هل وجود النسخ في القرآن ينفي كمال الله تعالى؟!.

السؤال: ((وجود "الناسخ والمنسوخ" أكبر دليل على أنّ القران لا يمكن أن يكون من عند إله كامل الأوصاف؛ لأنّ تغيير الكلام ليست من صفات الكمال)).

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

من الواضح أنّ ما جاء في الشبهة المذكورة على هيئة سؤال لا يتعدّى كونه إحدى محاولات الملحدين للطعن في وحيانيّة القرآن الكريم وزعم أنّه من وضع البشر، جاعلين من ذلك طريقاً إلى إنكار وجود الله سبحانه وتعالى، وقد سلكوا إلى هذه الدعوى الواهية طريق المغالطة؛ فإنّ ما ذكروه من كون تغيير الكلام منافياً لصفات الكمال ليس سوى مصادرة على المطلوب، والإجابة عمّا ذكروه تتمّ من خلال بيان الأمرين التاليين:

الأمر الأوّل: أنّ الذي أوقع الملحدين ومَن سايرهم في الشبهة المذكورة هو التباس الأمر عليهم حيث خلطوا بين حالتين من النسخ:

إحداهما: حالة النسخ الواقعة في القوانين الوضعيّة التي يحصل عبر ظهور وانكشاف ما كان مخفيّاً على المشرّعين من خلل في التشريع الأوّل، وهو ممّا يؤدّي إلى استبداله بتشريع جديد، وهذا هو ما يُعرف بالبداء في الإنسان، وهو صدور قول أو فعل ما، ثمّ يبدو له ويظهر له ما فيه من الخلل، فيعمد إلى إلغائه وطرح بديل آخر له، وهذا النوع من البداء محال في حقّه سبحانه وتعالى كما هو ثابت في محلّه من كتب العقائد والكلام. [ينظر: بداية المعارف الإلهيّة ج1ص190، الإلهيات في الكتاب والسنّة ص291].

والأخرى: حالة النسخ التشريعيّ الإلهيّ الواقعة في الشرايع السماويّة، التي لا تكون بسبب انكشاف شيء كان خفيّاً على الله فإنّه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، بل على العكس من ذلك فإنّ حصول النسخ في حقيقته وجوهره هو من كواشف عظيم حكمته وإحاطة علمه عزّ وجلّ؛ ولذا لا يكون وقوع النسخ إلّا عن سبق علم منه تعالى بالناسخ والوقت المناسب له.

قال السيّد محمّد باقر الحكيم: (قد نشاهد بعض الدول أو المجتمعات تضع قانوناً أو مادّة من قانون لتنظيم علاقة الناس بعضهم ببعض، ثمّ نراها بعد تطبيقه ذلك القانون أو تلك المادّة مدّة من الزمان تستبدل بهما قانوناً أو مادّة غيرهما؛ لغرض إحداث تنظيم جديد لتلك العلاقة، وحينئذ يمكن أن يقال: إنّ هذا القانون الجديد نسخ القانون الأوّل وأصبح بدلاً منه، أو المادّة الجديدة نسخت السابقة كذلك. وهذان النوعان من النسخ: نسخ القانون للقانون، ونسخ مادّة لمادة من القانون نفسه يمكن أن نتصوّرهما في التشريع الإلهيّ بأن تنسخ شريعة سماويّة شريعة أخرى كاملة كما نسخ الإسلام اليهوديّة والنصرانيّة، أو يُتصوّر على هيئة نسخ مادّة في شريعة سماويّة لمادّة سابقة من نفس تلك الشريعة. ولكن يوجد فارق أساسيّ بين النسخ والتشريع الإلهيّ من جهة، والنسخ في القوانين الوضعيّة وموادّها من الجهة الأخرى، وهو أنّ النسخ في التشريع الإلهيّ لا يكون إلّا بعد علم إلهيّ مسبق بوقوعه في ظروفه المعيّنة وفي وقته المحدّد بخلاف النسخ في التشريع الوضعيّ؛ حيث يكشف في أكثر الأحيان عن جهل بالواقع الموضوعيّ الذي وضع التشريع أصلاً لمعالجته، وعندما ينكشف تخلّف التشريع عن تحقيق غاياته، يُنسخ بتشريع آخر في محاولة لتحقيق تلك الغايات والأهداف. [علوم القرآن ص191 بتصرف].

الأمر الثاني: من الضرورة بمكان معرفة ما أجمع عليه علماء الطائفة من أنّ أفعال الله تبارك وتعالى - ومنها التشريع - معلّلة بالغرض والحكمة ولا يمكن أن يشذّ فعل من أفعاله عن هذه الدائرة، وقد سبق لنا تفصيل ذلك في جواب مستقلٍّ لمركزنا بعنوان: (الإشكالات المترتّبة على نفي الأشاعرة للغرض والغاية عن أفعاله تعالى) فيمكن الرجوع إليه والوقوف على المراد من ذلك وأدلّته.

وبناءً على ذلك فقد ذكر علماء المسلمين إنّ للتشريع ملاكات ومصالح كثيرة ترجع على العباد وقد لا يمكن تحصيلها من قِبَلِهم إلّا بعد التكليف بتشريع معيّن إلى أجل معيّن ثمّ تغييره بآخر؛ إذ ذكروا وجود عدّة دواعي لوقوع النسخ في القرآن الكريم ، فمن تلك الموارد على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:

المورد الأوّل: ارتفاع الظروف الزمانيّة والمكانيّة الموجبة للتشريع السابق التي كانت تحيط بالمكلّفين بحيث تتطلّب هكذا تشريع؛ ويتّضح ذلك من خلال الوقوف على تعريفهم للنسخ في الشرايع السماويّة بأنّه: (رفعُ أمرٍ ثابت في الشريعة المقدّسة بارتفاع أَمده وزمانه، سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفيّة كالوجوب والحرمة، أم من الأحكام الوضعيّة كالصحّة والبطلان، وسواء أكان من المناصب الإلهيّة أم من غيرها من الأمور التي ترجع إلى الله تعالى بما أنّه شارع) [البيان في تفسير القرآن ص277]. ومن أمثلة هذا المورد مسألة تغيير القبلة ما بين بيت المقدس تارة والمسجد الحرام أخرى.

المورد الثاني: التدرّج في تشريع الأحكام من مرتبة إلى أشدّ منها، أو من حكم مألوف إلى آخر يكاد يكون غريباً يُنفَر منه ما لو شُرِّع من أوّل الأمر، مع دخول جميع ذلك تحت عنوان رأفته ورحمته ولطفه تبارك وتعالى بعباده الذي أجراه على يدي نبيّه الأكرم (صلّى الله عليه وآله) تكويناً وتشريعاً. وفي هذا الصدد روى علم الهدى المرتضى في كتابه (رسالة المحكم والمتشابه) نقلاً من تفسير النعمانيّ بإسناده إلى إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) في حديث الناسخ والمنسوخ قال: «إنّ الله سبحانه بعث رسوله بالرأفة والرحمة، فكان من رأفته ورحمته أنّه لم ينقل قومه في أوّل نبوّته عن عاداتهم، حتّى استحكم الإسلام في قلوبهم وحلّت الشريعة في صدورهم، وكانت شريعتهم في الجاهليّة أنّ المرأة إذا زنت حُبست في بيت وأقيم بأودها حتّى يأتيها الموت. وإذا زنى الرجل نَفوه عن مجالسهم وشتموه وآذوه وعيّروه، ولم يكونوا يعرفون غير هذا. قال الله سبحانه: {واللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ، فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً، والَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ الله كانَ تَوَّاباً رَحِيماً}. فلمّا كثر المسلمون وقوي الإسلام واستوحشوا أمور الجاهلية أنزل الله تعالى: {الزَّانِيَةُ والزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ}، فنسخت هذه الآيةُ آيةَ الحبس والأذى». [رسالة في المحكم والمتشابه ص60، وسائل الشيعة ج28ص67].

المورد الثالث: إيقاف الناس على حقائقهم الباطنيّة وتبصيرهم بأمراضهم النفسيّة وأخلاقهم الذميمة؛ لأجل التخلّص منها ومعالجتها من خلال القيام بعمليّةٍ تربويّة جليلة تكون نافعة لمن كانت له أذنٌ واعية، أو حجّة على مَن أعرض وتولّى.

وبعبارة أخرى فإنّ الأنبياء (عليهم السلام) أشبه بالأطباء الذين يعالجون مرضاهم بطرق مختلفة على عدّة مراحل، فهم (عليهم السلام) المباشرون لإصلاح النفوس، ومثلهم كمثل أطبّاء البدن للأجسام، والنسخة كتاب اللَّه وتغيير الأعمال الشرعيّة والاحكام الخُلُقيّة التي هي مُنزّلة عليهم للنفوس بمنزلة العقاقير، فيغيّرها الشارع وهو اللَّه على حسب مصالح تلك النفوس، تماماً مثلما يكون الشيء الواحد دواء للبدن في وقت، ثمّ قد يكون داءً في وقت آخر [ينظر: تفسير مقتنيات الدرر ج1ص264 ] ولأنّ الحبيب المصطفى (صلّى الله عليه وآله) يمثّل الفرصة الأخيرة للبشريّة فقد كان لابدّ أن يحمل معه كلّ ما يُسهم في معالجة أمراضها النفسيّة وظواهرها الاجتماعيّة السلبيّة حتّى يوصل الناس إلى كمالهم وسعادتهم في الدارين، قال (صلّى الله عليه وآله): «إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»[السنن الكبرى ج10ص192].

ولعلّ من أبرز مصاديق هذا المورد ما ذكره بعض المفسّرين عند تفسير قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ... الآية}[البقرة: 187]، فقد قال الزمخشريّ حول فريضة الصوم وكيف كانت في أوّل تشريعها ما نصّه: ( كان الرجل إذا أمسى حلّ له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلّي العشاء الآخرة أو يرقد، فإذا صلّاها أو رقد ولم يُفطر حَرُمَ عليه الطعام والشراب والنساء إلى القابلة [أي الى الليلة التالية]، ثمّ إن عمر ... واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة فلمّا اغتسل أخذ يبكى ويلوم نفسه، فأتى النبي "صلّى الله عليه [وآله] وسلّم" وقال: يا رسول الله إنّي أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة، وأخبره بما فعل، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما كنت جديراً بذلك يا عمر»، فقام رجال فاعترفوا بما كانوا صنعوا بعد العشاء فنزلت). [الكشّاف ج1ص337]. هذا.. وهنالك موارد أخرى ذكرها العلماء في محلّها من المطوّلات وكتب التفسير فيمكن مراجعتها والوقوف عليها.

والخلاصة من جميع ما تقدّم هي: أنّ وقوع النسخ في القرآن الكريم لم يكن لِيَخرج عن حدود رعاية الله سبحانه لمصالح عباده وإيقافهم على ما فيه النفع والثواب والتفاضل بشكل تدريجيّ وبالطرق المتعارفة بينهم من جهة؛ وإقامةً للحجّة عليهم من الجهة الأخرى، كما أنّه تعالى لا ينسخ حكماً إلّا وجاء بما هو خير منه لهم كما هو حال الموردين الثاني والثالث المتقدّمين، أو كان مثله في الخيريّة كما في المورد الأوّل ومسألة تبديل القبلة فإنّ كلا القبلتين خير للأمّة بلا شكّ، تماماً كما قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة: 106]، فإنّ الهدف من الشرايع هو وضع الإنسان على المسار الصحيح والصراط المستقيم والأخذ بيده ليرتقي مدارج الكمال، وهذا أمر يحتاج إلى الترويض والتدرّج والتغيير والتبدّل، خصوصاً في أوّل عهد الشريعة حتّى تكون لها مقبوليّة عند الناس ولا ينفروا منها.

وبذلك يظهر لنا جليّاً أنّ وقوع النسخ في القرآن الكريم لا يدلّ من قريب أو بعيد على نفي وحيانيّته وأنّه بشريُّ المنشأ، كما أنّ ما جاء في الشبهة ليس دليلاً على نفي الكمال عن الذات المقدّسة كما يزعم الملحدون.. هذا ما وفّقنا الله تعالى لتحريره في المقام والحمد لله ربّ العالمين.