.
ومِن خلالِ ما تقدّمَ يتبيّنُ أنَّ المخلوقَ بنفسِه ومِن نفسِه لا يملكُ حولاً ولا قوّة، وما نراهُ في المخلوقِ مِن قدراتٍ هيَ في الواقعِ دليلٌ على قُدرةِ الله وسلطانِه، وعليهِ منَ الخطأ تصوّرُ أنَّ للمخلوقِ قُدرةً في عرضِ قُدرةِ اللهِ تعالى، إذا كيفَ يمكنُ تصوّرُ ذلكَ والمخلوقُ بذاتِه لا حولَ لهُ ولا قوّة؟ وضمنَ هذا المعنى إذا نظَرنا لشأنِ الملائكةِ وما لها مِن قُدراتٍ، لوجَدنا أنّها لا تتعارضُ فحَسب معَ قُدرةِ الله، وإنّما هيَ دليلٌ أيضاً على قُدرةِ اللهِ وهيمنتِه.
وإذا ثبتَ ذلكَ يتّضحُ عدمُ التعارضِ بينَ اتّصافِ اللهِ بالقُدرةِ والهيمنةِ وبينَ خلقِه للملائكةِ، بل خلقُ الملائكةِ كانَ دليلاً على أنّهُ قادرٌ ومُهيمنٌ، فلا شيءَ منَ الخلقِ قادرٌ على الخروجِ عن قُدرةِ اللهِ وسُلطانِه، وبالتالي لا يصحُّ السؤالُ عن سببِ خلقِ الملائكةِ بقيدِ القُدرةِ والهَيمنة.
أمّا لماذا أوكلَ اللهُ تدبيرَ الكونِ للملائكةِ ولم يُدبّرها بنفسِه معَ قُدرتِه على ذلك؟ فمنَ الواضحِ أنَّ هذا السؤالَ ينطلقُ مِن ذاتِ الفهمِ الخاطئِ للقُدرة، فالقدرةُ ضمنَ هذا التصوّرِ تعني إلقاءَ نظامِ الأسبابِ والمُسبّبات وهذا نفيٌ لكلِّ الموجوداتِ وليسَ الملائكةُ وحدَها، فاللهُ خلقَ الكونَ وهوَ محكومٌ بقانونِ السببِ والمُسبّب، وكونُ اللهِ قادراً ومُهيمناً يعني أنَّ جميعَ تلكَ الأسبابِ والمُسبّباتِ بيدِه وقبضتِه، والملائكةُ بدورِها تقعُ في طولِ خطِّ الأسبابِ والمُسبّبات، ومُجرّدُ الحديثِ عن إلقاءِ هذا النظامِ هوَ حديثٌ عن إعدامِ الكونِ وافتراضُ كونٍ آخر، أي لا يمكنُ المحافظةُ على الكونِ وفي نفسِ الوقتِ نُلقي نظامَ الأسبابِ والمُسبّبات، وعليهِ فإنَّ الخلطَ في السؤالِ نابعٌ منَ التلاعبِ بطبيعةِ الشيءِ الذي تتعلّقُ بهِ القُدرة، فاللهُ سُبحانَه قادرٌ ولا يتّصفُ بالعجزِ ولكنَّ القصورَ في المَقدور، فالقدرةُ لا تتعلّقُ بالمُستحيلاتِ وإنّما تتعلّقُ بالمُمكناتِ، والمُستحيلُ هُنا هوَ أن تنتفيَ الأسبابُ منَ الكونِ ويبقى ذاتُ الكونِ كما هو.
وفي المُحصّلةِ إنَّ اللهَ قادرٌ ودليلُ قُدرتِه تحكّمُه في نظامِ الأسبابِ والمُسبّباتِ بما فيها الملائكة، ولا تكونُ القُدرةُ بمعنى أن تحلَّ محلَّ الأسبابِ والمُسبّبات؛ لأنَّ ذلكَ ليسَ إثباتاً للقُدرةِ وإنّما هوَ نفيٌ للكونِ والوجودِ الذي هوَ محلٌّ لقُدرةِ اللهِ تعالى.
أمّا ما هيَ وظيفةُ الملائكةِ ضمنَ هذا النظامِ الكوني؟ فقد تكفّلَت عشراتُ الآياتِ ببيانِ الأدوارِ التي أوكلَها اللهُ لملائكتِه.
فمِنها: الاستغفارُ لأهلِ الأرض، قالَ تعالى: (وَالمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمدِ رَبِّهِم وَيَستَغفِرُونَ لِمَن فِي الأَرضِ)
ومِنها: أنَّ اللهَ جعلَ بعضَ ملائكتِه رُسلاً لهُ تعالى، قالَ تعالى: (اللَّهُ يَصطَفِي مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ)، وقالَ: (يُنَزِّلُ المَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِن أَمرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ أَن أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ)
ومِنها: أنَّ اللهَ يجعلُ ملائكتَه عوناً للمؤمنينَ المُجاهدينَ في سبيلِه، قالَ تعالى: (إِذ تَقُولُ لِلمُؤمِنِينَ أَلَن يَكفِيَكُم أَن يُمِدَّكُم رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ المَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ)
ومِنها: أنَّ اللهَ كلّفَ بعضَ ملائكتِه بتسجيلِ أعمالِ المُكلّفينَ، قالَ تعالى: (وَإِنَّ عَلَيكُم لَحَافِظِينَ ♦️ كِرَامًا كَاتِبِينَ)، وقالَ: (لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيكَ أَنزَلَهُ بِعِلمِهِ وَالمَلَائِكَةُ يَشهَدُونَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا)
ومِنها: أنَّ اللهَ كلّفَها بقبضِ الأرواحِ حينَ يحينُ أجلُها، قالَ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِم قَالُوا فِيمَ كُنتُم قَالُوا كُنَّا مُستَضعَفِينَ فِي الأَرضِ)، وغير ذلكَ منَ الآياتِ التي تُبيّنُ أدوارَ الملائكةِ ووظيفتَها التي خلقَها اللهُ مِن أجلِها.
اترك تعليق