كيف تعامل المستشرقون مع السيرة النبوية؟

: الشيخ ليث العتابي

  إننا وفي تناولنا لموضوع المستشرقين والسيرة، لسنا بصدد أن نكتب عن جهود المستشرقين حول السيرة لنثبت ذكاءهم وعبقريتهم مثلاً دون غيرهم، ولا لإثبات اتصافهم وبأجمعهم بالموضوعية، ولا لإثبات أحقية قضية ما من خلالهم، ولكن أردنا بذلك إظهار أن الكثير من القضايا غير خافية على الباحث، وأن الكثير من القضايا واضحة وضوح الشمس، رغم إرادة البعض طمسها وتشويهها وتحريفها. 

لا بد أن نعلم أن هناك الكثير من كتابات المستشرقين التي اتسمت بعدم الإنصاف، وبالخصوص في مجال السيرة، فجملة من المستشرقين كانت كتاباتهم لأجل تشويه سيرة حياة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وسيرة أهل بيته (عليهم السلام) وأجلى مثال لهؤلاء في هذا الصدد هو (هنري لامنس) الذي يعتبر من أكثر المستشرقين حقداً، ودساً على الدين الإسلامي، وعلى النبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) كما أسلفنا .

وفي هذا الصدد يقول الأستاذ "جواد علي"(1): (لقد أخذ المستشرقون بالخبر الضعيف، والموضوع في بعض الأحيان، وحكموا بموجبه، واستعانوا بالشاذ والغريب، فقدموه على المعروف والمشهور)(2).

نعم، إنهم قد هولوا، وكذبوا، واخترعوا الأباطيل، لكنهم وفي أكثر الأحيان، وعند مناقشتهم لقضيةٍ ما، لم ينطلقوا من فراغ، بل إنهم اعتمدوا في ذلك على ما وجدوه في كتب التراث التاريخي، والحديثي السني بما فيها من الخزعبلات، والوضع، والدس، والحقد، والتحريف.

فنحن إن أردنا من الآخر أن يتسم بالموضوعية التامة، والحيادية المطلقة عند قراءة تراثنا، فعلينا أول الأمر أن نخلص هذا التراث من كل ما علق به من مدخولات، وموضوعات، وتحريفات، وتصريفات، فما ذكرته كتب الصحاح الست، وكتب التاريخ من تشويهٍ متعمد لشخصية النبي (صلى الله عليه وآله)، ولأهل (عليهم السلام) قد أسسها مخالفوا النص الشرعي، والذي أسس على إثره معاوية بن أبي سفيان منظومته التحريفية الكبرى، والتي سار عليه سلاطين بني أمية، وكل من جاء بعدهم، وإلى الوقت الحاضر.

 كان محور محاولات المستشرقين في تناول السيرة النبوية هو إسقاط هذا الثقل في واقع المسلمين، منضماً إلى الثقل الأول وهو القرآن الكريم، وبذلك ينهار البناء الإسلامي بكل أبعاده الفكرية والسياسية. ومن أجل ذلك راحوا يتتبعون مفردات التاريخ الإسلامي لاستقصاء موارد الشذوذ ومواطن التزوير في السيرة النبوية، التي أحدثها وعاظ السلاطين ومرتزقة الحكام المنحرفين، كخلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس، وتسليط الضوء عليها، وإظهارها على أنها السيرة الفعلية للرسول وأهل بيته (عليهم السلام)، ثم يبدأ استثمار ذلك عند تأسيس بحث نقدي لشخصية الرسول (صلى الله عليه وآله) لتحقيق هدفين: 

الأول: إبراز تهافت وتناقض في سيرته وصولاً لنفي نبوته وعالميته، وتقرير أنه ليس إلا رجل اصلاح قومي، استثمر النصرانية واليهودية وأمثالها، وأضاف إليها من عنده، لتنسجم مع مجتمعه وظرفه الزماني والمكاني. 

الثاني: وصم السنة النبوية بالإختلاق والوضع، ومن ثم الدعوة إلى عدم حجيتها كمصدر أساسي من مصادر التشريع في الإسلام، ولم تكن هذه المعطيات جزافاً، بل هي إفراز طبيعي للصراع المحتدم بين الإسلام والصليبية، وقد كان للنتائج التي تمخضت عنها الحروب الصليبية طعم العلقم في حلوق الأوربيين، لا ينسونه أبداً)(3).

إن مجمل الآراء غير الموضوعية التي تبناها المستشرقون كان أساسها ـ كما أسلفنا ـ إما التحريفات الموجودة في التراث الحديثي السني، وإما مبتنيات تراث العصور الوسطى الصليبي، وإما كتابات المستشرقين الأوائل ذات الطابع الأيديولوجي، والتبشيري، والإستعماري. مضافاً إلى أن لها غايات وأحقاداً ذات دوافع مبيتة.

لقد شهد إرنست رينان على تحامل أبناء قومه و ملته من المستشرقين على النبي محمد ( ص ) إذ يقول: ( لقد كتب المسيحيون تاريخاً غريباً عن محمد ... إنه تاريخ يمتلئ بالحقد و الكراهية له ، لقد ادعوا بأن محمداً كان يسجد لتمثال من الذهب كانت الشياطين تخبئه له ، و لقد وصمه دانتي بالإلحاد في رواية الجحيم ، و أصبح اسم محمد عنده وعند غيره مرادفاً لكلمة كافر أو زنديق ، و لقد كان محمد في نظر كتاب العصور الوسطى تارة ساحراً، وتارة أخرى فاجراً شنيعاً ولصاً يسرق الإبل ، وكردينالاً لم يفلح في أن يصبح بابا، فاخترع ديناً جديداً أسماه الإسلام لينتقم به من أعدائه ، وصارت سيرته رمزاً لكل الموبقات و موضوعاً لكل الحكايات الفظيعة )(4) .

كما ويقول المؤرخ البيزنطي ( ثيوفان )(5) في كتابه ( الأحداث التاريخية ) إنه يحكى أن موت محمد كان بفعل عشرة من اليهود الذين تآمروا عليه، بعد ما رأوا فيه المسيح، حيث كانوا يرونه يأكل لحم الإبل ( و هو شيء محرم في الديانة اليهودية ) و مع ذلك فقد ظلوا حوله من أجل الإضرار بالمسيحية . ثم يرسم ثيوفان ملامح حياة النبي محمد ( ص ) قائلاً: ( إنه ذهب إلى فلسطين وتحدث مع اليهود والنصارى، وتعلم منهم ما تحتويه الكتب المقدسة )(6) .

بل إن الأسطورة تأخذ منحى آخر عند الراهب ( جيوبرت ) رئيس دير نوجينت ( 1052 ـ 1124 م ) ، إذ يلقي بأسطورة جديدة مفادها : أن بطريرك الإسكندرية حين مات، أراد راهب أن يخلفه في وظيفته، لكنه طرد من الكنيسة ، فوسوس له الشيطان بأن يعلن بأنه المسيح ، و لقد قام هذا الراهب وإسمه ( ماثوموس ) وهي التسمية التي صار يكتب بها اسم محمد ، بالزواج من أرملة غنية اسمها خديجة، وأشاع أنه نبي بين حشد من الناس ، ولقد جاء ( ماثوموس ) ببقرة، و وضع بين قرنيها كتاباً صغيراً، وأخفى هذه البقرة عن أتباعه، و في أحد الأيام أخرج هذه البقرة أمام العامة، وجعلهم يقرأون الكتاب الصغير الذي كان بين قرنيها ، وقد وجدوا في الكتاب جملاً تحلل لهم كل أنواع الفساد الأخلاقي ، وتبيح لهم أكل كل اللحوم المحرم أكلها على الناس .

يتضح جلياً أن هذه الأسطورة المضللة قد بنى واضعها قصتها على أمرين :

أحدهما: قصة الراهب ( بحيرى ) التي وردت في كتب السيرة .

و ثانيهما: اسم ( سورة البقرة ) السورة الثانية الواردة في القرآن الكريم .

من خلال هذين الأمرين نسج خيال كُتاب أوربا في العصور الوسطى هذه الأسطورة المفرطة في الحماقة، وغير ذلك من الأساطير الأخرى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) جواد علي  (1907- 1987 م).

(2) تاريخ العرب في الإسلام، جواد علي، ج 1، ص118 .

(3) الإسلام وشبهات المستشرقين،  فؤاد كاظم المقدادي،  ص 145. 146.

(4) دراسات في التاريخ الديني ، إرنست رينان ـ باريس ( 1859 م ) .

(5) ثيوفان ( 751 ـ 818 م ) .

(6) الأحداث التاريخية ، ثيوفان ، ص 511 ، بون ( 1839 م ) .