مظلوميّةُ الزهراءِ (ع) بينَ كتابِ الكافي وكتابِ سُليم
يقولُ البعضُ مِن أهلِ الخلاف أنَّ روايةَ كسرِ الضلعِ غيرُ موجودةٍ قبلَ عام ٣٥٠ هـ لأنَّ الكافي ألّفَه الكُليني عامَ ٣١٥ هـ وذكرَ ١٦٠٠٠ روايةً ولم يذكُر روايةَ كسرِ الضلعِ رغمَ أهمّيّتِها.. وسُليمٌ بنُ قيس كانَ يسكنُ نجد أيّامَ الرسولِ فكيفَ ظهرَ كتابُه بعدَ ٣٥٠ سنةٍ بأصفهان! ومِن كتبِ الروايةِ واضحٌ أنّه لم يعرِف أوضاعَ القبائلِ العربيّة ولا يعرفِ الثأر؟
الجوابُ:
أوّلاً:
هذا كلامُ مَن لا يعرفُ الأمور، ولم يقرأ التاريخَ، فهل مظلوميّةُ الزّهراء (ع) محصورةٌ بكسرِ الضلع، هَب لو لم يثبُت كسرُ ضلعِها – وهوَ ثابتٌ رغمَ أنفِ المُنكرين – فهل يُسقِطُ ظلامتها؟!؟
وهل ينكرُ أحدٌ الهجومَ على دارِ الزّهراء (ع) وكشفَه، معَ اعترافِ ابنِ تيمية به. (منهاجُ السنّة: 8 / 291). وهل كانَ هذا الهجومُ بريئاً لم يحصُل فيه مدافعاتٌ بينَ المُهاجمينَ وأهلِ الدار؟! فقَد تواترَتِ الرواياتُ أنَّ فاطمةَ الزهراء (عليها السلام) رحلَت منَ الدّنيا شهيدةً، حيثُ روى الكُلينيّ بسندٍ صحيح عن عليٍّ بنِ جعفر، عن أخيهِ الإمامِ موسى الكاظمِ عليهِ السلام قالَ: إنَّ فاطمةَ عليها السلام صدّيقةٌ شهيدةٌ وإنَّ بناتِ الأنبياءِ لا يطمثن. (الكافي للكُليني: 1 / 458).
قالَ العلّامةُ المجلسيّ: ثمَّ إن هذا الخبرَ يدلُّ على أنَّ فاطمةَ (صلواتُ اللهِ عليها) كانَت شهيدةً وهوَ منَ المُتواترات. (مرآةُ العقول للعلّامةِ المجلسي: 5 / 318). والتواترُ كما هوَ معلومٌ عندَ الجميع أنّه يفيدُ العلمَ والقطع.
فالكُليني روى بسندٍ صحيحٍ أنّ الزهراءَ (ع) رحلَت منَ الدّنيا شهيدةً، ولم يدخُل في سردِ الرواياتِ التي تُفصّلُ كيفيّةَ شهادتِها، لأنَّ كتابَهُ مبنيٌّ على الإختصار، فقد روى الروايةَ التي تجمعُ كلَّ الظلاماتِ تحتها، وهيَ أنّها رحلَت شهيدةً. وأمّا التفاصيلُ فتُطلَبُ منَ الكتبِ الأخرى.
فروايةُ الكُليني أنَّ الزهراء (ع) رحلَت شهيدةً، صحّحَ بها كلَّ الرواياتِ التي تعرّضَت لتفاصيلِ شهادتِها وظُلامتِها والإعتداءِ عليها، وهذا دليلٌ أنَّ الكُلينيَّ عالمٌ فذٌّ، ومحدّثٌ نحرير، ومؤرّخٌ قدير، وفقيهٌ عظيم، يُعرفُ كيفَ ينتقي الرواياتِ الجامعةَ في الأبواب، ومعَ ذلكَ يُراعي الظروفَ السياسيّةَ والمذهبيّةَ والفتنَ الطائفيّة التي يعيشُها.
مُضافاً إلى أنّ عدمَ ذكرِ الكُليني لروايةِ كسرِ الضلع، لا يدلُّ على عدمِ وجودها، فالكُليني لم يتعهَّد بذكرِ كلِّ شاردةٍ وواردةٍ منَ الرواياتِ والأحاديثِ والوقائعِ التاريخيّة، فكم منَ الرواياتِ التي لم يذكرُها الكُلينيّ في الكافي، وهيَ رواياتٌ صحيحةٌ، ذكرَها الشيخُ الصدوقُ والطوسي وابنُ شاذان القمّي وابنُ الوليد والصفّار وغيرُهم.
هذا مُضافاً إلى أنَّ الكُلينيّ له عدّةُ كتبٍ غيرَ الكافي، فلعلّهُ ذكرَها في بقيّةِ كتبِه التي لم تصِلنا؟!
هذا مُضافاً إلى أنَّ هناكَ كتباً كثيرةً جدّاً اُلّفَت قبلَ الشيخِ الكُليني لم تصِلنا، فكيفَ جزمَ هذا اللوذعيُّ الألمعيّ أنّ روايةَ كسرِ الضّلع ظهرَت بعدَ الشيخِ الكُليني، معَ أنّ أغلبَ كُتبِنا الروائيّةِ قبلَ الكُلينيّ لم تصِلنا، وهيَ بالمئات.
وروايةُ كسرِ الضلعِ رويَت قبلَ الكُلينيّ في كتابِ سليمٍ بنِ قيس في مَوردين، وهوَ مِن أقدمِ كُتبِ الشيعة، وسيأتي الحديثُ عنه.
وقد روى ابنُ جريرٍ الطبريّ الشيعيّ روايةَ كسرِ الضلعِ بسندٍ صحيحٍ كلّهم مِن شيوخِ الطائفةِ وفقهائِها وأعيانها قالَ: حدّثني أبو الحسينِ محمّدٌ بنُ هارونَ بنِ موسى التلعكبري ، قالَ : حدّثني أبي ، قالَ : حدّثني أبو عليٍّ محمّدٌ بنُ همام بنِ سُهيل ( رضيَ اللهُ عنه ) ، قالَ : روى أحمدُ بنُ محمّدٍ بنِ البُرقي ، عن أحمدَ بنِ محمّدٍ الأشعريّ القمّي ، عن عبدِ الرّحمنِ بنِ أبي نجران ، عن عبدِ الله بنِ سنان ، عن ابنِ مسكان ، عن أبي بصيرٍ ، عن أبي عبدِ الله جعفرٍ بنِ محمّد ( عليهِ السلام )... (دلائلُ الإمامةِ للطبري، ص 134).
ورواهُ الصّدوقُ بسندٍ مُعتبَر قالَ: حدّثنا عليٌّ بنُ أحمدَ بنِ موسى الدقّاق (رحمًه الله) ، قالَ : حدّثنا محمّدٌ ابنُ أبي عبدِ الله الكوفيّ ، قالَ : حدّثنا موسى بنُ عمران النخعي ، عن عمِّه الحُسين بنِ يزيد النوفلي ، عن الحسنِ بنِ عليٍّ بنِ أبي حمزة ، عَن أبيه ، عن سعيدٍ بنِ جبير ، عن ابنِ عبّاس ، عن رسولِ الله (ص). (الأماليّ للصّدوق، ص176)
وهذهِ الروايةُ رواها الجوينيُّ الشافعيّ (ت 730 هـ) في كتابِه فرائدُ السمطين: 2 / 35.
وجاءَ كسرُ الضلعِ في دعاءِ صَنمي قُريش التي رواها الشيخُ الكفعمي وأبو السعادات، عن ابنِ عبّاس، أنَّ أميرَ المؤمنين (ع) كانَ يقنتُ به. المصباحُ للكفعمي ص 552، رشحُ الولاء، لأبي السعاداتِ الأصفهاني ص60.
وغيرُها منَ الرواياتِ التي رويَ فيها كسرُ الضلع، هذا مُضافاً إلى أنّها موافقةٌ للرواياتِ التي تنصُّ أنّ الزهراءَ (ع) قد ظُلمَت، والرواياتُ التي تنصُّ أنّها قد استشهدَت وقُتلت، والرواياتُ التي تنصُّ أنّها خرجَت منَ الدّنيا وهيَ غاضبةٌ على الشيخين، والرواياتُ التي تنصُّ أنّهم هجموا على دارِها واقتحموهُ وكشفوه.
ثانياً:
أمّا كتابُ سليمٍ بنِ قيس الهلالي فهوَ كتابٌ معروفٌ معتبرٌ صحيح، مِن أقدمِ الكتبِ التي كتبَت في الإسلام، رواهُ الشيعةُ جيلاً بعدَ جيل إلى يومِنا هذا، وليسَ الكتابُ منَ الكتبِ المجهولةِ التي ظهرَت فجأةً وفي صحراءِ المرّيخ أو بمدينةِ أصفهان، كما يدّعي السائلُ كذباً وزوراً، وأنّه ظهرَ بعدَ سنة 350 هجري، فإنَّ هذا الكتابَ منَ الكتبِ المتداولةِ في الحواضرِ العلميّة عندَ الشيعةِ والسنّةِ معاً، ولذا لاحقَ الحجّاجُ الثقفيّ (لع) سليماً بنَ قيس الهلاليّ (رض) وأرادَ قتلَه، لأجلِ كتابِه هذا، فهربَ سليمٌ إلى البصرة.
وكانَ سليمٌ يقطنُ المدينةَ المنوّرة، في زمنِ الخليفةِ الثاني، والتقى بأميرِ المؤمنينَ (ع) والحسنين (ع)، وبكبارِ الصحابةِ أمثال سلمان وأبي ذرٍّ والمقداد وابنِ عبّاس وعبدِ الله بنِ جعفر، وسمعَ منهم أحداثَ الفتنة، وسجّلها ودوّنَها في كتابِه، ثمَّ اشتركَ معَ أميرِ المؤمنينَ (ع) في حربِ الجملِ وصفّين والنهروان، وبقيَ في الكوفةِ إلى زمانِ الحجّاجِ الثقفي، سنةَ 75 هجري، فطلبَهُ الحجّاجُ ليقتلَه، فهربَ منَ الكوفةِ متوجّهاً إلى البصرة، ومِنها إلى بلادِ فارس واختفى مُختبئاً في بيتِ التابعيّ الكبير أبانَ بنِ أبي عيّاش، المُحدّثِ المعروف، والقارئ الشهير، والفقيهِ العالم، والعابدِ الزاهد، وتوفيَ سليمٌ سنةَ 76 هجري، وقد تركَ كتابَهُ عندَ أبانَ بنِ أبي عيّاش.
وأبانُ بنُ أبي عيّاش، راوي كتاب سُليمٍ بنِ قيس، مِن علماءِ القرنِ الأوّلِ والثاني الهجري، ( 62 ـ 138 )
ثمَّ رواه علماءُ الشيعةِ الكبارِ عن أبانَ عن سليم.
وهذهِ قائمةٌ ببعضِ الأسماءِ التي روَت عَن أبانَ بنِ أبي عيّاش كتابَ سُليم:
1ـ المحدّثُ الفقيهُ حمّادُ بنُ عيسى.
2ـ المحدّثُ الفقيهُ عمرُ بنُ أذينة.
3ـ المحدّثُ الفقيهُ معمّرُ بنُ راشد.
4ـ المحدّثُ همامُ بنُ نافعٍ الصنعاني. (والدُ عبدِ الرزّاقِ الصنعاني)
5ـ المحدّثُ إبراهيمُ بنِ عمرَ اليماني.
وغيرهم منَ العلماءِ والفقهاءِ والمُحدّثين الذينَ رووا نسخةَ كتابِ سُليمٍ عن أبانَ بنِ أبي عيّاش، وهؤلاءِ مِن علماءِ القرنِ الثاني الهجري.
ثمَّ توالَت الرواياتُ في الأجيالِ التاليةِ الرواية عن الجيلِ الثاني، وهكذا إلى يومِنا هذا.
فكتابُ سليمٍ له حضورٌ في المجاميعِ العلميّةِ والحديثيّةِ والروائيّةِ والتاريخيّةِ الشيعيّةِ والسنّيّة.
ولذا قالَ الشيخُ النعمانيّ (ت380هـ): وليسَ بينَ جميعِ الشيعةِ ممَّن حملَ العلمَ ورواهُ عن الأئمّةِ (عليهم السلام) خلافٌ في أنَّ كتابَ سُليم بنِ قيس الهلالي أصلٌ مِن أكبرِ كتبِ الأصولِ التي رواها أهلُ العلم ومِن حملةِ حديثِ أهلِ البيت (عليهم السلام) وأقدمِها ، لأنّ جميعَ ما اشتملَ عليهِ هذا الأصلُ إنّما هوَ عن رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وأميرِ المؤمنين والمقدادِ وسلمانَ الفارسيّ وأبي ذرٍّ ومَن جرى مجراهُم ممَّن شهدَ رسولَ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وأميرَ المؤمنين (عليهِ السلام) وسمعَ منهما ، وهوَ منَ الأصولِ التي ترجعُ الشيعةُ إليها ويعوّلُ عليها. (الغيبةُ للنعماني، ص103).
والكلينيُّ نفسُه يروي مِن كتابِ سليم رواياتٍ عديدةً، وهذهِ بعضُ طرقِه إلى الكتابِ: ( 1 ) عليُّ بنُ إبراهيم ، عَن أبيه ، عن حمّادَ بنِ عيسى ، عن إبراهيمَ بنِ عُمر اليماني ، عن أبانَ بنِ أبي عيّاش ، عن سُليمٍ بنِ قيس ، ( 2 ) ومحمّدُ بنُ يحيى ، عن أحمدَ بنِ محمّد ، عن ابنِ أبي عُمير ، عن عُمرَ بنِ أذينة ، ( 3 ) وعليٌّ بنُ محمّد ، عن أحمدَ بنِ هلال ، عن ابنِ أبي عُمير ، عن عُمر بنِ أذينة ، عن [ أبانَ ] بنِ أبي عيّاش ، عن سليمٍ بنِ قيس جميعاً ، عن حمّادَ بنِ عيسى ، عن عُمرَ بنِ أذينة ، عن أبانَ بنِ أبي عيّاش ، عن سليمٍ بنِ قيس. (الكافي للكُليني: 1 / 529).
عدّةٌ مِن أصحابنا ، عن أحمدَ بنِ محمّدٍ بن خالد ، عن عثمانَ بنِ عيسى ، عن عمرَ بنِ أذينة ، عن أبانَ بنِ أبي عيّاش ، عن سُليمٍ بنِ قيس. (الكافي للكُليني: 2 / 323).
فما يدّعيهِ السائلُ أنّ كتابَ سليمٍ ظهرَ بعدَ سنة 350 هجري في صحراءَ مِن صحاري المرّيخ، أو في جبلٍ مِن جبالِ تورا بورا، كذبٌ وزور، وجهلٌ فاضح، وقد ابتلى اللهُ الشيعةَ بكثرةِ الكذّابينَ عليهم في كلِّ زمانٍ ومكان، وليسَ ذلكَ إلّا لأجلِ ولائِهم لأهلِ بيتِ النبيّ (صلواتُ اللهِ عليهم أجمعين).
وسيعلمُ الذينَ ظلموا آلَ محمّدٍ أيَّ مُنقلبٍ ينقلبون.
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
اترك تعليق