هل يعتمد الدين الاسلامي على موروث مسيحي ويهودي؟

" هل اعتماد الدين الإسلامي على أسس مسيحية ويهودية يجعله أقل مصداقية عندما لا يمكن إثبات تلك الأديان بل يحيط بها العديد من الشبهات أيضاً؟ حيث إنّ الدين الاسلامي يعتمد على موروث مسيحي ويهودي او هناك تشارك في القصص وبعض الحرام والحلال في المعاملات والعبادات.. اذا كان هناك صعوبة في اثبات صحة القصص المنسوبة للانبياء في المسيحية واليهودية وماجاؤوا به من تشريعات فكيف نصدقها من الاسلام!"

الجوابُ:

يبتني السّؤالُ على افتراضاتٍ خاطئةٍ لا يمكنُ التسليمُ بها، فليسَ للإسلامِ علاقةٌ بما هوَ مُتعارَفٌ اليومَ مِن دياناتٍ يهوديّةٍ ومسيحيّة، بل صرّحَ الإسلامُ ببُطلانِها ووقوعِ التحريفِ فيها، فكيفَ بعدَ ذلكَ يصحُّ القولُ أنَّ الإسلامَ اعتمدَ على أُسسٍ مسيحيّةٍ ويهوديّة؟ 

أمّا إذا كانَ يقصدُ أنَّ كلَّ الدياناتِ السماويّةِ تعودُ إلى مصدرٍ واحدٍ وهوَ اللهُ تعالى، فإنَّ ذلكَ صحيحٌ ولكنّهُ لا يعني صحّةَ الموروثِ اليهوديّ والمسيحيّ، فاعترافُ الإسلامِ بكُتبِ الأنبياءِ السّابقين لا يعني اعترافَهُ بما في أيدي اليهودِ والنّصارى، وقد أكَّدنا في إجابةٍ سابقة بأنَّ الأديانَ السماويّةَ مِن حيثُ المبدأ هيَ رسالةُ اللهِ سُبحانَه للعِباد، وتدعو جميعُها لحقيقةٍ واحدة وهيَ الإيمانُ بالله وصرفُ العبادةِ لهُ وحدَه، قالَ تعالى: (وَلَقَد بَعَثنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعبُدُوا اللَّهَ وَاجتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) ولا يمنَعُ ذلكَ مِن وجودِ تشريعاتٍ خاصّةٍ تتناسبُ معَ كُلِّ أمّةٍ بحسبِ ظرفِها الزّماني، قالَ تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلنَا مِنكُم شِرعَةً وَمِنهَاجًا) وعليهِ لا وجودَ لاختلافٍ بينَ الأديانِ السماويّةِ لا مِن حيثُ العقائد ولا مِن حيثُ القيم الكُبرى التي سعَت التشريعاتُ لتحقيقِها، ومِن هُنا كانَ الإيمانُ بالأنبياءِ والتصديقُ برسالاتِهم واجباً على جميعِ المُسلمين، ولا يعني ذلكَ أنَّ ما عليهِ اليهودُ والنّصارى اليومَ هوَ تمامُ ما جاءَ بهِ موسى وعيسى (عليهم السلام) فقد انحرفَت تلكَ الدياناتُ ووقعَ فيها التحريفُ والتبديل، قالَ تعالى: (أَفَتَطمَعُونَ أَن يُؤمِنُوا لَكُم وَقَد كَانَ فَرِيقٌ مِّنهُم يَسمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُم يَعلَمُونَ)، وقالَ تعالى: (فَوَيلٌ لِّلَّذِينَ يَكتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيدِيهِم ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِن عِندِ اللَّهِ لِيَشتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَت أَيدِيهِم وَوَيلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكسِبُونَ)، وقالَ تعالى: (مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعنَا وَعَصَينَا وَاسمَع غَيرَ مُسمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلسِنَتِهِم وَطَعنًا فِي الدِّينِ) ولم يقِف التحريفُ عندَ حدودِ بعضِ التشريعاتِ وإنّما تعدّاها ليشملَ التحريفَ في عقيدةِ التوحيد، قالَ تعالى: (وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيرٌ ابنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَولُهُم بِأَفوَاهِهِم ۖ يُضَاهِئُونَ قَولَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤفَكُونَ)، وقالَ تعالى: (لَّقَد كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ۘ وَمَا مِن إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۚ وَإِن لَّم يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ)، وقالَ تعالى: (إِذ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابنَ مَريَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَينِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَن أَقُولَ مَا لَيسَ لِي بِحَقٍّ).

وقد أكّدَ كثيرٌ منَ الباحثينَ بأنَّ التوراةَ بوضعِه الحالي لم يُكتَب كُلُّه مرّةً واحدةً أو في عصرٍ واحد، وإنّما تمَّت كتابتُه على فترةٍ تزيدُ على تسعمائةِ سنةٍ، وقد تمَّ ذلكَ بالاعتمادِ على تراثٍ شعبيٍّ شفويّ، ولِذا تداخلَت ثقافاتٌ مُتعدّدةٌ ولغاتٌ مُختلِفةٌ وصياغاتٌ مُتباينَةٌ في كتابةِ التّوراة، كما لم تكُن أهدافُ كُلّ مِن كتبَ التوراةَ أهدافاً عباديّةً أو دينيّةً وإنّما كانَ بعضُها مُجرّدَ تواريخَ للأحداثِ التي وقعَت في الماضي، ولِذا كانَ منَ الطبيعيّ أن يتعرّضَ للتعديلِ والإضافةِ والحذفِ وإعادةِ الصّياغةِ مِن دونِ أيّ قيودٍ سِوى هوى الكاتبِ نفسِه. وقد قالَ اللهُ في حقّهم: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ). أمّا إنجيلُ عيسى (عليهِ السلام) لم يبقَ إنجيلاً واحِداً وإنّما أصبحَ أناجيلَ كثيرةً، لم تعترِف الكنيسةُ إلّا بأربعةٍ مِنها فقَط وهيَ (متّى ولوقا ويوحنّا ومُرقس) وهيَ كتبٌ تُنسَبُ لمَن كتبَها ولا علاقةَ للنبيّ عيسى (عليهِ السلام) بها، ولِذا لَم يأتِ ذِكرٌ لهذهِ الأناجيلِ في النّصوصِ التي تتحدّثُ عَن المراحلِ الأولى للمسيحيّة، وقد بدأ الكلامُ عن النّصوصِ المسيحيّةِ بعدَ مرورِ 140 عام مِن ميلادِ المسيحِ فيمَا كتبَهُ بولس، يقولُ أ. كولمان في كتابِه العهد الجديد الصادر في باريس 1967: (إنَّ المُبشّرينَ أصحابُ الأناجيلِ لم يكونوا إلّا مُتحدّثينَ باسمِ الجماعاتِ المسيحيّةِ الأولى، وصلَت إلينا أقوالُهم مِن خلالِ التراثِ الشّفهيّ. ولقَد ظلَّ الإنجيلُ طيلةَ ثلاثٍ وأربعينَ سنةً في صورتِه الشفهيّةِ فقط على وجهِ التقريب. ولكنَّ هذا التراثَ الشفهيَّ قد تضمّنَ أيضاً أقوالاً مُختلفة، ورواياتٍ مُتعارضةً مُنعزلة. ولقد نسجَ المُبشّرونَ أصحابُ الأناجيل -كلٌّ على طريقتِه وبحسبِ شخصيّتِه الخاصّةِ واهتماماتِه اللاهوتيّةِ الخاصّة - الرّوابطَ بينَ هذهِ الرواياتِ والأقوالِ التي تلقّوها منَ التراثِ السّائد. إنَّ تجميعَ أقوالِ المَسيحِ وربطَ الرّواياتِ في صياغاتٍ غامضةٍ تستخدِمُ عباراتٍ مثلَ: "وبعدَ هذا.." "ويظنُّ.." و"بالاختصار..

" ووُضعَت هذهِ الرّواياتُ في إطارٍ أطلقوا عليهِ الأناجيلَ المُتوافقةَ ويدلُّ كلُّ شيءٍ في هذهِ الطريقةِ على أنّها أدبيّةُ الطابعِ وليسَت تاريخيّةَ الطابع" 

وأكثرُ ما يمكنُ قولهُ في هذهِ الكتبِ بأنّها كتاباتٌ قديمةٌ تعكسُ التاريخَ المَسيحيَّ واليهوديّ والثقافةَ القديمةَ التي كانَت سائدةً في أوساطِهم، ولا يمكنُ اعتبارُها كُتباً مُقدّسةً تتضمّنُ ما جاءَ بهِ الأنبياء، قالَ تعالى: (وَيَقُولُونَ هُوَ مِن عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِن عِندِ اللَّهِ).

وقد أكَّدنا في إجابةٍ سابقةٍ بأنَّ ما جاءَ في القرآنِ مِن قصصِ الأممِ السّابقةِ وما وقعَ فيها مِن أحداثٍ إنّما يدلُّ على اتّصالِ الرّسولِ بالغَيب؛ وذلكَ لكونِ تلكَ الأممِ لم يكُن لها اتّصالٌ مُباشرٌ بأهلِ الجزيرةِ العربيّة، ولم تكُن تلكَ الحقائقُ معلومةً لديها أو متداولةً ضمنَ الثقافةِ المَحليّة، وقد أثبتَ التاريخُ أنَّ أشعارَ العربِ وأمثالَهم والقصصَ المُتداولةَ بينَهم خاليةٌ مِن ذكرِ تلكَ الوقائع، ومِن هُنا تُعدُّ القصصُ القرآنيّةُ واحدةً منَ الإعجازاتِ الدالّةِ على كونِ القرآنِ وحياً منَ اللهِ تعالى، قالَ تعالى: (ذلكَ مِن أنباءِ الغيبِ نُوحيهِ إليكَ وما كُنتَ لديهم إذ يُلقونَ أقلامَهم أيُّهم يكفلُ مَريم وما كنتَ لديهم إذ يَختصِمون)، وقوله سُبحانَه: (ذلكَ مِن أنباءِ الغيبِ نُوحيهِ إليك وما كُنتَ لديهم إذ أجمعوا أمرَهم وهُم يمكرون). وعليهِ إنَّ مصدرَ كلِّ تلكَ القصصِ وما فيها مِن تفاصيلَ دقيقةٍ هوَ الوحيُ الإلهيّ وهذا ما يؤكّدُه قولهُ تعالى: (تلكَ مِن أنباءِ الغيبِ نُوحيها إليكَ ما كُنتَ تعلمُها أنتَ ولا قومُك مِن قبلِ هذا)

أمّا شُبهةُ أنَّ الرّسولَ قد تعلّمَ ذلكَ مِن أهلِ الكتاب، لا يمكنُ قبولُها وذلكَ أوّلاً: لعدمِ وجودِ شاهدٍ تاريخيّ يُثبِتُ تتلمذَ الرّسولِ على يدِ أحدِ أحبارِهم، أو اِطّلاعَهُ على كُتبِهم والأخذَ مِنها.

 ثانياً: لو كانَ ذلكَ قد حصلَ لعملَ أهلُ الكتابِ على فضحِ أمرِه وهُم الذينَ يُكنّونَ لهُ ولدعوتِه العِداءَ الشديد، فلَم يدّعِ أحدُهم قيامَه بتعليمِه أيّاً مِن تلكَ العلوم. 

ثالِثاً: إنَّ القرآنَ الكريم فضحَ اليهودَ والنّصارى وأبطلَ مُعتقداتِهم وفنّدَ مزاعمَهم وذمَّهم في كثيرٍ منَ الآياتِ كما في قولِه تعالى: (يا أهلَ الكتابِ لا تغلوا في دينِكم ولا تقولوا على اللهِ إلّا الحقّ إنّما المسيحُ عيسى ابنُ مريم رسولُ الله وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ وروحٌ مِنه فآمنوا باللهِ ورُسلِه ولا تقولوا ثلاثةٌ انتهوا خيرٌ لكُم إنّما اللهُ إلهٌ واحدٌ سُبحانَهُ أن يكونَ لهُ ولدٌ لهُ ما في السّماواتِ وما في الأرضِ وكفى باللهِ وكيلاً). 

رابِعاً: المُقارنَةُ بينَ ما جاءَ في كُتبِ أهلِ الكتابِ مِن قصصِ الأممِ السّابقةِ معَ ما جاءَ في القرآنِ الكريم كافٍ لإثباتِ البَونِ الشاسعِ بينَهُما، وإنّها لا يمكنُ أن تكونَ مَصدراً لِما في القرآنِ الكريم، قالَ تعالى: (ولقد نعلَمُ أنّهم يقولونَ إنّما يُعلّمُه بشرٌ لسانُ الذي يلحدونَ إليهِ أعجميّ وهذا لسانٌ عربيّ). فقد امتلأت كتبُ أهلِ الكتابِ بالخُرافاتِ والاساطيرِ التي بعضُها مُخالِفٌ لأبسطِ القِيمِ والأحكامِ الشرعيّة، مُضافاً إلى أنّها تفتقدُ للواقعيّةِ والموضوعيّة، بخلافِ ما جاءَ في القرآنِ مِن تفاصيلَ تجعلُ المُطّلعَ عليها يتفاعلُ معَ أحداثِها وكأنّهُ يعيشُ معَ أصحابِها، فقصصُ القرآنِ مُضافاً إلى أنّها تنقلُ لنا أحداثَ القرونِ الماضيةِ بكُلِّ واقعيّةٍ وموضوعيّة كذلكَ تستبطِنُ مجموعةً منَ العِبَر والقيمِ والسُّننِ التاريخيّةِ التي نحتاجُ معرفتَها مِن أجلِ حياتِنا الرّاهنة، فهيَ ما زالَت مُتفاعلةً معَ مُجرياتِ الحياةِ التي نشهدُها ونعيشُ فيها. كلُّ ذلكَ يدلُّ على أنَّ ما في القرآنِ وحيٌ منَ اللهِ تعالى مِن أجلِ بيانِ الحقائقِ وهدايةِ النّاسِ إلى الصّراطِ المُستقيم.