هل تزول آثار الذنوب بالتوبة؟

: الشيخ علي محمد عساكر

الجواب:

لا شكَّ أنَّ آثارَ التوبةِ الكثيرة، وبركاتها العظيمةَ لا تقفُ عند حدِّ غفرانِ الذنوب، ومحوِ السيّئات، بل هي عمليّةُ غسلٍ وتطهيرٍ وتنقيةٍ للنفسِ الإنسانيّة ممّا رانَ عليها مِن صدأ الذنوبِ وأدرانِ المعاصي، فكما أنَّ غسلنا للثوبِ يزيلُ الأوساخَ وآثارها، وكما أنَّ علاجَ أمراضِ البدن يشفي منَ المرض ويزيلُ آثاره، كذلكَ التوبةُ تغفرُ الذنوب، وتزيلُ آثارها، كما دلّت على ذلكَ الكثيرُ منَ الأدلّة، نكتفي منها بدليلٍ من القرآن الكريم، وآخرَ من السنّةِ الشريفة:

الدليلُ القرآني:

في القرآنِ الكريم آياتٌ كثيرة جدّاً تؤكّدُ على حقيقة أنَّ التوبةَ سببٌ لغفرانِ الذنوب من جهة، وتطهيرِ التائبِ من قاذوراتها مِن جهةٍ ثانية، ومن ذلكَ قولهُ جلّ شأنُه في الآيتين (145-146) من سورةِ النساء: {إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّركِ الْأَسفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُم نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصلَحُوا وَاعتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخلَصُوا دِينَهُم لِلَّهِ فَأُولَٰئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ ۖ وَسَوفَ يُؤتِ اللَّهُ المُؤمِنِينَ أَجرًا عَظِيمًا}، إذ كما توعّد اللهُ المنافقينَ بالنار، استثنى التائبينَ مِن نفاقِهم، وعملوا بلوازم تلكَ التوبة، بإصلاح أعمالهم السيّئة عن طريقِ الاعتصامِ بالله، والتمسّكِ بحبلهِ المتمثل في القرآنِ الكريم والسنّة المطهّرة والاقتداءِ بهديهما، وكانَ ذلكَ منهم بصدقٍ وإخلاصٍ في الدين والإيمان، ثمَّ أكّدَ سبحانه أنّه سيجعلهم مع المؤمنين، الذينَ محضوا الإيمانَ محضاً، والذين سيؤتيهم أجراً عظيماً.

وما كان سبحانهُ وتعالى سيجعلهم مع المؤمنينَ لولا أنّهم بتوبتهم النصوح، تطهّروا مِن قاذوراتِ النفاق والأعمالِ القبيحة، وعادوا إلى النقاءِ والصّفاء، وإنّما جعلهم عزَّ وجل معَ المؤمنينَ ولم يعُدّهم منهم، لأنّهم في أوّلِ توبتهم واتّصافهم بما وصفهم به ربّهم، فلحقوا بركب المؤمنينَ المُخلصين، ومتى ثبتوا على توبتِهم، وحافظوا على ما جاءَ في الآيةِ الكريمة مِن وصفهم، وتلبّسوا بذلك تلبّساً كاملاً فلم يُغيّروا ولم يبدّلوا، حينها يترقّونَ ليكونوا منَ المؤمنين، وهذا يبيّنُ لنا أنَّ أثرَ التوبةِ فوريٌّ في التطهيرِ والتنقية، والثباتُ عليها يرفعُ الإنسانَ مِن مرتبةٍ إلى أخرى.

الدّليلُ منَ السنّة:

هناكَ عدّةُ أحاديث تؤكّدُ حقيقةَ أنَّ التوبةَ تتجاوزُ مرحلةَ غفرانِ الذنوب إلى التطهيرِ منها، ويكفينا في ذلك الحديثُ المرويّ عن إمامنا الرضا عن آبائِه عن رسول الله صلّى اللهُ عليهِ وآله كما في ج6ص21 من بحارِ الأنوار: (التائبُ منَ الذنب كمَن لا ذنب له)، وكما نعلم: فالذي لا ذنبَ له طاهرٌ لعدم تلوّثِه بالذنوبِ وأوساخِها، ولولا أنَّ التوبةَ تُطهّر التائبَ منَ الذنوبِ والأوساخ، وتعيدُه سليمَ القلب، نقيَّ الروح، زكيَّ النفس، وإلّا لما صحَّ جعلُ التائبِ بمنزلةِ مَن لا ذنبَ له.

وفي أصولِ الكافي، كتابُ الإيمانِ والكُفر، ج2ص277، عن أبي بصير قال: سمعتُ أبا عبد الله عليهِ السلام يقول: (إذا أذنبَ الرّجلُ خرجَ في قلبِه نكتةٌ سوداء، فإن تابَ انمحَت، وإن زادَ زادَت حتّى تغلبَ على قلبِه فلا يفلحُ بعدَها أبداً)، وفي ص287 منَ المصدرِ نفسه: عن زرارةَ، عن أبي جعفرٍ عليهِ السلام قال: (ما مِن عبدٍ إلّا وفي قلبِه نكتةٌ بيضاء، فإذا أذنبَ ذنباً خرجَ في النكتةِ نكتةٌ سوداء، فإن تابَ ذهبَ ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوبِ زادَ ذلكَ السوادُ حتّى يغطّي البياض، فإذا غطّى البياضَ لم يرجِع صاحبهُ إلى خيرٍ أبداّ، وهو قولُ الله عزَّ وجل: {كَلَّا ۖ بَل ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكسِبُونَ}.

وفي الحديثينِ مِن وضوح المعنى ما يُغنينا عن الشرحِ والبيان، وملخّصُ القولِ في ذلك: إنَّ للأعمالِ حسنةً كانَت أو سيّئةً آثارُها التي تنعكسُ على صفحاتِ القلب، ومرآةِ نفسِ مَن يمارسها، فإن كانت أعمالاً حسنةً أضاءَت القلبَ وأنارته، وإن كانَت سيّئةً جعلَت القلبَ أسوداً مظلماً، والأعمالُ التي يكثرُ منها الإنسانُ ستؤثّرُ في نفسِه أكثر، وستكون آثارُها طاردةً لآثارِ الأعمال الأخرى، فإن أكثرَ الإنسانُ من الأعمالِ الصالحةِ اتّسعَت دائرةُ النور في قلبِه إلى أن تشفي ما فيه مِن مرضٍ، وتزيلَ ما به مِن ظُلمة، وتجعلَ روحَه معلّقةً بعزِّ قُدسه وجلالهِ عزّ وجل، وإن غلبَت الأعمالُ السيّئة، تراكمَت الظلماتُ في القلبِ بعضُها فوقَ بعض، حتّى لم يعُد لنورِ الأعمالِ الصالحة مكانٌ، فيشكّلُ ذلكَ حجاباً بينَ الإنسانِ وبينَ ربّه، فيخسرُ الدّنيا والآخرة، وذلكَ هو الخسرانُ المُبين.

وبما أنَّ التوبةَ منَ الأعمالِ الصّالحةِ أصبحَ مِن آثارِها وبركاتِها أنّها تجلو ظُلمةَ الذنوبِ عن القلب، وتعيدُ إليه الضياءَ والنور، وتطهّرُ صاحبهُ مِن أدرانِ المعاصي التي رانَت على قلبهِ حتّى حجبَتهُ عن رحمةِ ربّه، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين، وصلّى اللهُ على محمّدٍ وآله الطيّبينَ الطاهرين.