كيف نفسر وقوع كبار اصحاب الامام الصادق عليه السلام في الحيرة بعد وفاة الامام ع ؟

: الشيخ مروان خليفات

الجوابُ المُجمَل :

ينبغي أن نُقرّرَ أوّلاً أنّه ليسَ كلُّ الشيعةِ آنذاك كانوا على معرفةٍ بالنصِّ على الأئمّةِ ع بأسمائِهم ، فمعرفةُ الكثيرِ منهم كانَت إجماليّةً لا تفصيليّة.

ولو أشيعَ خبرُ أسمائِهم عليهم السلام على الملأ وفي المساجدِ لقبضَ عليهم حُكّامُ زمانِهم وقتلوهم، قبلَ أن يؤدّوا دورَهم الموكلَ إليهم في حفظِ الشريعةِ وبيانِها.

ولكنَّ المُطّلعينَ على النصِّ هُم خاصّتُهم وثقاتُهم، وقد ذكرَهم الشيخُ المُفيد في كتابِ الإرشاد.

أمّا خصوصُ أصحابِ الإمامِ الصّادق ع الذينَ يدورُ عادةً الكلامُ حولهما فهُما هشامُ بنُ سالم ومؤمنُ الطّاق والبعضُ يضيفُ زُرارة، وقد كانوا على معرفةٍ بالإمامِ الذي يلي الصّادق ع ، وفي روايةٍ صحيحةٍ لدى الخزّاز القمّي ما يدلُّ على معرفةِ هشامِ بنِ سالم بأسماءِ الأئمّةِ جميعاً، وما يُروى حولَ حيرتِهم فهيَ رواياتٌ ضعيفةٌ فيها اضطرابٌ شديد.

أمّا زُرارةُ بنُ أعين فكانَ هوَ الآخرُ قائلاً بإمامةِ الكاظم ع كما ثبتَ في محلّه، وقد أكّدَ بعضُ كتّابِ الفرقِ والمقالات هذهِ الحقيقةَ، بل ثبتَ مِن طُرقِ الإماميّة أنّه كانَ على معرفةٍ أنَّ الكاظمَ عليهِ السلام هوَ الإمامُ مِن بعدِ الصّادق ع .

كيفَ نُفسّرُ وقوعَ كبارِ أصحابِ الإمامِ الصّادق عليهِ السلام في الحيرةِ بعدَ وفاةِ الإمام (ع)؟

الجوابُ المُفصّل :

ينبغي أن نُقرّرَ أوّلاً أنّه ليسَ كلُّ الشيعةِ آنذاك كانوا على معرفةٍ بالنصِّ على الأئمّة (ع) بأسمائِهم ، فمعرفةُ الكثيرِ مِنهم كانَت إجماليّةً لا تفصيليّة ، ولو أشيعَ خبرُ النصِّ عليهم بأسمائِهم على الملأ وفي المساجدِ لقبضَ عليهم حُكّامُ زمانِهم وقتلوهم، قبلَ أن يؤدّوا دورَهم الموكلَ إليهم في حفظِ الشريعةِ وبيانِها، ولكنَّ المُطّلعينَ على النصِّ هُم خاصّتُهم وثقاتُهم، وقد ذكرَ أسماءَهم الشيخُ المُفيد (ت 413 هـ) في كتابِ الإرشاد، فقالَ : (فمِمّن روى صريحَ النصِّ بالإمامةِ مِن أبي عبدِ الله الصّادقِ عليهِ السلام على ابنِه أبي الحسنِ موسى عليهِ السلام مِن شيوخِ أصحابِ أبي عبدِ الله وخاصّتِه وبطانتِه وثقاتِه الفقهاءُ الصّالحين - رضوانُ اللهِ عليهم - المُفضّلُ بنُ عُمر الجُعفي ، ومعاذُ بنُ كثير ، وعبدُ الرّحمنِ بنُ الحجّاج ، والفيضُ بنُ المُختار ، ويعقوبُ السرّاج ، وسليمانُ بنُ خالد ، وصفوانُ الجمّال ، وغيرُهم ممّن يطولُ بذكرِهم الكتاب . وقد روى ذلكَ مِن إخوتِه إسحاقٌ وعليٌّ ابنا جعفرٍ وكانا منَ الفضلِ والورعِ على ما لا يختلفُ فيه اثنان ) الإرشادُ، ج2 ص 216

أمّا خصوصُ أصحابِ الإمامِ الصّادق ع الذينَ يدورُ عادةً الكلامُ حولَهما فهُما هشامُ بنُ سالم ومؤمنُ الطّاق، والبعضُ يضيفُ زُرارة، وقد كانوا على معرفةٍ بالإمامِ الذي يلي الصّادق ع ، وما يُروى حولَ حيرةِ هشامٍ والطاق ففي الرواياتِ تلكَ عللٌ واضطراب ، وهذا تفصيلُ حالِها معَ اختصارِ الرّواياتِ لطولِها:

روى الشيخُ الكُليني ( ت 329هـ) : ( محمّدُ بنُ يحيى ، عن أحمدَ بنِ محمّدِ بنِ عيسى ، عن أبي يحيى الواسطي ، عن هشامِ بنِ سالم قالَ : كنّا بالمدينةِ بعدَ وفاةِ أبي عبدِ الله عليهِ السلام أنا وصاحبُ الطاقِ والناسُ مُجتمعونَ على عبدِ الله بنِ جعفرٍ أنّه صاحبُ الأمرِ بعدَ أبيه ، فدخلنا عليهِ أنا وصاحبُ الطاق والناسُ عندَه وذلكَ أنّهم رووا عن أبي عبدِ الله عليهِ السلام أنّه قال : إنَّ الأمرَ في الكبيرِ ما لم تكُن بهِ عاهةٌ ، فدخلنا عليهِ نسأله عمّا كُنّا نسألُ عنهُ أباه ، فسألناه عن الزّكاةِ في كَم تجب ؟ فقالَ : في مائتين خمسة ، فقلنا : ففي مائةٍ ؟ فقالَ : درهمانِ ونصف فقُلنا : واللهِ ما تقولُ المُرجئةُ هذا ، قالَ : فرفعَ يدهُ إلى السماءِ فقال : واللهِ ما أدري ما تقولُ المُرجئة ، قالَ : فخرجنا مِن عندِه ضُلّالاً لا ندري إلى أينَ نتوجّه أنا وأبو جعفرٍ الأحول...)

هذهِ الروايةُ ضعيفةٌ لوقوعِ أبي يحيى الواسطي في سندِها، وهوَ ضعيف، قالَ الشيخُ المجلسي في تخريجِه لأحاديثِ الكافي. قالَ رحمَه الله : ( الحديثُ السّابع : مجهولٌ بأبي يحيى ، وقد يعدُّ ضعيفاً ) مرآةُ العقول في شرحِ أخبارِ آلِ الرّسول ، ج4 ص 94.

والروايةُ المُتقدّمةُ رواها الشيخُ المُفيد عن ابنِ قولويه عن الكُليني بسندِه المُتقدّم ، وفيهِ أبو يحيى الواسطي، وقد تبيّنَ حالُه. الإرشاد، ج2 ص 221

وروى الكشّيّ : ( جعفرُ بنُ محمّد ، قالَ : حدّثني الحسنُ بنُ عليّ بنِ النعمان ، قالَ: حدّثني أبو يحيى ، عن هشامِ بنِ سالم ، قالَ ، كنّا بالمدينةِ بعدَ وفاةِ أبي عبدِ الله عليهِ السلام أنا ومؤمنُ الطاق أبو جعفر...) اختيارُ معرفةِ الرّجال ( رجالُ الكشّي ) ، ج2 ص 565 ـــ 566

العلّةُ في هذه الروايةِ هيَ نفسُ التي في سابقتِها وهيَ ضعفُ أبي يحيى الواسطي.

ففضلاً عن الضعفِ السنديّ أشارَ أحدُ الباحثينَ إلى أنَّ هذه الروايات شديدةُ الاضطراب، ما يمكنُ أن يُطمأنَ بصدورِها ، وجميعُ طرقِها تنتهي إلى :

ـ ابنِ أبي عمير .

ـ أبي يحيى الواسطي

. كلاهُما عن هشامِ بنِ سالم

ولو جمعت طرقُها عن الرّاوي الواحد، سنلاحظُ اضطراباً فاحشاً، واختلافاً كبيراً، ولو جمَعنا طرقَها عن الرّاويين لبانَ الاضطرابُ أكثر، وهوَ مِن أسبابِ ضعفِ الرّواية.

قالَ والدُ الشيخِ البهائي ( ت 984هـ) عن الاضطراب: ( وهوَ يضعفُ الحديثَ ، للإشعارِ بعدمِ الضبط) وصولُ الأخيارِ إلى أصولِ الأخبار، ص 113 .

منَ الرواياتِ التي تناولَت موضوعَ الحيرةِ المزعومةِ للأصحابِ ما رواهُ الصفّار (ت 290 هـ) : ( حدّثنا الهيثمُ النهدي عن إسماعيلَ بنِ سهلٍ عن ابنِ أبي عُمير عن هشامِ بنِ سالم قالَ دخلتُ على عبدِ الله بنِ جعفر ...) بصائرُ الدرجات، 270 ـ 271.

في سندِ هذهِ الروايةِ إسماعيلُ بنُ سهل، وهو ضعيفٌ عندَ أهلِ الرّجال. قالَ الشيخُ النجاشي : ( إسماعيلُ بنُ سهلٍ الدهقان ضعّفَه أصحابنا ) فهرستُ أسماءِ مُصنّفي الشيعة، ص 28

وروى عليُّ بنُ بابويه : ( عليُّ بنُ إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمّدِ بنِ أبي عُمير ، عن محمّدِ بنِ حمران أو غيرِه : عن أبي الحسنِ موسى عليهِ السلام ...

وعنه ، عن أبيه ، عن محمّدِ بنِ أبي عُمير ، عن هشامِ بنِ سالم ، قالَ : لمّا مضى أبو عبدِ الله عليهِ السلام ، ارتحلتُ إلى المدينة ، والناسُ يدخلونَ على عبدِ اللهِ بنِ جعفر ، فدخلتُ إليه ، فقلتُ : أنتَ الإمامُ بعدَ أبيك ؟ فقالَ : نعم . فقلتُ : إنَّ الناسَ قد كتبوا عن أبيكَ أحاديثَ كثيرةً ، ويسألونك ؟ فقالَ لي : سَل . فقلتُ : أخبرني كم في مائتي درهمٍ مِن زكاة ؟ قالَ : خمسةُ دراهم . فقلتُ : ففي مائة ؟ فقالَ : درهمين ونصف . فخرجتُ مِن عِنده ، ودخلتُ مسجدَ الرّسولِ صلّى اللهُ عليهِ وآله ، وأبو الحسن موسى عليهِ السلام جالسٌ ، فجلستُ مُقابلَه ، وأنا أقولُ في نفسي : إلى أينَ ؟ إلى أين ؟ إلى المُرجئة ؟ إلى القدريّة ؟ إلى الحروريّة ؟

فقالَ أبو الحسن عليهِ السلام : إليَّ لا إلى المُرجئة ، ولا إلى القدريّة ، ولا إلى الحروريّة فقمتُ ، وقبّلتُ رأسَه) . الإمامةُ والتبصرةُ منَ الحيرة ، ص 112.

هناكَ كلامٌ في هذا الكتابِ ونسبتِه وكذا في النّسخة، فمعَ إغماصِ النظرِ عن ذلك، فالروايةُ صحيحةُ الإسناد.

وروى الطبريُّ الشيعيّ وسندُه صحيحٌ : ( أخبرني أبو الحسنِ عليُّ بنُ هبةِ الله ، قالَ : حدّثنا أبو جعفرٍ محمّدُ بنُ عليٍّ بنِ الحُسين بنِ موسى ، عن أبيه ، عن سعدِ بنِ عبدِ الله ، عن يعقوبَ بنِ يزيد ، عن محمّدِ بنِ أبي عُمير ، عن هشامِ بنِ سالم ، قالَ : دخلتُ على عبدِ الله بنِ جعفرِ بنِ محمّدٍ بعدَ موتِ أبي عبدِ الله ( عليهِ السلام ) وكانَ ادّعى الإمامةَ ، فسألتُه ...) دلائلُ الإمامة، ص 323 ـ 324 .

علّقَ أحدُ الفُضلاء على هذه الرواياتِ فقالَ: ( إنَّ مدارَ هذهِ الطّرقَ ـ في الرواياتِ الثلاثةِ الأخيرة ـ على ابنِ أبي عُمير، وبها:

ـ اختلافٌ فاحشٌ، مع أنّها روايةٌ واحدة !

ـ الإمامُ الكاظم (ع): تارةً في مسجدِ النبي ص، وتارةً معَ الأفطح، وتارةً في بيتِه.

ـ ورسولُ الإمام (ع) إلى هشام: تارةً طفلٌ، وتارةً لا يوجدُ بينَهما أحد ، وتارةً شيخٌ كبير، وتارةً خادمُ الإمام (ع) ، كما في مصادرِ الروايةِ الأخرى.

ـ وسؤالُ الزّكاة: تارةً أربعونَ درهماً، وتارةً مئةُ درهم، وتارةً غيرُ ذلك.

ـ وهشامٌ: تارةً لوحدِه وتارةً معَ الأحول ، كما بمصادرِ الروايةِ الأخرى.

هذه بعضُ مظاهرِ الاضطرابِ بهذه الرّواية، ويوجدُ غيرُ هذا بطرقِها الأخرى.

فلا يمكنُ معَ هذا الحالِ أن يطمئنَّ المرءُ ويثقَ بروايةٍ هذا حالها؟ وصحّةُ السندِ لا يعني صدورَ الرواية، فقد يكونُ السندُ صحيحاً لكنَّ متنَه ضعيفٌ لا يصح .

وهُنا يحسنُ بنا ذكرُ دليلِ معرفةِ هشامٍ بأسماءِ الأئمّةِ ع .

روى الخزّازُ القمّي بسندٍ صحيحٍ روايةً طويلةً نأخذُ منها موضعَ الشاهد ، قالَ : (حدّثنا الحسينُ بنُ عليّ ، قالَ حدّثنا هارونُ بنُ موسى ، قالَ محمّدُ بنُ الحسن ، قالَ حدّثنا محمّدُ بنُ الحسنِ الصفّار ، عن يعقوبَ ابنِ يزيد عن محمّدِ بنِ أبي عُمير ، عن هشامٍ قالَ : كنتُ عندَ الصّادقِ جعفرِ بنِ مُحمّد عليهما السلام إذ دخلَ عليهِ معاويةُ بنُ وهب وعبدُ الملكِ بنُ أعين ، فقالَ له معاويةُ بنُ وهب : يا ابنَ رسول الله ما تقولُ في الخبرِ الذي روى ... فتبسّمَ عليهِ السلام ثمَّ قال ... إنَّ الإمامَ بعدَ رسولِ الله صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم عليُّ بنُ أبي طالب ثمَّ الحسنُ ثمَّ الحُسين ثمَّ عليُّ بنُ الحُسين ثمَّ محمّدُ بنُ عليّ ثمَّ أنا ثمَّ مِن بعدي موسى ابني ثمَّ مِن بعدِه ولدُه عليٌّ وبعدَ عليٍّ محمّدٌ ابنُه وبعدَ محمّدٍ عليٌّ ابنُه وبعدَ عليٍّ الحسنُ ابنُه والحجّةُ مِن ولدِ الحسن ...) كفايةُ الأثر ص 260.

أمّا زرارةُ بنُ أعين فكانَ هوَ الآخرُ على معرفةٍ بإمامةِ الكاظمِ ع كما ثبتَ في روايةٍ صحيحة.

لقد كانَ الوضعُ الأمنيُّ والسياسيّ في زمنِ الإمامِ الصّادق ع حرجاً جدّاً، فمنَ التهوّرِ البوحُ باسمِ الإمام، ولا شكَّ أنَّ زُرارةَ فقيهٌ حكيمٌ واعٍ لمُجرياتِ الأمور، وفي إعلانِه وإشهارِه إمامةَ موسى الكاظم ع، تعريضٌ لنفسِه وللإمامِ وللناسِ للخطر.

لقد وردَ في نصٍّ صحيحٍ على المشهورِ ما يدلُّ على معرفةِ زُرارة بإمامةِ الكاظمِ وقولِه بذلك.

روى الشيخُ الصّدوق : ( حدّثنا أحمدُ بنُ زياد بنِ جعفرٍ الهمدانيّ - رضيَ اللهُ عنه - قالَ : حدّثنا عليُّ ابنُ إبراهيم بنِ هاشم قالَ : حدّثني محمّدُ بنُ عيسى بنِ عبيد ، عن إبراهيمَ بنِ محمّدٍ الهمداني - رضيَ اللهُ عنه - قال : قلتُ للرّضا عليهِ السلام : يا ابنَ رسولِ الله أخبِرني عن زرارةَ هل كانَ يعرفُ حقَّ أبيكَ عليهِ السلام ؟ فقالَ : نعم ، فقلتُ له : فلمَ بعثَ ابنَه عبيداً ليتعرّفَ الخبرَ إلى مَن أوصى الصادقُ جعفرُ بنُ محمّد عليهما السلام ؟ فقالَ : إنَّ زرارةَ كانَ يعرفُ أمرَ أبي عليهِ السلام ونصَّ أبيهِ عليه وإنّما بعثَ ابنَه ليتعرّفَ مِن أبي عليه السلام هل يجوزُ له أن يرفعَ التقيّةَ في إظهارِ أمرِه ونصِّ أبيهِ عليه وأنّه لمّا أبطأ عنهُ ابنُه طُولبَ بإظهارِ قولِه في أبي عليهِ السلام فلَم يُحبَّ أن يُقدمَ على ذلكَ دونَ أمرِه فرفعَ المصحفَ وقال : اللهمَّ إنَّ إمامي مَن أثبتَ هذا المصحفُ إمامتَه مِن ولدِ جعفرِ بنِ مُحمّد عليهما السلام ) كمالُ الدينِ وتمامُ النعمة ، ص 75 .

ممّا يدلُّ على معرفةِ زُرارة بإمامةِ الكاظم ع هوَ أنَّ وفاتَه كانَت سنةَ 150هـ ، وممّن ذكرَ وفاتَه في هذهِ السنةِ النجاشيّ والطوسيّ والحلّيّ وغيرُهم .

راجِع: فهرستُ أسماءِ مُصنّفي الشيعةِ للنّجاشي، ص 175، رجالُ الطوسي، ص210 ـ 211، خلاصةُ الأقوالِ للعلّامة الحلّي، ص 152، الذريعةُ للطهراني، ج2 ص 27 .

والإمامُ جعفرٌ الصّادق ع استشهدَ سنةَ 148 هـ، وهذا يعني أنَّ زرارةَ بقيَ حيّاً حوالي سنتين بعدَ استشهادِ الصّادق ع، وهيَ فترةٌ كافيةٌ لاستعلامِ حقيقةِ الأمرِ ولمعرفةِ الإمامِ مِن بعدِ جعفرٍ الصّادق ع، هذا على افتراضِ أنَّ زُرارة لم يكُن عارفاً بإمامةِ الكاظم ع وقد بينّا الخللَ في ذلك .

وقد ذهبَ مجموعةٌ مِن أعلامِ الجمهورِ مِنهم : الأشعريّ وعبدُ القاهر البغدادي والأسفرايينيّ والشهرستانيّ والصّفديّ والمقريزيّ، والمنصورُ بالله عبدُ الله بنُ حمزة منَ الزيديّة ذهبوا جميعاً إلى قولِ زُرارة بإمامةِ موسى بنِ جعفر ع، وأنّه لم يمُت دونَ معرفةِ إمامِه كما يزعمُ البعض .

قالَ أبو الحسنِ الأشعريّ ( ت 324هـ) في مقالاتِ الإسلاميّين واختلافِ المُصلّين ، ج 1 ص 27 – 28 نقلاً عن بعضِ فرقِ الشيعةِ أنَّ زُرارة ( سألَ عبدَ اللهِ بنَ جعفرٍ عن مسائلَ لم يجِد عندَه جوابها وصارَ إلى الائتمامِ بموسى بنِ جعفر بنِ محمد)

وقالَ عبدُ القاهر البغداديّ ( ت 429هـ ) : ( ذكرَ الزراريّةُ منهم هؤلاءِ أتباعُ زرارةَ بنِ أعين وكانَ على مذهبِ الفطحيّة القائلينَ بإمامةِ عبدِ الله بنِ جعفر ـ الصّادقِ ع ـ ثمَّ انتقلَ إلى مذهبِ الموسويّة، وهُم القائلونَ بإمامةِ موسى بنِ جعفر ع، وذرّيّتِه صاروا يُعرفونَ بالموسويّة إلى الآن) الفرقُ بينَ الفرق ، ج 1 ص 52 .

وقالَ الأسفرايينيّ ( ت 471هـ) : ( الزراريّةُ منهم، وهُم أتباعُ زُرارة بنِ أعين وقد كانَ على مذهبِ القطعيّة الذينَ كانوا يقولونَ بإمامةِ عبدِ الله بنِ جعفر ثمَّ انتقلَ عنه فكانَ يقولُ بمذهبِ الموسويّة) التبصيرُ في الدين وتمييزُ الفرقةِ الناجيةِ عن الفرقِ الهالكين، ج 1 ص 40.

وقالَ الشهرستانيّ ( ت 548هـ) عن زُرارة : ( وكانَ يقولُ بإمامةِ عبدِ الله بنِ جعفرٍ فلمّا فاوضَه في مسائلَ ولم يجِده بها مليّاً رجعَ إلى موسى بنِ جعفر)

وعبارةُ الشهرستانيّ واضحةٌ في دلالتِها على قولِ زُرارة بإمامةِ موسى الكاظم ع. لكنّه عقّبَ وقال : ( وقيلَ أيضاً أنّه لم يقُل بإمامتِه إلّا أنّه أشارَ إلى المصحفِ وقالَ هذا إمامي...) المللُ والنّحل ، ج 1 ص 186 .

(وقيلَ ) : صيغةٌ تمريضيّة تدلُّ على ضعفٍ في القول، فيبقى قولُ الشهرستانيّ الأوّلُ هوَ الأقوى والمُعتبرُ لديه.

حيثُ قالَ في موضعٍ آخرَ مُعترفاً برجوعِ زُرارة وقولِه بإمامةِ الكاظم ع : (ولمّا رأت الشيعةُ أنَّ أولادَ الصّادقِ على تفرّقٍ فمِن ميّتٍ في حالِ حياة أبيه ولم يعقُب ومِن مُختلفٍ في موتِه ومِن قائمٍ بعدَ موتِه مدّةً يسيرةً ومِن ميّتٍ غيرِ مُعقّبٍ وكانَ موسى هو الذي تولّى الأمرَ وقامَ به بعدَ موتِ أبيه رجعوا إليه واجتمعوا عليه مثلَ المُفضّلِ بنِ عُمر وزرارةَ بنِ أعين وعمّار الساباطي، وروَت الموسويّةُ عن الصّادق رضيَ اللهُ عنه أنّه قالَ لبعضِ أصحابِه: عُدَّ الأيّامَ فعدّها منَ الأحدِ حتّى بلغَ السبتَ فقالَ له كم عددتَه فقالَ سبعةٌ فقالَ جعفرٌ سبتُ السبوتِ وشمسُ الدهورِ ونورُ الشهور ومَن لا يلهو ولا يلعب وهو سابعُكم قائمُكم هذا وأشارَ إلى ولدِه موسى الكاظم وقالَ فيه أيضاً أنّه شبيهٌ بعيسى عليهِ السلام) المِلل والنحل ، ج 1 - ص 168 .

وقالَ المؤرّخُ الصّفدي ( ت 764ه) : ( زرارةُ بنُ أعين هوَ رأسُ الزراريّة كانَ على مذهبِ الأفطحيّة ثمَّ انتقلَ إلى مذهبِ الموسويّة ) الوافي بالوفيّات ، ج 14 ص 130 .

وقالَ تقيُّ الدينِ المقريزيّ ( ت 845ه) : ( وقالَت الزراريّةُ أتباعُ زُرارة بنِ أعين الإمام : بعدَ جعفرٍ ابنُه عبدُ الله ، إلّا أنّه سألَه عن مسائلَ فلم يمكنُه الجوابُ عنها فادّعى إمامةَ موسى بنِ جعفرٍ مِن بعدِ أبيه ) المواعظُ والاعتبارُ بذكرِ الخُططِ والآثار ، ج 4 ص 180 .

وقالَ المنصورُ بالله عبدُ الله بنُ حمزة الزيدي (ت 614هـ): ( وقد كانَ زرارةُ عماريان إلّا أنّه سألَ عبدَ الله عن مسائلَ فلم يُجِبه عن بعضِها فأنكرَ إمامتَه، وقالَ بإمامةِ موسى ) العقدُ الثمين في أحكامِ الأئمّةِ الهادين، تحقيقُ عبدِ السلام بنِ عبّاس الوجية.

إنَّ أقوالَ هؤلاء مِن مُصنّفي الفرقِ والمقالاتِ وغيرِهم تستندُ لأدلّةٍ تاريخيّةٍ روائيّة لم يذكروها، لكنّهم أعلمُ بها وبدلالتِها، وهُم بذلكَ يؤكّدونَ رجوعَ زُرارة إلى الكاظمِ ع، وقولَه بإمامتِه، وقولُ هؤلاءِ قرينةٌ قويّة لصحّةِ ما رويَ مِن طُرقِ الإماميّة مِن قولِ زُرارة بإمامةِ الكاظم ع، وما نسبوهُ إليه منَ القولِ بإمامةِ عبدِ الله الأفطح فلا يصحّ، لعدمِ ورودِه مِن طُرقِ الإماميّة والإماميّةُ أعلمُ برجالهم.

فخُلاصةُ ما مضى : أنَّ هشامَ بنَ سالم ومؤمنَ الطاق وزرارةَ كانوا على معرفةٍ بالإمامِ الذي يلي الصّادقَ ع، وما وردَ مِن رواياتٍ حولَ حيرتِهم فهيَ إمّا ضعيفةٌ أو مُضطربة، والاضطرابُ مِن أسبابِ ضعفِ الروايةِ كما بينّا.