من الأقدر على ضبط القوة العسكرية والتكنولوجية في العالم.. الدين أم العلم؟

الجوابُ:

منَ الواضحِ أنَّ مُشكلةَ العالمِ تكمنُ في صراعِه الوحشيّ حولَ المادّة، وقد ساهمَ التطوّرُ العِلميّ والتقدّمُ التكنلوجيّ على تأجيجِ هذا الصّراعِ وجعلِه أكثرَ وحشيّةً ودماراً، فالمؤكّدُ أنَّ الحضارةَ المُعاصرةَ لا تُعاني مِن نقصٍ في التقدّمِ العِلميّ والتكنلوجيّ ولكنّها تُعاني مِن نقصٍ حادٍّ في الأخلاق، الأمرُ الذي يجبُ أن يقودَ العُقلاءَ إلى ضرورةِ إيجادِ علاقةٍ تكامليّةٍ بينَ الدينِ والعِلم، ويبدو أنَّ العلاقةَ المتوتّرةَ بينَ أنصارِ العلمِ وأنصارِ الدين هيَ التي خلقَت رؤيةً ضبابيّةً حولَ طبيعةِ العلاقةِ بينَهما، فلا التطرّفُ العِلمانيُّ الذي يسعى لاستبعادِ الدين، ولا التطرّفُ الدينيُّ الذي يعزلُ الدينَ عن العلم، يُقدّمانِ تصوّراً موضوعيّاً حولَ علاقةِ الدينِ بالعِلم.

وعليهِ فإنَّ الإجابةَ على سؤالِ السائل: (مَن الأقدرُ على ضبطِ القوّةِ العسكريّةِ والتكنولوجيّةِ في العالم.. الدينُ أم العلم؟) تتوقّفُ على إيجادِ مُقاربةٍ تجمعُ بينَ الدينِ والعلمِ في رؤيةٍ تكامليّةٍ واحدة، ويبدو أنَّ الظروفَ الآنَ باتَت مُناسبةً لإقناعِ العالمِ بضرورةِ الدينِ وإقناعِ المُتديّنينَ بضرورةِ العلم، ففي بدايةِ تشكّلِ الحضارةِ الحديثةِ وفي عصرِ النهضةِ بالتحديد شهدَت أوروبا موجةً عارمةً منَ الإلحادِ باسمِ العلم، ففي كتابِ (العلم والدين في الفلسفةِ المُعاصرة) يقولُ إميل بوترو: "وذلكَ أنَّ العلمَ كانَ يُنادي بالحتميّةِ التي تعني أنّهُ إذا توافرَت الشروطُ والأسبابُ تُحتّمُ وقوعَ النتائج. وبناءً على ذلكَ يكتفي العالمُ بنفسِه، ولا حاجةَ به إلى علّةٍ أخرى خلافَ وجودِ المادّةِ وحركتِها وتطوّرِها وسيرِها في طريقِها المَحتوم" 

وبالمِقدارِ الذي كانَ رجالُ الدينِ مُسيطرينَ على أوروبا ويقيمونَ محاكمَ التفتيشِ التي تلاحقُ العُلماء، بنفسِ هذهِ السّطوةِ أصبحَ رجالُ العلمِ يُحاصرونَ رجالَ الدين بعدَ عصرِ النهضة، فشنّوا حربَهم على الدينِ تسخيفاً وتجهيلاً بهِ إلى أن تمَّ عزلهُ عن الحياة.

ومعَ تسليمِنا بالمُساهماتِ الكُبرى لرجالِ العلمِ في تحقيقِ نهضةٍ علميّةٍ واسعة، إلّا أنّه يبدو أنَّ تفسيرَ الكونِ والإنسان برؤيةٍ تجريبيّةٍ أحاديّةٍ نوعٌ منَ الإفراط، يؤدّي إلى تفريطٍ في جانبٍ آخرَ تضيعُ معهُ الكثيرُ منَ الحقائق. 

فهل كلُّ الظواهرِ وبخاصّةٍ الإنسانيّةِ مِنها خاضعةٌ للتجربة؟

 ألم يعجَز العلمُ بالفعل أمامَ كثيرٍ منَ الظواهرِ الإنسانيّة؟

 فمنَ الضروريّ فتحُ مسارِ العلمِ أمامَ العقلِ التحليليّ والتأمّلي، فمظاهرُ الحياةِ والوجودِ أوسعُ مِن أن تحيطَ بها مُختبراتُ التجربة، والأديانُ وإن كانَت تنتمي للمُطلَقِ والمُقدّسِ إلّا أنّها تُمثّلُ حاجةً أصيلةً للإنسان لا يصحُّ إهمالُها بالمرّة، والقوانينُ الحتميّةُ التي أعتمدَها رجالُ العلمِ تُغطّي بعضَ الجوانب، وتبقى كثيرٌ منَ الجوانبِ تتحكّمُ فيها الاحتماليّة، الأمرُ الذي يمكنُ فهمُه في إطارِ وجودِ قوّةٍ خارجَ الطبيعةِ لها إرادةٌ وتدخّلٌ، ولذلكَ في بدايةِ القرنِ العشرين بدأ العلمُ يتواضعُ ويعترفُ بعدمِ قُدرتِه على تفسيرِ كلِّ شيء، يقولُ إميل بورت في نفسِ الكتاب: "منذُ صدرِ القرنِ العشرين بدأ يُرى أنَّ الحتميّةَ غيرُ ضروريّةٍ، وأنَّ القانونَ الذي يحكمُ العالمَ هوَ قانونُ الاحتمالات، وبذلكَ انفسحَ المجالُ للقولِ بقوّةٍ عُليا تُسيّرُ العالمَ خارجَ نفسِه".

والقولُ بوجودِ هذه المساحةِ لا يعني رجوعَ الدينِ بمقولاتِه الكنسيّة، فقد أصبحَ العقلُ الإنسانيّ أكثرَ صرامةً بعدَ عصرِ العِلم، فما كانَ يُمثّلُ يقينيّاتٍ دينيّةً تعارفَ وتعاهدَ عليها البشرُ لم تعُد تُقنِعُ أحداً، ومِن هُنا يتعاظمُ التحدّي أمامَ الأديانِ لتقديمِ مُقارباتٍ تتكاملُ بالعلمِ والعقلِ معاً، فعجزُ العلمُ أمامَ كثيرٍ منَ الأسئلةِ لا يعني قبولهُ يقينيّاتِ الأديانِ مِن دونِ سؤالٍ وحوار.

ويبدو أنَّ الوصفَ السلبيَّ للأديانِ الذي بدأ في عصرِ النهضةِ كانَ مُتأثّراً بالجوّ الثقافيّ الذي كانَ سائداً، فافتتانُ الإنسانِ في عصرِ النهضةِ بالعِلم، وما توصّلَ إليهِ مِن حقائق، وما أبدعَه مِن مناهجَ في المعرفةِ، واصطدامُ كلِّ ذلكَ بالكنيسةِ التي وقفَت وبكلِّ قوّةٍ أمامَ عجلةِ التقدّمِ والتطوّرِ العِلمي، كانَ سبباً كافياً لوصفِ الدينِ بتلكَ الأوصاف. وفي المُقابلِ فإنَّ الهيمنةَ التاريخيّةَ للكنيسةِ وتحكّمَها في المُجتمعِ جعلَ منَ الطبيعيّ أن تتّخذَ موقفاً سلبيّاً منَ الحركةِ العلميّةِ خوفاً على موقعِها، وذلكَ أصبحَ عصرُ النهضةِ بدايةً لمرحلةٍ جديدةٍ تأزّمَت فيها العلاقةُ بينَ الدينِ والعِلم، وبدأ عصرُ العولمةِ كخيارٍ ثقافيٍّ وسياسيٍّ واقتصاديّ وما زالَ يهيمنُ على المشهدِ الإنسانيّ.

وقد تسرّبَ هذا النقاشُ إلى الساحةِ الإسلاميّة، وزادَ مِن حالةِ الاصطفافِ بينَ التيّاراتِ العلمانيّةِ والدينيّة، وما يُؤسَفُ له أنَّ التيّاراتِ العِلمانيّةَ عملَت على مُحاكمةِ الإسلامِ بنفسِ عقليّةِ عصرِ النهضةِ في أزمتِها معَ الكنيسةِ، في حينِ أنَّ التأكيدَ على أهميّةِ العلمِ لا يعني أبداً عدمَ أهميّةِ الدّين، والعكسُ صحيحٌ أيضاً، ومعَ ذلكَ لا يمكنُ أن تستقيمَ هذهِ المعادلةُ إلّا إذا كانَ الدينُ والعلمُ كلاهُما يُحقّقانِ تكامُلاً لا يستغني عنهُ الإنسان، ويبدو أنَّ المُقاربةَ المُتفهِّمةَ للعلاقةِ الجدليّةِ بينَ الرّوحِ والبدنِ في الإنسان، هيَ ذاتُها المقاربةُ التي تتفهّمُ جدليّةَ العلاقةِ بينَ الدينِ والعِلم، فما يُحقّقُه العلمُ للإنسانِ لا يمكنُ أن تُحقّقَهُ الأديان، والعكسُ صحيحٌ، فكلاهُما يخدمانِ شيئاً واحداً وهوَ الإنسانُ المُركّبُ مِن روحٍ ومادّة.

ومِن هُنا كانَت المُقاربةُ المطلوبةُ هيَ التي ترسِمُ نقاطَ الالتقاءِ بينَ الدينِ والعلم، ولا يتمُّ ذلكَ بمُجرّدِ جعلِ مقولاتِ الدينِ مقولاتٍ معرفيّةً عقليّة، وإنّما بجعلِ غاياتِ العلمِ أيضاً غاياتٍ دينيّة، والذي يُميّزُ الدينيَّ عن اللاديني ليسَ مُجرّدَ نسبتِه إلى المُقدّسِ، وإنّما الذي يُميّزُه كونُه قيمةً أو ليسَ بقيمة، والمُقدّسُ نفسهُ لا يكونُ مُقدّساً إلّا بمقدارِ ما يحمِلهُ مِن قيم، والإنسانُ لم يتطلّع إلى الغيبِ إلّا لكونِه مصدراً يستلهمُ منهُ قيمَ الحقِّ والجمال، فقيمةُ العلومِ بما تحملهُ مِن قيمٍ ومكاسبَ حياتيّةٍ للإنسان، وقيمةُ الدينِ في دعوتِه لتلكِ القيم.

والذي يحكمُ كلَّ هذهِ المُعادلة هوَ الإنسانُ بوصفِه مِحوراً للدينِ ومِحوراً للعلومِ أيضاً، وأهمّيّةُ الدينِ تعودُ إلى تذكيرِ الإنسانِ بالقيمِ التي تجعلُ مِنه كائناً لهُ قيمةٌ، ومِن نفسِ هذه الزاويةِ يكونُ الدينُ مُهمّاً في مجالِ تطوّرِ العلومِ لأنّهُ يُشكّلُ الضمانةَ الأخلاقيّةَ لذلكَ التطوّرِ، وهكذا تكونُ اللحظةُ التي نتساءلُ فيها عَن أهدافِ العلومِ وغاياتِها هيَ اللحظةُ التي تُقرّبُنا منَ الدين، واللحظةُ التي يكونُ فيها الإنسانُ مُتديّناً يكونُ فيها قريباً منَ الحياة؛ لأنَّ القيمَ لا يكونُ لها معنىً إلّا مِن خلالِ تفاعلِها معَ الواقعِ الحياتيّ للإنسان.

 فالنظرُّ الى الدينِ بوصفِه قيمةً تنتهي إلى العلم؛ لأنَّ القيمَ لا يمكنُ أن ترتبطَ بالواقع إلّا إذا استعانَت بالعلوم، والنظرُ إلى العلومِ بوصفِها قيماً يقرّبُها منَ الدين، وكلُّ ذلكَ يكونُ مفهوماً إذا كانَ هدفُ الأديانِ هوَ إعمارُ الحياةِ وتطويرُ الإنسانِ في إطارِ القيم، وهوَ الأمرُ الذي يحتاجُ إلى تأصيلٍ في قبالِ الرؤيةِ التي تصوّرُ الأديانَ وكأنّها وُجِدَت مِن أجلِ عالمٍ آخر غيرِ عالمِ الدّنيا.

 وفي الإسلامِ قد نجدُ ما يعينُ على تلكَ النظرة، حينَما يدعو القرآنُ إلى الحياةِ وإلى العلمِ وإلى التعقّلِ، قالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحيِيكُم﴾، وقالَ تعالى: ﴿قُل مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزقِ قُل هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا خَالِصَةً﴾. وقالَ: ﴿يَرفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنكُم وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ دَرَجَاتٍ﴾. وقالَ: ﴿نَرفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوقَ كُلِّ ذِي عِلمٍ عَلِيمٌ﴾. وهيَ دعوةٌ تجعلُ العلمَ بلا سقفٍ يقفُ عندَه.

 فالدينُ هوَ الذي يُعزّزُ مسيرةَ العلم، والعلمُ هوَ الذي يُعزّزُ مسيرةَ الإنسان، ومِن هُنا فإنَّ الدينَ الذي يجبُ أن نفهمَه لابدَّ أن يكونَ إطاراً تنتظمُ فيهِ كلُّ قيمِ الكمالِ والجمال، كما أنَّ العلومَ التي يجبُ أن تسودَ هيَ العلومُ التي تُراعي تلكَ القيم، وإلّا أصبحَ ضررُه أكثرَ مِن نفعِه كما هوَ واقعُ الحالِ اليوم.

يقولُ أينشتين: "لا أتصوّرُ العلمَ دونَ إيمانٍ عميق. ويمكنُ تشبيهُ الموقفِ بصورةٍ مُجسّدة: العلمُ دونَ الدينِ أعرج، والدينُ دونَ العلمِ أعمى"

ويقولُ البروفيسور هوستن سميث أستاذُ الفلسفةِ وعلومِ الأديان في العديدِ منَ الجامعاتِ الأمريكيّة: "تعودُ أسبابُ الأزمةِ التي يمرُّ بها العالمُ وهوَ يدخلُ الألفيّةَ الجديدةَ إلى أمورٍ أعمقَ مِن طُرقِ تنظيمِ الحياةِ السياسيّةِ والاقتصاديّة. إنَّ الشرقَ والغربَ يُعانيان – كلٌّ بطريقتِه – مِن أزمةٍ واحدةٍ مُشتركةٍ سببُها الحالةُ الروحيّةُ للعالمِ الحديث، فقد اتّسمَت هذهِ الحالةُ الروحيّةُ بفقدانِ اليقينِ الديني وفقدانِ الإيمانِ بالسموّ والتعالي على الوجودِ المادّيّ بآفاقِه الرّحبةِ الواسعة. وطبيعةُ هذا الفقدانِ غريبةٌ، لكنّها – في النهاية – منطقيّةٌ ومتوقّعة. معَ تدشينِ عصرِ النظرةِ العلميّةِ البحتة، وبدأ إحساسُ البشرِ بأنّهم أصبحوا يمتلكونَ أسمى المعاني في العالمِ ويعرفونَ مقاييسَ ومقاديرَ كلِّ شيء، بدأت المعاني في الانحسار، وأخذَت مكانةُ الإنسانيّةِ تتضاءل. لقد فقدَ العالمُ بُعدَهُ الإنسانيَّ وبدأنا نفقدُ السيطرةَ عليه"

ويتّضحُ مِن كلِّ ذلكَ أنَّ الحياةَ لا يمكنُ أن تستقيمَ ويستقرَّ أمرُها ما لَم تتكامَل العلاقةُ بينَ العلمِ والدين، فالآلةُ العسكريّةُ المُتعاظمةُ أصبحَت تُشكّلُ خطراً حقيقيّاً يُهدّدُ الحياةَ الإنسانيّة، والسّببُ في ذلكَ يعودُ إلى أنّها قوّةٌ غيرُ أخلاقيّةٍ ولا تحكمُها القيم، ومِن هُنا لابدَّ أن يتدخّلَ الدينُ لضبطِ جموحِ هذهِ القوّةِ المُتهوّرة.