دلالات حديث مدينة العلم
السؤال: ما هي الدلالات التي يمكن استفادتها من قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله): «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها»؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
يشير السائل الكريم إلى ما روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بأسانيد معتبرة عند الفريقين وبألفاظ مختلفة ومتّحدة المضمون، منها - مثلاً - ما رواه الحاكم من قوله: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليأتِ الباب» [ينظر: المستدرك ج3 ص126]، وهو يكشف عن أنّ الله تعالى قد جعل أمير المؤمنين (عليه السلام) باباً لعلومه التي أودعها عند رسوله (صلّى الله عليه وآله)؛ وذلك لأنّ الأحاديث الواردة عن النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) - في حقيقتها - إنّما هي إخبارٌ عن الله عزّ وجلّ، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، ولاشكّ في أنّ لهذا الحديث الشريف وما فيه من جعل إلهيّ دلالات متعدّدة حرّرها الأعلام في كتبهم، ونحن نذكر لك بعضاً منها:
الأولى: أعلميته (ع) على سائر الأمّة:
يدلّ الحديث الشريف على أعلميّته (عليه السلام) على سائر الأمّة؛ إذْ لو كان فيها من هو أعلم منه للزم النقص في الباب، والنقص فيه يرجع نقصاً في المدينة، وهو باطل؛ لذا قال المنّاويّ -عند شرحه للحديث-: (وقد شهد له بالأعلميّة الموافق والمخالف والمعادي والمحالف) [فيض القدير ج3 ص60].
وقال الأمير الصنعانيّ – في معرض شرحه للحديث محلّ البحث بعدما صحّحه عن جابر بن عبد الله -: («أنا مدينة العلم وعليّ بابها فمَن أراد العلم فليأت الباب»: ففيه الحثّ على أخذ العلم منه (عليه السلام)، وأنّه باب مدينته، مَن أتى منه نال مرامه، وفيه الشهادة العادلة له بالأعلميّة، وقد اتّفق على ذلك المؤالف والمخالف، حتّى قيل لعطاء: هل كان أحد من الصحب أفقه من عليٍّ قال: لا والله) [التنوير في شرح الجامع الصغير ج4 ص256].
الثانية: أفضليّته (ع) على الأمّة:
ولـمّا ثبت دلالة الحديث الشريف على الأعلميّة فقد ثبتت الأفضليّة؛ للملازمة العقليّة والعقلائيّة بين الأعلميّة والافضليّة، فإنّ العلم أفضل وأشرف صفات البشريّة على الإطلاق، وبه أظهر الله تعالى فضل آدم (عليه السلام) للملائكة، ولو كان شيء أفضل من العلم لأظهره به لا بما هو دونه فضيلة. قال الفخر الرازيّ – عند تفسير قوله: {وَعلَّمَ آدَمَ الأَسمَاءَ كُلَهَا} -: (هذه الآية دالّة على فضل العلم، فإنّه سبحانه ما أظهر كمال حكمته في خِلقة آدم (عليه السلام) إلّا بأن أظهر علمه، فلو كان في الإمكان وجود شيء أشرف من العلم لكان من الواجب إظهار فضله بذلك الشيء لا بالعلم) [تفسير الرازيّ ج2 ص178]. وقال الحكيم الترمذيّ: (قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ}، وإنّما فُضِّلوا على الخلق وبعضهم على بعض بالمعرفة له والعلم به، لا بالأعمال الظاهرة، فبالمعرفة تطهر الأبدان وتزكو الأعمال وبها تقبل منهم...) [نوادر الأصول ج2 ص127].
وقد قال ابن حجر الهيتميّ - في معرض ذكره لمثالب معاوية -: (السادس: خروجه على عليّ (كرم الله وجهه) ومحاربته له، مع أنّه الإمام الحقّ بإجماع أهل الحلّ والعقد، والأفضل الأعدل الأعلم بنصّ الحديث الحسن - لكثرة طرقه - خلافاً لمن زعم وضعه ولمَن زعم صحّته ولمن أطلق حسنه: «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها») [تطهير الجنان ص123].
الثالثة: إحاطته (ع) بجميع العلوم الإلهيّة:
لاشكّ أنّ علوم جميع الأنبياء قد ورثها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاجتمعت عنده، ثمّ زاده الله تعالى من فضله [ينظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى ج1 ص721، الرسالة اللدنيّة ص26، تفسير الرازيّ ج6 ص212]. وعليه، فلو كان باب المدينة لا يوصل إلى شيء من تلك العلوم، للزم أن يحتاج الناس إلى باب آخر غيره، وهذا ينافي صريح الحديث بوجود باب واحد لها.
فيترتّب على ذلك أنّ الحديث يدلُّ على انحصار جميع ما في المدينة من علمٍ به (عليه السلام)؛ إذْ من الواضح أنّ باب أيّ مدينة إنّما يكون طريقاً لِـما يدخل إليها وما يخرج منها، وليس هنالك طريق آخر سواه، ولـمّا كان الإمامُ بابَ مدينة العلم فلا مجال لنيل ذلك العلم إلّا عن طريقه بالخصوص، وإلى هذا المعنى ترشد اللام في قوله: «فليأتِ الباب» فإنّها للعهد الذكريّ فترجع إلى قوله: «وعليّ بابها»، ولذا كان (عليه السلام) يحثّ الناس على سؤاله قبل أن يفقدوه، كما روى الفريقان عنه (عليه السلام) أنّه كان يقول: «سلوني قبل أن تفقدوني ولن تسألوا بعدي مثلي» [المستدرك ج2 ص352]، قال الحاكم: (هذا حديث صحيح عالٍ ولم يخرجاه).
هذا، وقد استفاد غير واحد من علماء العامّة معنى الإحاطة والانحصار المذكورين من الحديث، فقال الحراليّ -حول علمه (عليه السلام) بتفسير الكتاب-: (قد علم الأوّلون والآخرون أنّ فهم كتاب الله منحصر إلى علم عليّ، ومن جهل ذلك فقد ضلّ عن الباب الذي من ورائه يرفع الله عن القلوب الحجاب حتّى يتحقّق اليقين الذي لا يتغير بكشف الغطاء إلى ههنا كلامه) [تفسير الحراليّ ص26]. وقال الأمير الصنعانيّ - بعد ذكره حديث مدينة العلم وتصحيحه -: (قد خصّ الله الوصيَّ (عليه السلام) بهذه الفضيلة العجيبة، ونوّه شأنه، إذْ جعله باب أشرف ما في الكون وهو العلم، وأنّ منه يستمدُّ ذلك مَنْ أراده، ثمّ إنّه باب لأشرف العلوم وهي العلوم النبويّة، ثمّ لأجمع خلق الله علماً وهو سيّد رسله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)، وإنّ هذا الشرف يتضاءل عنه كلّ شرف، ويطأطئ رأسه تعظيماً له كلّ مَن سلف وخلف) [المواهب النديّة ص216].
الرابعة: أنّه (ع) أمان من الاختلاف، ومعيار الحقّ والباطل:
إذ لـمّا كان الاختلاف واقعاً بين جميع المسلمين بدءاً من الصحابة، سواءً في المسائل العقائديّة أو الفقهيّة أو التفسيريّة وغيرها [يُنظر مثلاً: المجموع ج16 ص119، المحلّى ج5 ص124، عمدة القارئ ج8 ص116، إعانة الطالبين ج1 ص292]، فحينئذٍ كان لابدّ من وجود معيار واضح يرجع الناس إليه؛ ليتسنّى لهم معرفة الصواب من الخطأ في التشريع، والحقّ من الباطل في العقيدة، فيكون في وجوده حفظ للشريعة من الإتلاف وأمان للأمّة من الاختلاف.
وهذا المعيار هو أمير المؤمنين (عليه السلام) لِـمَا عرفت سابقاً: من انحصار العلم والمعرفة الحقيقيّة به دون غيره، وأكبرُ دليلٍ على كونه المعيارَ في المقام رجوعُ الخلفاء وغيرهم من الصحابة إليه (عليه السلام) كلّما ضاقت بهم السبل وخفي عليهم الحقّ، وهذا أمر أوضح من الشمس في رائعة النهار، وفي أحاديث كون أهل البيت (عليهم السلام) أماناً للأمّة كفاية في الدلالة كما لا يخفى.
وعلى هذا يكون الإمام (عليه السلام) هو الهادي للأمّة من بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ لأنّ الهدى ملازم للعلم ولا ينفكّ عنه فلا هداية بلا علم، كما أنّ الضلالة ملازمة للجهل كذلك، وإلّا فلا معنى لتفضيل العلم وذمّ الجهل في حكم العقل والشرع لو كان الهدى أو الضلال ممّا يترتّب عليهما معاً، لذا قال المنّاويّ في شرحه للحديث الشريف: (فإنّ المصطفى (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) المدينة الجامعة لمعاني الديانات كلّها، ولابدّ للمدينة من بابٍ، فأخبر أنّ بابها هو عليّ (كرم الله وجهه)، فمَن أخذ طريقه [يعني طريق عليّ] دخل المدينة، ومَن أخطأه أخطأ طريق الهدى) [فيض القدير ج3 ص60].
والشاهد على ذلك ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]، فقد روى الفريقان في الحديث المعتبر بالإسناد إلى ابن عباس: أنّه لمّا نزلت هذه الآية: «وضع رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) يده على صدره فقال:أنا المنذر، ثمّ أومأ إلى منكب عليّ وقال: أنت الهادي، يا عليّ بك يهتدي المهتدون من بعدي» [المستدرك ج3 ص130، شواهد التنزيل ج1ص381]، قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه).
الخامسة: دلالته على عصمته (ع):
لـمّا ثبت دلالة الحديث على أنّه (عليه السلام) الباب الحصريّ للعلوم الإلهيّة وأسرارها دائماً لزم أن يكون مأموناً دائماً على ما في المدينة من العلم، وهذه المأمونيّة الدائمة تستلزم العصمة من الخطأ والضلال، وإلّا فلو أمكن وقوعه في الخطأ والضلال ونحوهما ممّا يعتري البشر، لَـما كان مأموناً دائماً على العلوم الإلهيّة، فيقبح حينئذٍ عقلاً وشرعاً جعله باباً حصرياً لتلك المدينة.
كما أنّه لـمّا ثبت دلالة الحديث على أنّه (عليه السلام) معيار لمعرفة الحقّ من الباطل وأمان للأمّة من الاختلاف، لزم أن يكون معصوماً؛ إذ لو لَـم يكن معصوماً لـما صحّ أن يكون معياراً للحقّ ولا أماناً من الاختلاف والضلال؛ لإمكان وقوعه في الباطل والخطأ والضلال فكيف يكون معياراً وأماناً، وهو خلف.
ويشهد لذلك قوله (صلّى الله عليه وآله) لعمّار بن ياسر: «يا عمّار، إنْ رأيتَ عليّاً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع عليٍّ ودع الناس، إنّه لن يدُلَّك على رَدى ولن يُخرجك من الهدى» [تاريخ بغداد ج13 ص188].
السادسة: دلالته على إمامته (ع):
لـمّا ثبتت دلالة الحديث على عصمة أمير المؤمنين (عليه السلام) ثبتت دلالته على إمامته على الأمّة؛ إذ المعصوم أحقّ بمنصب الإمامة من غيره.
كما أنّه لـمّا ثبتت دلالة الحديث على أعلميّته وأفضليّته فإنّه تثبت إمامته أيضاً؛ وذلك لحكم العقل والنقل:
فأمّا العقل فلوضوح أنّه لو كان في الأمّة مَن هو أعلم وأفضل لكان أحقّ بالإمامة من الإمام ولوجب اتّباعه دون الإمام، وأيضاً للزم احتياج الإمام إليه، وهذا خُلف كونه إماماً؛ إذ المفروض أن يحتاج الناس إلى الإمام دون أن يحتاج إليهم في شؤون إمامته، وأيضاً للزم تقديم المفضول على الفاضل وهو قبيح عقلاً.
وأمّا النقل: فلقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35]، حيث تفيد الآية: أنّ منَ يهدي إلى الحقّ بذاته ومن دون الحاجة إلى غيره أحقّ في الاتّباع من الذي لا يهدي إلّا إذا استعان بذلك الغير، ومن هنا نجد البخاريّ قد عقد باباً في صحيحه بعنوان: (باب أهل العلم والفضل أحقّ بالإمامة) [ينظر: صحيح البخاريّ ج1 ص165]، قال ابن حجر في بيان مراده: (ومقتضاه أنّ الأعلم والأفضل أحقّ من العالم والفاضل) [فتح الباري ج2 ص137].
وبعبارة أخرى: فإنّ تقديم الأفضل على الفاضل أمر وجدانيّ يدركه الإنسان بفطرته ويحكم به عقله، وكلّ واحد منّا يعلم في نفسه يقيناً بأنّ مَن اجتمعت فيه الخصال المذكورة كدلائل للحديث محلّ البحث من: الأفضليّة، والأعلميّة، وانحصار علم المدينة فيه، وكونه الهادي للأمّة، وكونه معصوماً لابدّ أن يكون هو الإمام للناس، كما لا يخفى.
هذه بعض دلالات الحديث الشريف التي وفّقنا الله تعالى لذكرها، فمن رام المزيد فلينظر كتاب [نفحات الأزهار ج11 ص157-200]، والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق