الإنسان مجبور أم مختار؟

إذا كان الإنسان مسيّراً فلماذا يُعاقب على أعماله السيّئة؟

: السيد رعد المرسومي

الجواب:

اعلم أخي السائل أنّ معرفة الجواب عن سؤالك في هذه المسألة الخطيرة متوقّفٌ على بيان الموقف الصحيح من أهمِّ مسألة من مسائل العقيدة الإسلاميّة، وهي: كيف يصدر الفِعل من الإنسان؟ وذلك لأنّه بعد وفاة رسول الله (ص) طرحت ثلاث نظريّات متعلّقة بهذه المسألة:

الأولى تقول: إنَّ الإنسان فاعلٌ مجبور، مسيَّر، (وتسمّى المجبّرة).

والثانية تقول: إنّ الإنسانَ كائن متروكٌ لحاله، ومفوّضٌ إليه، وأنّ أفعاله لا تستند إلى اللَّه مطلقاً، وتسمّى (القدريّة المفوّضة).

والثالثة تقول: إنّ الفعل الصادر من الإنسان هو أمرٌ بينَ أمرَين.

وفيما يلي بيان ذلك:

1- أمّا المجبرة: فيذهب أصحاب هذه النظرية إلى القول: بأن كل فعل يصدر عن الإنسان فهو مخلوق لله، سواء كان ذلك الفعل الصادر خيراً أم شراً، من دون أن يكون للإنسان أي اختيار أو أثر في صدوره عنه أو منع صدوره.

أي أنّ أصحاب هذه النظرية يذهبون إلى سلب إرادة الإنسان وأنّ الفعل صادر حقيقة عن الله تعالى وأنّ الانسان مجرّد وعاء للفعل.

وقد استدل هؤلاء لمذهبهم بآيات منها قوله تعالى: (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل). الزمر / 62، وقوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون). الصافات / 92.

ويقال: بأنّ أول من ابتدع هذه النظرية وروّج لها الجعد بن درهم مولى بني الحكم من أهل الشام مربي بعض الخلفاء الأمويين.

ولذا عمل الأمويون على تثبيت فكرة القول القول بالجبر في أذهان بعض أتباعهم ومريديهم ثم احتضنوها وعملوا على نشرها وترويجها وحمايتها وذلك لأنها ترفع عنهم أمام الناس وزر ما يرتكبون من موبقات ويأتون من منكرات وجرائم باعتبار أنهم مجبورون على إتيانها ولا اختيار لهم فيها.

ويلاحظ أن فكرة الأشاعرة عن أفعال الإنسان تلتقي في نتيجتها مع فكرة المجبرة، وذلك لأن الأشاعرة يقولون: «إن أعمال العباد مخلوقة لله مقدورة له»، ومرجع ذلك إلى إنكار السببية الطبيعية بين الأشياء وأن الله هو السبب الحقيقي لا سبب سواه إذْ ظنوا أن ذلك هو مقتضى كونه تعالى هو الخالق الذي لا شريك له.

2- وأمّا القدرية «المفوضة»: فيذهب أصحاب هذه النظريّة إلى القول: بأنّ كل فعل يصدر عن الإنسان خيراً كان أم شراً فهو مخلوق له وحده بعد أن قدّره بعلمه وتحرك نحوه بإرادته، من دون أن يكون لعلم الله أو إرادته دخالة في تقديره وإرادته.

أي أنّ أصحاب نظرية التفويض يذهبون إلى القول بأنّ الفعل صادر من الانسان فقط؛ لأنّ الله تعالى قد فوّض للإنسان بعد خلقه جميع أعماله من دون تدخّل للإرادة الإلهية في ذلك الفعل، وإنّما ينحصر عمل الله تعالى بخلق الانسان وقدرته فقط، ومن حملة لواء هذه الفكرة غيلان الدمشقي الذي يستدل على فكرته بقوله تعالى: (إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً). الإنسان / 3

ويلاحظ أنّ عقيدة المعتزلة في أفعال الإنسان تلتقي في جوهرها مع فكرة القدرية وذلك لأن المعتزلة يقولون بمبدأ حرية الإرادة في أفعال الإنسان، وبعبارة أخرى يقولون: «إن الإنسان مستقل في أفعاله وليست له حاجة إلى الله تعالى» باعتبار أن نسبة الأفعال إليه تستلزم نسبة النقص إليه.

3- الأمر بين الأمرين: فيذهب أصحاب هذه النظريّة إلى القول:

إنّ أفعالنا من جهة هي أفعالنا حقيقة، ومخلوقة لنا، ونحن أسبابها الطبيعية، وهي تحت قدرتنا واختيارنا.

ومن جهة أخرى هي مقدورة لله تعالى وداخلة في سلطانه، لأنه مفيض الوجود ومعطيه، ولأنه الآمر والناهي.

أي أنّ أصحاب هذه النظرية حاولوا رفع عمومية النظريتين، فلا سلب إرادةٍ مطلق، ولا تفويض فعلٍ مطلق، بل فعل الإنسان في حال كونه مستنداً إلى العبد، مستند إلى اللَّه أيضاً وأنّ الفعل تتدخل فيه إرادتا الله والانسان معاً. قال تعالى: (وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله). الدهر / 30.

فالاستثناء من النفي يفيد أن مشيئة العبد متوقفة في وجودها على مشيئة الله، فلمشيئة الله تأثير في فعل العبد من طريق تعلّقها بمشيئة العبد، وليست متعلّقة بفعل العبد مستقلاً في إرادته يفعل بلا واسطة حتى تستلزم بطلان تأثير إرادة العبد وكون الفعل جبرياً، ولا أنّ العبد مستقلاً في إرادته يفعل ما يشاء، شاء الله أم لم يشأ، فالفعل اختياري لاستناده إلى اختيار العبد، وأمّا اختيار العبد فليس مستنداً إلى اختيار آخر. وهذا ما عليه أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم.

ومن هذا العرض ظهر لنا بأن المجبرة ينسبون الظلم لله تعالى عندما ذهبوا إلى أن الإنسان مجبور في أفعاله من خير أو شر، ومع ذلك يحاسب الله تعالى عليها؟!

كما أنّ المفوضة يحسبون الإنسان مستقلاً في أعماله عن الله، فقد أخرجوا الله من سلطانه وأشركوا غيره معه في الخلق.

وأمّا مذهب أهل البيت (عليهم السلام) فقد أدرك الحقيقة عندما عـدَّ الإنسان مسؤولاً عن أعماله، ولكنه في نفس الوقت مرتبط بالله الذي خلقه وأمده بالجوارح ومختلف الطاقات، وأمره بما فيه صلاحه ونهاه عما فيه خسرانه.

والذي يدلُّ على أنّ مذهب أهل البيت (ع) وشيعتهم هو الصواب في هذا المسألة هو وجود آيات تؤيّد نظريّتهم، وكذلك وجود روايات عن أهل بيت العصمة تؤكّد هذه النظريّة، فأمّا الآيات:

فقوله تعالى في الآية 17 من سورة الانفال: «فَلَمْ تقْتُلُوهمْ وَلكنّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيتَ إِذْ رَمَيتَ وَلكنَّ اللّهَ رَمى».

فترى أنَّه سبحانه وتعالى يصف النبيّ الأَعظم (ص) بالرمي وينسبه إليه حقيقة وتقول: «إذ رميت»، لكنّه يصف نفسه سبحانه وتعالى بأنّه الرامي الحقيقي، وما ذلك إلّا لأن النبي (ص) إنّما قام بما قام بالقدرة التي منحها اللَّه له، وكان مفيضاً لها عليه حين الفعل، فيكون فعله فعلا للَّه ‏أيضاً، بهذا الإعتبار. [الإلهيات للسبحانيّ، ج‏ 2، ص، 352]

ومن تلك الآيات قوله تعالى في سورة الفاتحة «إيّاك نعبد وإياك نستعين». فالآية لا تنسجم مع القول بالجبر؛ إذْ لو كان الله تعالى هو الخالق لأفعال الإنسان ولا دخل لإرادة الانسان في الفعل فلا معنى حينئذ لنسبة العبادة لنفسه في قوله «إياك نعبد» ؛ وكذلك لا تنسجم الآية مع القول بالتفويض إذ لا معنى للاستعانة بموجود لا يمكنه التدخل والإعانة على الفعل، يضاف إلى ذلك إذا كان اللّه تعالى هو بنفسه خالق الكفر والإيمان والمعاصي فكيف يستعان به للتخلص من الكفر والمعاصي. [الميزان، ج1، ص 24].

وقد استدل الإمام الصادق (ع) بهذه الآية حينما قال للقدري: «اقرأ سورة الحمد». فقرأها، فلمّا بلغ قول اللَّه تبارك وتعالى: «إيّاك نعبد وإيّاك نستعين».

فقال جعفر بن محمد (ع): «قف! مَن تستعين؟ وما حاجتك إلى المؤونة أنّ الأمر إليك»، فبهت الرجل.[بحار الأنوار، ج5، ص 56].

وهكذا الحال مع قوله سبحانه: «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أساءَ فَعَلَيْها وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبيدِ»[ سورة فصّلت: الآية 46]. وقوله سبحانه: «وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسانِ إِلَّا ما سَعى».[ النجم: 39].

وأمّا الروايات فكثيرة، إذْ إنّ أوّل من طرح نظرية أمر بين الأمرين إنّما هو الإمام أمير المؤمنين (ع) حينما قام إِليه رجُلٌ ممَّنْ شهدَ وقعةَ الجملِ

فقال: «يا أَميرَ المؤمنينَ (ع) أَخبِرنا عن القدر.

فقال: بحرٌ عَمِيقٌ فلا تَلِجْهُ».

فقال: «يا أَميرَ المؤمنينَ (ع) أَخبرنا عن القَدر».

فقال: «بيتٌ مُظْلِمٌ فلا تَدْخُلْهُ».

فقال: «يَا أَميرَ المؤمنينَ (ع) أَخبِرنا عن القدر».

فقال: «سِرُّ اللَّهِ فلا تبحثْ عنهُ».

فقال: «يا أَميرَ المؤمنينَ أَخبرنا عن القدر».

فقال: «لَمَّا أَبَيْتَ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لا جَبْرَ ولا تَفْوِيض‏». [كتاب مطالب السؤول في مناقب آل الرسول ( ع )، للشيخ محمد بن طلحة الشافعي، (ص ١٥٠), ونقلها عنه العلامة المجلسيّ في بحار الأنوار، ج 5، ص 57].

وثانياً: روى الصدوق عن المفضل بن عمر، عن أبي عبداللّه الصادق (ع) قال: «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين»

قال: فقلت: «وما أمر بين أمرين؟»

قال: «مَثَلُ ذلك مَثَلُ رجل رأيته على معصيةٍ فَنَهَيْتَه فلم ينته، فتركْتَه، ففعل تلك المعصية، فليس حيث لم يَقْبَلْ منك فتركته، أنت الذي أمرته بالمعصية».[التوحيد، باب 59، ص 362، ح8.].

قال الملّا صدرا معلقا على الحديث: «فمن حيث نهيته لم تفوض له الفعل ومن حيث تركك الأمر وفسح المجال له لم تجبره».[شرح أصول الكافي، ص416]

وثالثاً: وروى الصدوق عن البزنطي أنَّه قال لأبي الحسن الرضا (ع): «إنَّ أصحابنا بعضهم يقولون بالجبر وبعضهم بالاستطاعة فقال لي: «اكتب: قال اللّه تبارك وتعالى: يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبقوتي أديت إليَّ فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعاً بصيراً قوياً ما أَصابكَ منْ حسنةٍ فمنَ اللَّهِ وما أَصابكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فمنْ نفْسكَ وذلكَ أَنِّي أَوْلَى بِحسناتِكَ منكَ وأَنْتَ أَوْلَى بِسَيِّئَاتِكَ مِنِّي وذَلِكَ أَنِّي لا أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ وهمْ يُسْأَلُونَ».[أصول الكافي للكليني، ج1، ص 160. والتوحيد للصدوق، ص 338، باب 55، ح6].

والرواية صريحة في كون المشيئة والقوة أمرين ضروريين في وجود الإنسان وكلاهما من الله تعالى؛ وذلك أنّ المشيئة الإلهية تعلّقت في كون الإنسان ذا مشيئة وإرادة، وأنّه تعالى وهب الإنسان القوة اللازمة لإنجاز الفعل، ومن هنا فالإنسان ليس بغنى عن هاتين الحيثيتين وعليه تنسب حسناته إلى الله تعالى فيما إذا استعملهما في معصية الله لأنه الواهب لهاتين الخصوصيتين والآمر بالحسنات.

أمّا السيئات فإنّ الله تعالى واهب القوة والإرادة للإنسان من جهة وهو الناهي عن المعاصي من جهة أخرى ولمصلحة لم يضع المانع أمام تحققها، من هنا تنسب الأفعال إلى العباد وهم الأولى بها.[أصول الكافي، ج1، ص 160، تعليقة العلامة الطباطبائيّ]

إذنْ: فالحديث الشريف: « لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين » يدلُّ على أنّ الله تعالى أعطى القدرة للإنسان لكي يفعل أعماله بمحض إرادته واختياره فلولا القدرة التي أفاضها الله عليه لم يتمكّن من العمل ، لكن ليس معنى ذلك أنّه مسيّر ومجبور بل يصدر منه العمل باختياره فهو متمكّن من الفعل كما هو متمكّن من الترك فيختار الفعل أو الترك بإرادته ، ولذا يكون مسئولاً عن أفعاله ومؤاخذاً عليها لأنّها صدرت منه بإرادته.

وهذا نظير الأب الذي يعطي لولده مالاً ويطلب منه أن يصرفه في مصالحه، فلولا المال الذي أعطاه الأب لولده لم يتمكّن الولد من شراء شيء ، وبعد الإعطاء يكون قادراً على الشراء لكنّه مختار في شراء الخمر وشربه كما هو مختار في شراء الطعام وأكله. فإذا اشترى الخمر وشربه ، يكون هو المسئول عن فعله القبيح وللأب أن يعاقبه على ذلك مع انّ القدرة على شراء الخمر انّما حصلت بالمال الذي أعطاه الأب لكن إعطاء المال لم يكن موجباً لسلب إرادة الولد ، بل بعد التمكّن من المال الذي أعطاه الأب كان الولد متمكّناً من شراء ما ينفعه ومتمكّناً من شراء ما يضرّه ، لكنّه بسوء اختياره اختار شراء الخمر وشربه فهو المسئول والمؤاخذ على فعله القبيح.

هذا وقد ذهب إلى نظرية الشيعة الإماميّة أبو منصور الماتريدي، رغم قوله بنظرية الكسب، إلاّ أنّه فسّر الكسب بنحو ينسجم مع مذهب الإمامية في مسألة الأمر بين الأمرين، فقد ذهب إلى أنّ فعل الإنسان معلول للقدرة الإلهية الخالقة ومعلول لقدرة الإنسان الفاعل مستدلاً بمجموعة من الآيات والأحاديث بالإضافة إلى كون القضية عنده من الوجدانيات، وأنّ كلّ أحد يعلم من نفسه أنّه مختار لما يفعله، وأنّه فاعل كاسب.[ينظر: كتاب الوحيد، (ص225)].

وهذا المعنى يظهر من كلمات أتباعه كـالملا علي القاري. [شرح الفقه الأكبر، ص 59ـ 60]، والبياضي [إشارات المرام من عبارات الإمام، ص 256ـ 257]، والبَزدَوي. [أصول الدين، ص 99 و 104 105] الذي جعل قول الماتريديّة في مقابل قول الأشعري – القائل بالجبر - وهو يترجم مذهبه بما يلي: «قال أهل السنّة والجماعة: أفعال العباد مخلوقة للَّه ‏تعالى ومفعوله، واللَّه هو موجدها ومحدثها، ومنشئها، والعبد فاعل على الحقيقة، وهو ما يحصل منه باختيار وقدرة حادثين، وهذا هو فعل العبد، وفعله غير فعل اللَّه تعالى».[كتاب الكلام المقارن، ص 217ـ 220. وكتاب فرق ومذاهب كلامي، ص229ـ 232]،

وهكذا فعل البياضي عند إشارته لرواية الإمام الباقر (ع) مصرحاً بقبولها.[ إشارات المرام، ص258].

وكذلك نرى المدرسة الطحاوية – أتباع أبي جعفر المصريّ الطحاويّ (229- 321 هـ)- تنسجم في هذه المسألة مع ما ذهبت إليه المدرسة الإمامية.[العقيدة الطحاوية، ص 67. والكلام المقارن، ص 220ـ 221].

ويظهر تبنّي تلك النظرية من بعض متكلمي الأشاعرة وإن لم يستعملوا مفردة الأمر بين الأمرين كشمس الدين محمود الأصفهانيّ. [تسديد القواعد في شرح تجريد العقائد، مخطوط]، وعبد الوهاب الشعرانيّ.[اليواقيت والجواهر، ج1، ص 140]، والزرقانيّ. [مناهل العرفان، ج1، ص 506]، والشيخ محمد عبده. [رسالة التوحيد، ص 119]، والشيخ محمود شلتوت. [تفسير القرآن الكريم، ص 240ـ 242].

ومِمّا تقدّم لك اتّضح أنّ الإنسان ليس مسيّراً (أي مجبوراً في أفعاله على سبيل الإطلاق)، وليس مفوّضاً إليه على سبيل الإطلاق)، وإنّما هو أمر بين الأمرين.

ودمتم سالمين.