لو تكرمت أحتاج مراجع عن الشخصية الدوغمائية

الجوابُ:

الدّوغمائيّةُ مُصطلَحٌ يُستخدَمُ لوصفِ الجمودِ والتزمّتِ الفكريّ، وبالتالي هيَ ليسَت علماً أو فرعاً مِن عِلم حتّى يكونَ لها مراجعُ خاصّة، فالإنسانُ الذي يتمسّكُ بأفكارِه دونَ مُبرّراتٍ واضحةٍ ودونَ الالتفاتِ إلى الأدلّةِ التي تعارضُها يقالُ عنهُ دُغمائي، وبمعنىً آخر هيَ حالةٌ منَ التعصّبِ لفكرٍ أو عقيدةٍ حتّى لو قامَت الأدلّةُ على خلافِها، وقد جاءَ في تعريفِ هذا المُصطلَحِ في موسوعةِ لالاند الفلسفيّةِ بأنّه (حيلةٌ فكريّةٌ مُخاتلةٌ قائمةٌ على تأكيدِ المرءِ لمُعتقداتِه بأمرٍ وسُلطان، ودونَ القبولِ بأنّها قد تحتملُ شيئاً مِنَ النقصِ أو الخطأ)

 وجاءَ في موسوعةِ "الردِّ على المذاهبِ الفكريّةِ المُعاصرة" أنَّ الدوغمائيّةَ مُصطلَحٌ نصرانيٌّ كاثولكي مُشتقٌّ مِن كلمةِ "دوغما" ومعناه: المبدأ ذو الصحّةِ المُطلقةِ، وهذا المُصطلَحُ مُرتبطٌ بالإلهامِ الذي تزعمُهُ الكنيسةُ لنفسِها، والادّعاء بأنَّ بابا الفاتيكان معصوم، وذلكَ بموجبِ دوغما صدرَت سنةَ (1870م)، وأصبحَت الدوغمائيّةُ أو الدوغماتيّةُ وصفاً يُطلَقُ على الثوراتِ والحركاتِ الشموليّةِ مثلَ الفاشيّةِ والشيوعيّة.

ويعدُّ الفيلسوفُ الأمريكيُّ (ميلتون روكيش) أكثرَ مَن بلورَ مفهومَ هذا المُصطلَحِ ووضعَ ضوابطَ ومواصفاتِ الشخصيّةِ الدغمائيّة، وقد لخّصَ الدكتور هاشِم صالح مفهومَ الدغمائيّةِ عندَ ميلتون روكيش ضمنَ تقديمِه لكتابِ مُحمّد أركون (الفكرُ الإسلاميّ قراءةٌ علميّة) ونحنُ بدورِنا نُلخّصُ تلخيصَ الدكتور هاشِم صالِح فنقول: 

انطلقَ روكيش أوّلاً مِن مفهومِ الصرامةِ العقليّةِ قبلَ أن يتوصّلَ إلى البلورةِ النهائيّةِ لمفهومِ الدوغمائيّةِ أو آليّةِ اشتغالِها. وقد عرّفَ الصرامةَ العقليّةَ كما يلي: 

عدمُ قُدرةِ الشخصِ على تغييرِ جهازِه الفكريّ أو العقليّ عندَما تتطلّبُ الشروطُ الموضوعيّةُ ذلك، وعدمُ القُدرةِ على إعادةِ ترتيبِ أو تركيبِ حقلٍ ما تتواجدُ فيهِ عدّةُ حلولٍ لمُشكلةٍ واحدة وذلكَ بهدفِ حلِّ هذهِ المُشكلةِ بفاعليّةٍ أكبر.

ثمَّ تحدّثَ روكيش عن الروحِ المُنفتحةِ والروحِ المُغلقةِ والبُنيةِ التركيبيّةِ لكلٍّ مِنهما وارتباطِ الثانيةِ بالعقليّةِ الدوغمائيّة. وأخيراً يدرسُ علاقةَ الأنظمةِ الأيدلوجيّةِ (بغضِّ النظرِ عن مضامينِها) بالرّوحِ المُنغلقةِ والعقليّةِ الدوغمائيّة. إنَّ الموضوعَ الذي يهمُّ روكيش ليسَ مضمونَ الأيدلوجيا (هل هوَ مضمونٌ دينيٌّ أم فلسفيٌّ أم أيديلوجي حديث، إلخ..) وإنّما آليّةُ ارتباطِ العقليّةِ الدوغمائيّةِ بنظامٍ أيدلوجيٍّ مُعيّن. إنّه يحذفُ مِن دائرةِ بحوثِه مسألةَ المحتوياتِ والمضامينِ لمصلحةِ الأشكالِ والوظائفِ والآليّاتِ وطرائقِ الاشتغال. وبدلاً منَ التحدّثِ عن نظامٍ أيدلوجيٍّ ما فإنَّ روكيش يُفضّلُ استخدامَ مُصطلحِ (نظامٌ منَ العقائدِ أو الإيمان) ويعتبرُ أنَّ العقليّةَ الدوغمائيّةَ ترتكزُ أساساً على ثنائيّةٍ ضدّيّةٍ حادّة هيَ: نظامٌ منَ الإيمانِ أو العقائد⁄ ونظامٌ منَ اللاإيمان واللاعقائد. بكلمةٍ أخرى أكثرُ وضوحاً فإنَّ العقليّةَ الدوغمائيّةَ ترتبطُ بشدّةٍ وبصرامةٍ بمجموعةٍ منَ المبادئِ العِقَديّةِ وترفضُ بنفسِ الشدّةِ والصرامةِ مجموعةً أخرى وتعتبرُها لاغيةً لا معنى لها. ولذلكَ فهيَ تدخلُ في دائرةِ (الممنوعِ التفكيرُ فيه) أو المُستحيلِ التفكيرُ فيه وتتراكمُ بمرورِ الزمنِ والأجيالِ على هيئةِ لا مُفكَّرَ فيه.

وتكونُ تشكيلةٌ معرفيّةٌ ما أكثرَ دوغمائيّةً كلّما كانَت لا تُميّزُ بينَ العقائدِ والإيماناتِ التي ترفضُها. إنّها ترميها جميعَها ضمنَ كُتلةٍ واحدةٍ في دائرةِ الخطأ.

كما تكونُ تشكيلةٌ معرفيّةٌ مُعيّنةٌ دوغمائيّةً أكثرَ كلّما زادَت درجةُ اعتمادِ اليقينيّاتِ الهامشيّةِ على اليقينيّاتِ المركزيّةِ الأساسيّة.

 وأخيراً تكونُ بُنيةٌ معرفيّةٌ ما دوغمائيّةً أكثرَ فأكثر كلّما كانَ منظورُها الزمنيُّ مُوجّهاً بشدّةٍ نحوَ نُقطةٍ بؤريّةٍ أو محرقيّة: أي أنَّ الحاضرَ مُحتقرٌ باستمرارٍ لصالحِ المُبالغةِ بشأنِ الماضي (مفهومُ العصرِ الذّهبي).

ومِن خلالِ ما تقدّمَ نكتشفُ أنَّ الدوغمائيّةَ إشكاليّةٌ نفسيّةٌ أكثرَ مِن كونِها إشكاليّةً معرفيّةً، فالنفسُ الإنسانيّةُ هيَ المسؤولةُ عن التعصّبِ وعدمِ قبولِ الآخر، والإسلامُ كدينٍ يوصي أتباعَهُ بالانفتاحِ الدائمِ على العلمِ والمعرفةِ كما جاءَ في الخبر (الحِكمةُ ضالّةُ المؤمنِ أينَما وجدَها أخذَها)، بل تقومُ فلسفةُ الإسلامِ أساساً على مُحاربةِ الأفكارِ المُتصلّبةِ التي تُشكّلُ أغلالاً للعقل (وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَالأَغلَالَ الَّتِي كَانَت عَلَيهِم)، أمّا العقيدةُ الإسلاميّةُ فقائمةٌ على ضرورةِ النظرِ والاجتهادِ ولا يجوزُ فيها التقليدُ والاتّباعُ الأعمى، وإنّما يجبُ على كلِّ مُسلمٍ تحصيلُ العلمِ فيها بالدّليلِ والبُرهان، وبذلكَ يُصبِحُ الإسلامُ كدينٍ أبعدَ ما يكونُ مِن وصفِ الدغمائيّةِ طالما يطالبُ الجميعَ بضرورةِ النظرِ والاجتهادِ فيما يجبُ الإيمانُ به. إلّا أنَّ كلَّ ذلكَ لا يمنعُ مِن وجودِ تيّاراتٍ داخلَ الوسطِ الإسلاميّ محكومةٍ برؤيةٍ دوغمائيّة، كما هوَ الحالُ في التيّاراتِ السلفيّةِ التي لا تعترفُ بمَن يخالفُها في الرّأي ولا تقبلُ بالبحوثِ العلميّةِ المُحايدة، وهناكَ عشراتُ الشواهدِ التي تعكِسُ نماذجَ لعقليّاتٍ دوغمائيّةٍ تحتكرُ الحقيقةَ دونَ أيّ مُبرّراتٍ عُقلائيّة. ممّا يعني أنَّ الفكرَ الإسلاميّ ضمنَ المنظورِ السلفيّ لا يخرجُ عن كونِه حركةً اجتماعيّةً نفسيّةً تكتسبُ وجودَها المعرفيَّ داخلَ أسوارِ الجماعةِ الواحدة. وهيَ البيئةُ التي تنمو وتترعرعُ فيها العقليّاتُ الدوغمائيّة.

أمّا الإسلامُ كدينٍ فقد شجّعَ على السؤالِ وأمرَ به قالَ تعالى: (فَاسأَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لَا تَعلَمُونَ). رويَ عن النبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم أنّهُ قال: (العلمُ خزائنُ ومفتاحُه السؤالُ فاسألوا رحمَكم الله فإنّما يُؤجَرُ في العلمِ ثلاثةٌ القائلُ والمُستمِعُ والآخذ)، وعليهِ لا يوجدُ أيُّ مُبرّرٍ نتّهمُ بهِ الدينَ بالدغمائيّةِ طالما شجّعَ على السّؤالِ وأمرَ بالعقلِ والتفكّر.