هل الخلافه ركن تشريعي ام اجتهاد سياسي؟
الجواب :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
يُستخدَمُ مُصطلحُ الخلافةِ في الموروثِ الإسلاميّ للإشارةِ لنظامِ الحُكمِ بعدَ وفاةِ الرّسولِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، فمَن تصدّى سياسيّاً بعدَ رسولِ الله لإدارةِ الشؤونِ السياسيّة يُسمّى خليفةً، وبهذا المعنى لا تخرجُ الخلافةُ عن كونِها نظاماً للحُكمِ لا يختلفُ كثيراً عن بقيّةِ الأنظمةِ السياسيّة، وضمنَ هذا المنظورِ لا تُعدُّ الخلافةُ مُجرّدَ اجتهادٍ سياسيٍّ فحَسب وإنّما انحرافاً عن أصلٍ اعتقاديٍّ عملَ الإسلامُ على تثبيتِ دعائمِه، هوَ الإمامةُ التي تُمثّلُ ركيزةً شرعيّةً واعتقاديّة، ومِن هُنا يجبُ الفصلُ بينَ أمرين بينَ الخلافةِ كمسارِ حُكمٍ في التاريخِ الإسلاميّ وبينَ الإمامةِ كمنصبٍ إلهيّ لقيادةِ المؤمنين، فالأوّلُ على أقلِّ التقاديرِ يعدُّ اجتهاداً في قبالِ النصوصِ الواضحةِ، والثاني يمثّلُ رُكناً شرعيّاً وأصلاً اعتقاديّاً.
ولا خلافَ بينَ الشيعةِ في كونِ الإمامةِ مِن أصولِ الدين، وقد بحثَها علماءُ الشيعةِ في كُتبِهم العقائديّةِ والكلاميّة ولم يبحثوها في كُتبِهم الفقهيّة، فالإمامةُ مِنَ الأصولِ التي انفردَ بها الشيعةُ دونَ غيرِهم منَ المُسلمينَ ولذلكَ اعتبرَت مِن أصولِ المذهب، ولا يعني ذلكَ أنَّ الإمامةَ أصبحَت منَ الفروع، فكلُّ ما في الأمرِ أنَّ هذا المُصطلحَ وُضعَ للتمييزِ بينَ الأصلِ العامِّ الذي يشتركُ فيهِ جميعُ المُسلمينَ وبين َالأصلِ الخاصِّ الذي ينفردُ بهِ الشيعةُ عن غيرِهم، فالإمامةُ وإن كانَت في منظورِ الشيعةِ مِن أصولِ الدينِ إلّا أنّه اعتقادٌ خاصٌّ لا يشارُكهم فيهِ بقيّةُ المُسلمينَ، ولذلكَ لا تعدُّ مِن هذهِ الناحيةِ أصلاً عامّاً وإنّما تعدُّ أصلاً خاصّاً بشيعةِ أهلِ البيت (عليهم السلام)، فلا يصبحُ الإنسانُ شيعيّاً ما لم يعتقِد بالإمامةِ كأصلٍ مِن أصولِ الدين.
ومنَ المُفيدِ أن نُشيرَ هُنا إلى النزاعِ بينَ الشيعةِ والسنّةِ فيما يتعلّقُ بكونِ الإمامةِ مِنَ الأصولِ أو الفروع، حيثُ وقعَ هذا التباينُ والاختلافُ على المستويينِ النظريّ والعمليّ، فعلى المُستوى النظريّ اختلفَ الشيعةُ والسنّةُ في كيفيّةِ وجوبِ الإمامة، وهل هيَ بالنصِّ أم بالبيعة؟ وعلى المُستوى العمليّ والتطبيقِ الخارجيّ وقعَ الاختلافُ في تحديدِ الائمّةِ والخلفاءِ الفعليّينَ لرسولِ الله، فاعتقدَ أهلُ السنّةِ بخلافةِ مَن حكمَ بالفعلِ بعدَ وفاةِ رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) بينَما اعتقدَ الشيعةُ باثنا عشرَ إماماً مِن أهلِ البيتِ قامَ رسولُ اللهِ بتحديدِهم وتعيينِهم، فهُم بذلكَ يُمثّلونَ أئمّةَ الحقِّ، حتّى لو لم يتسنَّ لهُم الحكمُ والخلافةُ السياسيّة، ومنَ الواضحِ أنَّ انقسامَ الأمّةِ إلى شيعةٍ وسُنّةٍ يعودُ في الأساسِ إلى موضوعِ الإمامة.
ويبدو أنَّ النزاعَ بينَ كونِ الإمامةِ أصلاً أو فرعاً يعودُ إلى تعريفِ الإمامةِ بينَ الطرفين، فمَن يرى الإمامةَ منَ الشؤونِ السياسيّةِ والاجتماعيّة لابدَّ أن يُرجعَها إلى اجتهادِ الأمّة، بينَما مَن يرى الإمامةَ امتداداً لدورِ رسولِ اللهِ لابدَّ أن يُرجعَها للنصِّ والتعيين، فكما أنَّ الأمّةَ ليسَ لها الحقُّ في اختيارِ مَن هوَ النبيُّ ليسَ لها أيضاً الحقُّ في اختيارِ مَن يقومُ بمهامِّ النبيّ بعدَ وفاتِه، ومِن هُنا لم يُفرِّق الشيعةُ بينَ الإمامةِ الدينيّةِ والسياسيّة، فالإمامُ في أمورِ الدينِ هوَ ذاتُه الإمامُ في الأمورِ السياسيّة، بينَما نجدُ أهلَ السنّةِ لهم أئمّةٌ في الدينِ غيرَ ائمّتِهم في السياسةِ والخلافة.
فالحاجةُ إلى الإمامِ لا تقتصرُ على الضرورةِ السياسيّةِ فحسب، معَ ما تُمثّله تلكَ الضرورةُ مِن أهميّةٍ لنظمِ أمرِ المُسلمين، وتحديدِ خياراتِهم المُستقبليّةِ وضبطِ رؤيتِهم الاستراتيجيّة، إلّا أنَّ الإمامَ معَ ذلكَ يقومُ بالدورِ المحوريّ لبيانِ مضامينِ هذهِ الرّسالة، وتفهيمِ الأُمّةِ وتوعيتِها بحقيقةِ الإسلامِ، بوصفِه المرجعيّةَ التي تُحقّقُ فهمَ النصِّ، والجهةَ الموثوقةَ لبيانِ مدلولاتِ الرسالةِ وتحديدِ مُرادات اللهِ عزَّ وجل، ولذلكَ لا يمكنُ الاكتفاءُ بالنصِّ دونَ إمامٍ يُمثّلُ مرجعيّةً لفهمِ ذلكَ النص.
والعصمةُ كشرطٍ في الإمامةِ تُمثّلُ ضرورةً عقليّةً قبلَ أن تكونَ ضرورةً شرعيّة، فالعقلُ يقضي بوجوبِ اتّباعِ المعصومِ، كما يحكمُ بقُبحِ تركِه واتّباعِ غيرِه، وقد تسالمَ بناءُ العُقلاءِ على أنَّ المرجعيّةَ المعصومةَ هيَ الطريقُ الذي يُحقّقُ وحدةَ الناس، وأنَّ السببَ المُباشرَ لتشتّتِ الجهودِ واختلافِ الناسِ هوَ تعدّدُ القياداتِ، وهذا حكمٌ توافقَ عليهِ كلُّ العُقلاء، فلا يمكنُ توحيدُ أيّ مجموعةٍ منَ الناسِ كبيرةٍ أو صغيرة ضمنَ رؤيةٍ واحدةٍ وتوجّهٍ واحد، إلّا إذا كانَ على رأسِ هذه المجموعةِ شخصٌ واحد، يمثّلُ المرجعيّةَ الفكريّةَ لهذهِ المجموعة، ولا يمكنُ ضمانُ مسارِ هذهِ المجموعةِ من دونِ أيّ انحراف، إلّا إذا اتّصفَ هذا القائدُ بالعصمة، وعلى ذلكَ فالإسلامُ لا يمكنُ أن يكونَ مساراً واحداً، إلّا إذا كانَ على رأسِه إمامٌ يلتزمُ الناسُ باتّباعِه، كما لا يمكنُ أن تُحقّقَ الأُمّةُ الاطمئنانَ في مسيرِها، إلّا إذا كانَ على رأسِها معصومٌ. فإذا خُيّرَ الإنسانُ المُسلمُ، بينَ أن يختارَ اللهُ له إماماً معصوماً ليتّبعَه، وبينَ أن يختارَ هوَ لنفسِه إماماً مِن بينِ عامّةِ الناسِ، فاختيارُ اللهِ هوَ الراجحُ عندَ كلِّ عاقل.
والذي يؤكّدُ على أنَّ الإمامةَ أصلٌ مِن أصولِ الدينِ وضرورةٌ إسلاميّةٌ هوَ قولُ رسولِ الله (ص): ( مَن ماتَ ولم يعرِف إمامَ زمانِه ماتَ ميتةً جاهليّة)، وعليهِ لا يمكنُ أن تكونَ الإمامةُ خاضعةً لاجتهادِ الأمّةِ أو خاضعةً للظروفِ التاريخيّة؛ وذلكَ لأنَّ رسولَ الله جعلَها شرطاً في تمامِ إسلامِ الإنسانِ وإيمانِه، حيثُ حكمَ على مَن ماتَ ولم يكُن له إمامٌ بأنّه (ماتَ ميتةً جاهليّة)، أي ماتَ على غيرِ الإسلام، ومِن هُنا يكشفُ هذا الحكمُ عَن عظمةِ الإمامةِ في الإسلامِ وعَن أهمّيّتِها بالنسبةِ لإيمانِ الإنسانِ المُسلِم، والعجيبُ أنَّ أهلَ السنّةِ تناولوا هذا الأمرَ في كُتبِهم الكلاميّةِ والعقائديّة ولم يتطرّقوا له في كُتبِهم الفقهيّة.
اترك تعليق