إعرف الحق تعرف أهله.. ما هي خطوات معرفة الحق؟

الجوابُ:

في الخبرِ إنَّ الحارثَ بنَ حَوط أتى عليّاً عليهِ السلام، فقالَ لَهُ: أتراني أظنُّ أنَّ أصحابَ الجملِ كانوا على ضلالة؟

فقالَ عليهِ السلام: يَا حَارِثُ، إِنَّكَ نَظَرتَ تَحتَكَ، وَلَم تَنظُر فَوقَكَ فَحِرتَ! إِنَّكَ لَم تَعرِفِ الحَقَّ فَتَعرِفَ أهلَهُ، وَلَم تَعَرِفِ البَاطِلَ فَتَعرِفَ مَن أَتَاهُ.

فقالَ الحارث: فإنّي أعتزلُ معَ سعدِ بنِ مالك وعبدِ اللّهِ بنِ عُمر.

فقالَ عليهِ السلام: إِنَّ سَعداً وَعَبدَ اللّهِ بنَ عُمَرَ لَم يَنصُرَا الحَقَّ، وَلَم يَخذُلاَ البَاطِل. 

وفي أماليّ المُفيد: فقالَ له الحارث: لو كشفتَ - فداكَ أبي وأمّي - الرّينَ عَن قلوبِنا وجعَلتنا في ذلكَ على بصيرةٍ مِن أمرِنا، فقالَ (عليهِ السلام): فَإِنَّكَ امرُؤٌ مُلبوسٌ عَلَيكَ. إنَّ دينَ اللّهِ لا يُعرَفُ بِالرِّجالِ، بَل بِآيَةِ الحَقِّ؛ فَاعرِفِ الحَقَّ تَعرِف أهلَهُ.

تبتني كلماتُ أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) على وضوحِ الحقِّ وظهورِه، فليسَ هناكَ شيءٌ أكثرُ ظهوراَ ووضوحاً منَ الحقِّ إذا خلصَ مِن مزاجِ الباطل، فالحقُّ دالٌّ على نفسِه كما أنَّ النورَ دالٌّ على ذاتِه، يقولُ رسولُ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله): (إنَّ على كلِّ حقٍّ حقيقةً، وعلى كلِّ صوابٍ نوراً)، وعليهِ فإنَّ المشكلةَ ليسَت في ظهرِ الحقِّ ووضوحِه، وإنّما المُشكلةُ في الإنسانِ الذي لا يحبُّ رؤيةَ الحقِّ الذي فيهِ مُخالفةٌ لهواه، ففي أغلبِ الأحيانِ لا يحبُّ الإنسانُ أن يرى الحقائقَ كما هيَ وإنّما يحبُّ أن يراها كما يحبُّ هوَ أن يراها، ولذا يعملُ على تلوينِها وتعديلِها حتّى تنسجمَ وتتناسبَ معَ مصلحتِه وهواه، فالحقُّ بطبيعتِه مُناقِضٌ للباطلِ ولا يجتمعانِ إلّا داخلَ النفسِ التي تُقدّمُ الباطلَ في صورةِ الحق، فمثلاً السرقةُ وأخذُ أموالِ الآخرينَ باطلٌ لا لبسَ فيه إلّا أنَّ النفسَ تُصوّرَ ذلكَ بوصفِه حقّاً يجبُ أخذُه، والنفسُ لها فنونٌ وحِيَلٌ كثيرةٌ ولها قُدرَةٌ فائقةٌ على صنعِ الأعذارِ التي ينقلبُ معَها الحقُّ باطلاً والباطلُ حقّاً، وعليهِ فإنَّ ضبابيّةَ الرؤيةِ في عدمِ التمييزِ بينَ الحقِّ والباطل هوَ بسببِ ما تصنعُه النفسُ مِن تشويهٍ للحقائق، ولا علاقةَ لذلكَ بطبيعةِ الحقِّ والباطل لأنَّ بينَهما تبايناً واضحاً، يقولُ أميرُ المؤمنين (عليهِ السلام) في ذلك: (فلو أنَّ الباطلَ خَلُصَ مِن مزاجِ الحقِّ لم يخفَ على المُرتادين، ولو أنَّ الحقَّ خَلُصَ مِن لَبسِ الباطلِ، انقطعَت عنهُ ألسُنُ المُعاندين ولكِن يؤخذُ مِن هذا ضغثٌ، ومِن هذا ضغثٌ، فيمزجانِ فهنالكَ يستولي الشيطانُ على أوليائِه، وينجو الذينَ سبقَت لهُم منَ اللهِ الحُسنى)، فرفضُ الحقِّ والالتفافُ عليه لا يعودُ إلى غموضٍ في الحقِّ وإنّما يعودُ إلى أنّه لم يكُن مُناسباً لهوى الإنسان، وعليهِ ليسَ هناكَ خطواتٌ كثيرةٌ للتمييزِ بينَ الحقِّ والباطل وإنّما هيَ خطوةٌ واحدةٌ فقط وهيَ مُخالفةُ الهوى، وهذا ما أكّدَته الآياتُ القرآنيّةُ وأحاديثُ المعصومين، ومِن هُنا جازَ لنا أن نقولَ إنَّ إشكاليّةَ المعرفةِ في منظورِ القرآنِ نفسيّةٌ وليسَت عقليّةً؛ لأنَّ النفسَ إذا استأثرَت بإرادةِ الإنسانِ عملَت على توجيههِ نحوَ الأهواءِ والشهوات، وعندَها تتعطّلُ قُدرةُ الإنسانِ على التفكيرِ ولا تُغنيهِ حينَها قواعدُ التفكيرِ المنطقي. 

 ومنَ الواضحِ أنَّ الشهواتِ تُمثّلُ عاملَ ضغطٍ قويّ على الإنسان، ويزدادُ ذلكَ التأثيرُ كلّما كانَت الشهوةُ أكثرَ إلحاحاً، ويبدو أنَّ الجذرَ المُحرّكَ لكلِّ الشهواتِ هوَ حبُّ الإنسانِ لذاتِه، فمثلاً الطعامُ شهوةٌ إلّا أنّه يصبحُ أكثرَ إلحاحاً إذا شارفَت النفسُ على الهلاك، فالإنسانُ بغريزتهِ يجلبُ لنفسِه المصلحةَ ويدفعُ عَنها المخاطر، ومِن هُنا تُبنى مواقفُ الإنسانِ وسلوكيّاتُه بحسبِ مصلحةِ الذاتِ أو مفسدتِها، قالَ تعالى: ﴿وَمِنهُم مَّن يَلمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِن أُعطُوا مِنهَا رَضُوا وَإِن لَّم يُعطَوا مِنهَا إِذَا هُم يَسخَطُونَ﴾؛ فمواقفُ الإنسانِ قائمةٌ على الخوفِ والرّجاء، ممّا يعني أنَّ حُبَّ الإنسانِ لذاتِه يُشكّلُ أساساً لكلِّ رغباتِه وشهواتِه، قالَ تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنعَامِ وَالحَرثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسنُ المَآبِ﴾. فحبُّ الذاتِ هوَ الذي يُزيّنُ للإنسانِ متاعَ الحياةِ الدنيا، وقد اصطلحَ القرآنُ على هذا الحبِّ بهوى النفس.

وعليهِ فإنَّ فكرةَ الإسلامِ الأساسيّةَ في مُعالجةِ الأخطاءِ تتلخّصُ في أنَّ الهوى (الشهوات) وما يتبعُها مِن مشاكلَ نفسيّةٍ هيَ التي تمنعُ الإنسانَ مِنَ الوصولِ إلى الحقائق، وفي مُقابلِ ذلكَ تُصبِحُ مُخالفةُ الهوى ضمانَ الوصولِ إلى الحقائقِ ورؤيتِها بشكلٍ شفّاف.

وهكذا رسمَ الإسلامُ مُعادلةً شديدةَ الوضوح، تقومُ تلكَ المعادلةُ على ركيزةٍ واحدةٍ وهيَ تركُ الهوى، قالَ تعالى: ﴿وَأَمَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفسَ عَنِ الهَوَىٰ * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوَىٰ﴾، وللاستدلالِ على صحّةِ هذهِ المُعادلةِ يكفي استعراضُ بعضِ النصوصِ الواضحةِ التي تُحمّلُ الهوى مسؤوليّةَ كلِّ ضلالٍ وباطل.

قالَ تعالى: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُم رَسُولٌ بِمَا لَا تَهوَىٰ أَنفُسُكُمُ استَكبَرتُم فَفَرِيقًا كَذَّبتُم وَفَرِيقًا تَقتُلُونَ﴾.

حيثُ تؤكّدُ الآيةُ على أنَّ الهوى هوَ المسؤولُ عَن عدمِ قبولِهم الحقَّ الذي جاءَ بهِ الأنبياء. وقالَ تعالى: ﴿إن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهوَى الأَنفُسُ وَلَقَد جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَىٰ﴾، وهُنا جعلَت الآيةُ هوى النفسِ سبباً في تركِ الهُدى. وقالَ تعالى: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الهَوَىٰ أَن تَعدِلُوا وَإِن تَلوُوا أَو تُعرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعمَلُونَ خَبِيرًا﴾، والعدلُ كما الحقُّ لا يمكنُ تطبيقُه إلّا بمُخالفةِ الهوى.

وحينَ بعثَ اللهُ نبيّهُ داودَ وجعلَهُ خليفةً على الناس، أمرَهُ بمُخالفةِ الهوى لأنّها طريقُ العملِ بالحق، قالَ تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرضِ فَاحكُم بَينَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُم عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَومَ الحِسَابِ﴾

كما أنَّ اللهَ نهى عن طاعةِ مَن يتّبعُ الهوى، قالَ تعالى: ﴿وَلَا تُطِع مَن أَغفَلنَا قَلبَهُ عَن ذِكرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمرُهُ فُرُطًا﴾ بل حكمَ القرآنُ بشكلٍ مُطلقٍ بأنَّ أهواءَ الناسِ ضلالاتٌ يجبُ مُجانبتُها قالَ تعالى: ﴿قُل لَّا أَتَّبِعُ أَهوَاءَكُم قَد ضَلَلتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ المُهتَدِينَ﴾.

 وفي المُحصّلةِ هناكَ تضادٌّ كاملٌ بينَ الهوى والعِلم، قالَ تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعتَ أَهوَاءَهُم بَعدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾، وقالَ: ﴿وَلَا تَتَّبِع أَهوَاءَهُم عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ﴾، وكثيرةٌ هيَ الآياتُ التي تُحمّلُ الهوى مسؤوليّةَ الانحرافاتِ الفكريّةِ والسلوكيّة.

نسألُ اللهَ أن يُعينَنا على أنفسِنا، ففي دعاءِ أبي حمزةَ الثمالي: (وأعِنّي عَلى نَفسي بِما تُعينُ بِهِ الصّالِحينَ عَلى أنفُسِهِم).