كيف نواجه الغزو الثقافي

كيفَ نواجهُ الغزوَ الثقافي؟

الجوابُ:

يمكنُنا القولُ إنَّ مُعظمَ الكتاباتِ الإسلاميّةِ في حقيقتِها مُعالجةٌ لهذا السؤال، فعلمُ الكلامِ بصورتِه القديمةِ والجديدة هوَ في الواقعِ دفاعٌ عن الإسلامِ عقائديّاً وثقافيّاً، وعليهِ فإنَّ الإجابةَ المُختصرةَ قد تكونُ ذاتَ تأثيراتٍ محدودة، كما أنَّ توسيعَ الإجابةِ يعني النقاشَ التفصيليَّ لجميعِ عناوينِ الغزوِ الثقافي وهذا ما لا يتحمّلهُ المَجال، ومِن هُنا فإنَّ الإجابةَ المثاليّةَ في تصوّرِنا يجبُ أن تتضمّنَ المفتاحَ الذي يجعلُ الجميعَ قادراً على المُساهمةِ في هذهِ المواجهة، ويبدو لنا أنَّ الخطوةَ الأولى في هذهِ المواجهةِ هي تحديدُ ساحةِ الصّراعِ التي تتواجَهُ فيها الثقافةُ الدخيلةُ والثقافةُ الأصيلة، ومنَ المؤكّدِ أنَّ الإنسانَ كفردٍ أو كمُجتمعٍ هوَ الذي يُشكّلُ ساحةَ الصراعِ بينَ الثقافةِ الغربيّة والثقافةِ الإسلاميّة، فطبيعةُ الثقافاتِ تستهدفُ بالأساسِ توجيهَ الإنسانِ والهيمنةَ عليهِ حضاريّاً، فمَن يكسبُ إدارةَ الإنسانِ وتوجيهَهُ حضاريّاً يكسبُ هذا الصراعَ الثقافي، وما نشهدُه اليومَ مِن هيمنةٍ للثقافةِ الغربيّة على مُجمَلِ الحياةِ الإنسانيّة بما فيها حياةُ المُسلمين دليلٌ على هزيمةِ المُسلمينَ حضاريّاً، والمهزومُ في العادةِ يُقلّدُ ثقافةَ المُنتصِر أو أنَّ المُنتصِرَ هوَ الذي يفرِضُ ثقافتَه على المَهزوم، ففي النتيجةِ أنَّ التراجعَ الحضاريَّ للمُسلمين هوَ الذي أدّى إلى تراجعِهم ثقافيّاً، فعندَما كانَت الحضارةُ الإسلاميّةُ هيَ الأولى عالميّاً كانَت الثقافةُ الإسلاميّةُ هيَ مصدرَ إلهامٍ للشعوبِ الغربيّة، في حينِ أصبحَت الثقافةُ الغربيّةُ اليومَ هيَ مصدرُ إلهامٍ للشعوبِ الإسلاميّة، ولا يُفهَمُ ذلكَ على أنّهُ تبريرٌ للقبولِ بالثقافةِ الغربيّة طالما كانَت هيَ صاحبةَ الحضارةِ العصريّة، لأنَّ تلكَ الثقافةَ بدأت بالفعلِ في التآكلِ وتكشّفَت كثيرٌ مِن عيوبِها الاجتماعيّةِ والسياسيّةِ والاقتصاديّة وأصبحَت سبباً لشقاءِ الشعوبِ الإسلاميّة، كما لا نقصِدُ تعليقَ مواجهةِ الغزوِ الثقافي على إقامةِ نظامٍ إسلاميّ يكونُ هوَ صاحب اليدِ العُليا عالميّاً؛ لأنَّ ذلكَ قد يكونُ حُلماً بعيدَ المنالِ في الوقتِ المنظور، وإنّما نقصدُ بذلكَ تحميلَ الأمّةِ مسؤوليّةَ الوعي الحضاريّ بالإسلام، فالذي يبدو للعيانِ أنَّ الأمّةَ ما زالَت غيرَ مُقتنعةٍ بمشروعِ الإسلامِ الحضاري، أو على الأقل في حالةٍ منَ الشكِّ والريبةِ في قُدرةِ الإسلام على قيادةِ العالمِ حضاريّاً، فالوعيُ الإسلاميُّ الأكثرُ حضوراً هوَ الوعيُ الذي يتعاملُ معَ الإسلامِ بوصفِه رسالةً للآخرةِ ولا علاقةَ لهُ بالحياةِ الدّنيا، وعليهِ قبلَ الحديثِ عن مواجهةِ الآخرِ ثقافيّاً لابدَّ أن نُحدّدَ طبيعةَ الثقافةِ التي نواجَهُ بها، ويبدو أنَّ الأمّةَ الإسلاميّةَ لم تُنجِز بعد هذهِ المُهمّة، فما زالَ الخطابُ الإسلاميُّ غيرَ مستوعبٍ لخطورةِ اللحظةِ الحضاريّةِ التي تعيشُها الأمّةُ الإسلاميّة، وما زالَ الخطابُ مُنشغِلاً ببعضِ العناوينِ والمُمارساتِ البعيدةِ عن همومِ وآمالِ الإنسانِ المُعاصِر، فطبيعةُ الإنسانِ وطبيعةُ الزمانِ يستوجبانِ فهماً إسلاميّاً يتناسبُ والصيرورة الحضاريّة للإنسانيّة، بينَما لم تزَل الأمّةُ تعيشُ الإسلامَ في صورتِه التاريخيّة، فإذا كانَ الوعيُ ماضويّاً لا يتفهّمُ ضروراتِ المرحلةِ فإنَّ التحجّرَ والجمودَ سيكونُ هوَ المصير المحتوم، والإنسانُ المُسلمُ مُطالبٌ بأن يكونَ إسلاميّاً في أفكارِه ومعارفِه، وفي نفسِ الوقتِ هوَ مُطالبٌ بالتفاعلِ معَ الحياةِ بكلِّ ما فيها مِن مُتغيّرات، وحينَها يصبحُ الاشتغالُ على إنتاجِ فكرٍ يستوعبُ كِلا البُعدين ضرورةً تفرضُها موقعيّةُ الإنسانِ في الحياة، ولا يمكنُ أن تخرُجَ الأمّةُ منَ التديّنِ الشكليّ والطقوسيّ ما لَم تخرُج منَ الحياةِ في الماضي لتعيشَ في الحاضِر.

وما لم ينجَح فيهِ الخطابُ الإسلاميّ إلّا نادِراً هوَ تصويرُ مفهومٍ حيويّ للدّين، وقد ساعدَ الاصطفافُ والتمذهبُ الداخليّ على الابتعادِ بالإسلامِ عن غاياتِه الضروريّة، وما حصلَ مِن انحرافٍ في مسيرةِ الإسلامِ السياسيّةِ ساعدَ على إفراغِه مِن مُحتواهُ القيمي، ولذلكَ ابتعدَت الأمّةُ كثيراً عن تحقيقِ أيّ فهمٍ حضاريّ للإسلام. 

فالحالةُ الثقافيّةُ العالميّةُ التي يعيشُ في أحضانِها الإنسانِ المُسلم، تفرضُ عليهِ نمطاً منَ الحياةِ لا يمكنُ مُقاربتُه بالمفاهيمِ الإسلاميّةِ التراثيّة، فمفهومُ الحُكمِ، والحُرّيّةِ، والعدالةِ، والحقوقِ، وغيرِها مفاهيمُ ذاتُ دلالاتٍ عصريّةٍ لا أثرَ لها في التراث، والمسلمُ مُطالبٌ بأن يكونَ مُساهِماً في بناءِ هذه الحياة.

يقولُ مُحمّد عابد الجابري في كتابِه التراثُ والحداثة: "ما لم نُمارِس العقلانيّةَ في تراثِنا وما لم نفضَح أصولَ الاستبدادِ ومظاهرَه في هذا التراثِ فإنّنا لن ننجحَ في تأسيسِ حداثةٍ خاصّةٍ بنا، حداثةٍ ننخرطُ بها ومِن خلالِها في الحداثةِ المُعاصرةِ "العالميّة" كفاعلينَ وليسَ مُجرّدَ مُنفعلين". 

فكيفَ يمكنُ للمُسلمِ المُعاصرِ أن يتحدّثَ عن النّظمِ السياسيّةِ الحديثة؟ وهوَ مُشبَعٌ بثقافةِ الخلافةِ الإسلاميّة، وأدبيّاتِها التاريخيّة؟

 أو كيفَ لهُ أن يتحدّثَ عن الحقوقِ والحُرّيّاتِ والسّلمِ العالمي، وهوَ يُحدّثُ نفسَه بغزو ديارِ الكُفر وسلبِ خيراتِها وسبي نسائِها؟

ويبدو أنَّ ضعفَ الأمّةِ عسكريّاً هوَ الذي يمنعُها مِن بسطِ سيطرتِنا بالقوّةِ على العالم، فلو تمكّنَت الأمّةُ منَ القوّةِ العسكريّة وبحسبِ فهمِها المُشوّهِ للإسلامِ فإنّها سوفَ تُدخِلُ العالمَ في حروبٍ مُدمّرةٍ بحُجّةِ إقامةِ دينِ الله، وما فعلَتهُ داعشُ وطالبان يُعدُّ تجربةً مُصغّرةً لذلك، فالذي يُفجّرُ نفسَه في وسطِ الأبرياء لا يتورّعُ مِن تفجيرِ قُنبلةٍ نوويّةٍ إذا كانَت تحتَ يدِه وتصرّفِه، في حينِ أنَّ حقيقةَ الإسلامِ قائمةٌ على بسطِ وجودِه بالفكرِ والثقافةِ والإقناعِ بدورِه الحضاريّ للإنسان، ومعَ غيابِ هذا الوعي الحضاريّ تجدُ الأمّةَ بينَ خِيارين بينَ الذوبانِ في ثقافةِ العصرِ وبينَ أن تتبنّى مشروعَ الخلافةِ الإسلاميّة في صورتِه الداعشيّةِ والطالبانيّة، ومعَ الأسفِ هناكَ ضبابيّةٌ فيما يتعلّقُ بالخيارِ الثالثِ وهوَ الفهمُ الحضاريّ للإسلام، فما لَم تتمكّن الأمّةُ مِن بلورةِ وعي حضاري للإسلامِ لا يمكنُها أن تواجهَ الغزوَ الثقافيّ للحضاراتِ الأخرى.   

ويبدو أنَّ الأمرَ الأكثر تأثيراً في خلقِ وعيٍ حضاريٍّ للإسلام هوَ مدى أهميّةِ الإسلامِ بالنسبةِ لحياةِ الإنسان؟ فالرّجوعُ إلى الإنسانِ والانطلاقُ منهُ يساعدُ في إيجادِ أرضيّةٍ لمُقاربةِ كلِّ المفاهيمِ الشائكةِ ومِن ضمنِها المفهومُ الحضاريُّ للإسلام، وهذا الرجوعُ يحتاجُ إلى التذكيرِ الدائمِ والتنبيهِ المُستمرِّ بإنسانيّةِ الإنسانِ ومحوريّتِه، وهذا ما أهملَهُ الخطابُ الإسلاميّ كما يبدو. 

وهُنا يبرزُ السؤالُ كيفَ يجبُ أن نفهمَ الإسلام؟ هل بوصفِه قضيّةً تهتمُّ بحياةِ الإنسانِ في الدّنيا أم أنّه يهملَ ذلكَ بالمُطلق؟

فإذا لم تكُن الإجابةُ على هذا السؤالِ واضحةً بكلِّ تفاصيلِها وأبعادِها لا يمكنُ أن تقودَ الأمّةُ أيُّ نوعٍ مِن أنواعِ المواجهةِ الثقافيّة، فيجبُ أن يكونَ الإسلامُ في وعي الأمّةِ هوَ فلسفةٌ للحياةِ والإنسان وليسَ فلسفةً تمنعُ الإنسانَ منَ التفاعلِ المطلوبِ معَ الحياة، وهُنا يبرزُ دورُ كلِّ الأمّةِ في هذهِ المواجهةِ الثقافيّةِ بتحمّلِ مسؤوليّتِها وبإعادةِ ثقتِها في ثقافتِها الإسلاميّةِ وتطويرِ وعيها الحضاري، فإذا تضافرَت جهودُ الأمّةِ يمكنُها أن تقودَ هذا الصراعَ بقوّةٍ واقتدار، أمّا إذا كانَت ثِقةُ الأمّةِ مهزوزةً أو كانَت ثقافتُها مشوّهةً فإنَّ مصيرَها سيكونُ الذوبانَ في ثقافةِ الحضاراتِ الأخرى.