بين خروج الزهراء (ع) ... وخروج عائشة ...

سأل شيعيٌّ سنّيّاً: كيف تفسّر خروج عائشة من جانب التعفّف وقد خالفت أية (نساء النبي)؟ فأجاب السنّيُّ: أنت كيف تفسّر خروج سيدتك فاطمة في فدك، فلم يجب الشيعي. فكيف يكون جواب هذا السؤال؟

: السيد رعد المرسومي

الجواب:

اعلم أخي القارئ المنصف أنّ مثل هذا السؤال لا يطرحه السنّي على الشيعيّ، وإنّما يطرح مثل السؤال بعض المتطفّلين على أهل السنّة كالوهابية ومن سلك مسلكهم!

ويؤيّد ذلك أنّ بعض الوهابيّة قد نشر مثل هذا السؤال ودندن به على كثيرٍ من مواقع التواصل الاجتماعيّ، ثُمَّ مهما يكن من شيء، فإنّ الفرق بين خروج الزهراء (ع) في قضيّة فدك، وبين خروج عائشة، هو كالفرق بين الحقِّ والباطل، وذلك لأنّ سيّدة نساء العالمين (صلوات الله عليها) قد خرجت للمطالبة بحقّها المعروف في فدك. [ينظر قضيّة فدك في المصادر التالية: كالدر المنثور للسيوطي 5 / 273، وروح المعاني للآلوسي 15 / 62، وكنز العمال 3 / 767، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 3 / 36، والسيرة الحلبية 3 / 36)].

والمطالبة في مثل هذه الحالة من الأمور البدهيّة الواضحة التي كفلتها جميع الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، والتي لا يختلف عليها اثنان من العقلاء، بل إلى يومنا هذا فإنّ صاحب الحقّ له أنْ يطالب به حتّى لا يضيع حقّه، إذْ ما ضاع حقٌّ وراءه مطالب.

والزهراء عليها السلام قد خرجت بصحبة زوجها أمير المؤمنين (ع) وأمّ أيمن والحسنين (عليهما السلام)، فهي - إذنْ - لم تأخذ معها الجيوش والعساكر المدجّجين بالسلاح، تنتقل بهم من منطقة إلى أخرى، ولا قتل عن يمينها ولا شمالها الآلاف من القتلى، ولم يحذّرها النبيّ (ص)، وإنما أعطاها شرعية بقوله: مَن أغضبها أغضبني، ومَن أسخطها أسخطني.

وإنّما الذي حصل منها أنّها - عليها السلام - حاججت أبي بكر ببعض الآيات القرآنيّة الصريحة التي تؤيّد حقها بالمطالبة في فدك.

وهذا الأمر بخلاف عائشة التي خالفت القرآن العظيم حين أمرها بأنْ تبقى في بيتها ولا تخرج، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب : 33].

وخالفت رسول الله (ص) لـمّا حذرها من الخروج، كما في ذلك الحديث الصحيح المشهور المعروف بحديث كلاب الحوأب. وإليك نصّه كما رواه أحمد في مسنده (24654) ، وابن حبان في صحيحه (6732) ، والحاكم في المستدرك (4613) ، وابن أبي شيبة في المصنّف (7/ 536) - واللفظ له - عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: لَمَّا بَلَغَتْ عَائِشَةُ بَعْضَ مِيَاهِ بَنِي عَامِرٍ لَيْلًا نَبَحَتِ الْكِلَابُ عَلَيْهَا ، فَقَالَتْ: أَيُّ مَاءٍ هَذَا؟ قَالُوا: مَاءُ الْحَوْأَبِ ، فَوَقَفَتْ فَقَالَتْ: مَا أَظُنُّنِي إِلَّا رَاجِعَةً، فَقَالَ لَهَا طَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ: مَهْلًا رَحِمَكَ اللَّهُ ، بَلْ تَقْدَمِينَ ، فَيَرَاكَ الْمُسْلِمُونَ ، فَيُصْلِحُ اللَّهُ ذَاتَ بَيْنهِمْ ، قَالَتْ : مَا أَظُنُّنِي إِلَّا رَاجِعَةً ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله قَالَ لَنَا ذَاتَ يَوْمٍ: ( كَيْفَ بِإِحْدَاكُنَّ تَنْبَحُ عَلَيْهَا كِلَابُ الْحَوْأَبِ ).

والحديث : صحّحه ابن كثير في "البداية والنهاية" (6/212) على شرط الشيخين، وكذا صححه محقّقو المسند ، والألباني في "الصحيحة" (474) على شرط الشيخين.

وصحّحه الذهبي في "السير" (3/453) ، والحافظ ابن حجر في "الفتح" (13/55) وقال : وسنده على شرط الصحيح، وقال الهيثمي في "المجمع" (7/ 234): رَوَاهُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو يَعْلَى ، وَالْبَزَّارُ ، وَرِجَالُ أَحْمَدَ رِجَالُ الصَّحِيحِ " .

وهناك طريقٌ آخر لهذه الحادثة رواها الضياء في "المختارة" (179) ، والبزار - كما في "البداية والنهاية" (6/212) عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهو عند أزواجه: ( لَيْتَ شِعْرِي، أَيَّتُكُنَّ صَاحِبَةُ الْجَمَلِ الْأَدْبَبِ، تَخْرُجُ فَيَنْبَحُهَا كِلَابُ حَوْأَبٍ، يُقْتَلُ عَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ يَسَارِهَا قَتْلَى كَثِيرٌ، ثُمَّ تَنْجُو بَعْدَمَا كَادَتْ) .

وقال الحافظ في "الفتح" (13/55) : " رجاله ثقات " ، وكذا قال الهيثمي في "المجمع" (7/234) ، وصححه الألباني في "الصحيحة" (1/853) .

ثُمّ إنّ الزهراء عليها السلام لم تندم على ذلك الخروج والمطالبة بحقّها، بل بقيت صامدة صابرة محتسبة غاضبة على أبي بكر حتّى توفّيت، كما روى ذلك البخاريّ وغيره. [ينظر: صحيح البخاري - المغازي - غزوة خيبر - رقم الحديث: (3913): إذْ جاء في الخبر أنّ ‏ ‏فاطمة ‏(ع) ‏بنت النبيّ (ص) ‏أرسلت إلى‏ ‏أبي بكر‏ ‏تسأله ميراثها من رسول الله ‏(ص) ‏‏مما ‏أفاء ‏ ‏الله عليه ‏بالمدينة ‏‏وفدك ‏وما بقي من خمس ‏ ‏خيبر... فأبى أبو بكر أنْ يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر، فهجرته فلم تكلمه حتّى توفّيت.

وفي لسان العرب 3/446: في مادة (وجد)، قال ابن الأثير: ووجد عليه في الغضب يجد وجداً وجدة وموجدة ووجداناً: غضب].

ومن المعلوم الثابت أنَّ مَن يُغضب فاطمة (ع) إنّما يُغضب رسول الله (ص)، ففي صحيح البخاري 4/ 210، 219 قال رسول الله صلى الله عليه وآله: فاطمة بضعة مني من أغضبها فقد أغضبني.

في حين أنّ العامة رووا من طرقهم أنّ عائشة ندمت على هذا الخروج. إذْ قال الذهبي: روى إِسْمَاعِيْلُ بنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ وَكَانَتْ تُحَدِّثُ نَفْسَهَا أَنْ تُدْفَنَ فِي بَيْتِهَا ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَحْدَثْتُ بَعْدَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله حَدَثاً، ادْفِنُوْنِي مَعَ أَزْوَاجِهِ فَدُفِنَتْ بِالبَقِيْعِ.[ينظر: سير أعلام النبلاء" (3/ 462)].

ومـمّا تقدّم، فهل ترى أخي القارئ في خروج سيدة نساء العالمين (ع) كخروج عائشة ولو بنسبةٍ ضئيلة؟!!

وإلّا فإنّ هذا الوهابيّ الذي يطرح مثل هذا السؤال على ذلك الشيعيّ قد كشف عن جهله المطبق في هذه المسألة، وأبَانَ عن نُصْبهِ لأهل البيت (ع)، لـمّا حاول عبثاً أنْ يجد لعائشة مسوّغاً في خروجها الجائر المخالف للقرآن العظيم والسنّة الشريفة، فأوهم الشيعيّ بأنّ خروج عائشة المترتّب عليه مفاسد عظيمة وآلام كبيرة من حيث القتل والدمار عاشها المسلمون منذ ذلك اليوم وإلى يومنا هذا هو كخروج الزهراء (ع) للمطالبة بحقّها في فدك.

مع أنّه شتّان ما بين الخروجين لو كان له عقل يعي به.

فإلى الله تعالى المشتكى من قومٍ لا يتدبّرون وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ودمتم سالمين.