الحكمة من خروج الحسين (ع) بالطفل الرضيع (ع)

السؤال: لماذا خرج الإمام الحسين (عليه السلام) بالطفل الرضيع (عليه السلام) نحو الأعداء؟

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

بادئ ذي بدء لابدّ من التسليم بكون سيّد الشهداء الحسين (عليه السلام) إماماً معصوماً في أقواله وأفعاله، كما أنّه كان على علم بكلّ ما سيجري في كربلاء عليه وعلى عيالاته جميعاً، وحينئذٍ لابدّ وأن يكون كلّ ما صدر منه في فصول نهضته المباركة مرتبطاً بحكمة ربّانيّة ومصلحة إلهيّة لا يتطرّق إليها الشك أو يشوبها الريب، ولا يلزمنا - والحال هذه - أن نقف على كُنه تلك الحكمة أو حقيقة تلك المصلحة، بل وظيفتنا هي التسليم والتصديق بصحّة ومشروعيّة مثل هذه الأفعال المعصوميّة. [ينظر مقتل الحسين (ع) للمقرّم ص115].

من ناحية أخرى فإنّ للأنبياء والأئمة (عليهم السلام أجمعين) تكاليفاً شرعيّة خاصّة بهم تتناسب مع استعداداتهم النفسيّة وكمالهم الروحيّة وقدراتهم العقليّة التي بمجموعها تُتيح لهم تحمّل المصائب بصبر وثبات. بل لبعض مَن ارتبط بهم من عوائلهم كذلك تكاليف خاصّة، كتكليف أمّ موسى (عليه السلام) بإلقاء رضيعها في اليمّ، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] ونحوه من أمثلة أخرى [ينظر: جواب سابق بعنوان: شبهة عدم دفاع أمير المؤمنين(ع) عن الزهراء (عليها السلام)].

وإلى هذه الخصوصيّة والسرّية في التكاليف يشير الإمام الحسين (عليه السلام) في بعض كلماته، فعن السيد ابن طاووس قال: (.... وجاء عبد الله بن عباس رضوان الله عليه وعبد الله بن الزبير فأشارا إليه بالإمساك. فقال لهما: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد أمرني بأمر وأنا ماضٍ فيه» [اللهوف في قتلى الطفوف ص21]. بل قد جاء في كتب العامّة أنّه (عليه السلام) صرّح بعدم إمكان كشفه لأحد عن طبيعة هذا التكليف، قال ابن سعد: (وكتب عبد الله بن جعفر بن أبي طالب إليه كتابا يحذّره أهلَ الكوفة ويناشده اللهَ أن يَشخَص إليهم، فكتب إليه الحسين: «إنّي رأيت رؤيا، ورأيت فيها رسولَ الله (صلّى الله عليه[وآله] وسلّم) وأمرني بأَمرٍ أنا ماضٍ له، ولست بِمُخبرٍ بها أحداً حتّى أُلاقي عملي» [ترجمة الإمام الحسين في الطبقات ص59، أُسد الغابة ج2 ص21، تاريخ الإسلام للذهبي ج5 ص9، تهذيب الكمال للمزّي ج6 ص418، تاريخ ابن عساكر ج14 ص209].

فإذا عرفت ذلك كلّه، فإنّ الحكمة الظاهرة لنا من خروج الإمام بطفله الرضيع (عليهما السلام) إنّما هي لأجل طلب الماء له من الأعداء بعد أن رآه مشرفاً على الموت بسبب العطش، وذلك لِما ذكر المؤرّخون من أنّ الحصار ومنع الماء عن معسكر الحسين (عليه السلام) قد بدأ قبل ثلاثة أيام من شهادته (عليه السلام) [ينظر: تاريخ الطبري ج4 ص311 ]، فكان من الطبيعيّ أن يخلو المخيّم من الماء، الأمر الذي يقتضي بالضرورة أن يسعى الإمام (عليه السلام) لتحصيله وطلبه لعياله؛ وحيث أنّ الماء في حيازة المعسكر الأمويّ فلقد التجأ الإمام (عليه السلام) إلى عرض رضيعه على القوم؛ ليجعلهم على دراية وعلم بما هو عليه من العطش، فيكون بذلك قد أقام الحجّة عليهم أمام الله تعالى، وفضح حقيقتهم أمام الأجيال على مرّ التاريخ، ومن جهة أخرى يكون قد عمل على تفريغ ذمّته من مسؤولية وفاة رضيعه عطشاً، ومن الواضح أنّه وبحسب الأسباب الطبيعية لم يكن يتيّسر للإمام (عليه السلام) خيار آخر آنذاك، وهكذا هي ابتلاءات الله تعالى لخاصّة أوليائه الأبرار وعباده المقرّبين.

قال سبط ابن الجوزيّ: (فالتفت الحسين فإذا بطفل له يتلظّى عطشاً، فأخذه على يده وقال: «يا قوم، إن لم ترحموني فارحموا هذا الطّفل»، فرماه رجل منهم بسهم فذبحه، فجعل الحسين يبكي ويقول: «اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا»، فنُودي من الهواء: «دعه يا حسين، فإنّ له مُرضعاً في الجنّة») [تذكرة الخواص ج2 ص164].

أمّا الحكمة الإلهيّة الحقيقيّة التي تقف وراء خروجه (عليه السلام) برضيعه فقد خفيت علينا، وما استبان لنا هو بعض الآثار لهذا الموضوع، منها مثلاً: أنّ شهادة الطفل الرضيع (عليهما السلام) من دون ذنب يُذكر أكسبت ضمير الأمّة صعقة تحفيزيّة بعدما ركن ابناؤها إلى الدّعة ورضوا بالحياة الدنيا بديلاً عن الآخرة، فصاروا يرون في أُسَرهم وأولادهم مبرّراً للتلبُس بالروح الانهزاميّة والتخلّف عن الجهاد في سبيل الله تعالى حتّى ولو كان ذلك مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فضلاً عن كونه مع الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، قال تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح: 11]، فكانت شهادة الطفل الرضيع (عليه السلام) عاملاً كبيراً في تحقيق صحوة عقائديّة وإيمانيّة في حياة الأمّة. ومنها أيضاً: أنّ شهادة الطفل الرضيع (عليه السلام) قد فضحت بني أميّة أمام الرأي العام الإسلاميّ والعالميّ على مرّ العصور، وجعلتهم مستوجبين اللعن والبراءة في نظر جميع المنصفين والعقلاء بمختلف انتماءاتهم.

ومن تلك الآثار كذلك: أنّ شهادته (عليه السلام) أكسبت النهضة الحسينيّة جنبة وجدانيّة وإنسانيّة فجعلتها تحاكي عواطف الناس ولو كانت قلوبهم أشدّ قسوة من الحجارة.

هذا وقد عالجنا مفصّلاً بعض تلك الآثار في جواب آخر بعنوان: (الحكمة من خروج الإمام الحسين (ع) بالعيال) فليراجع.

هذا ما وفّقنا الله تعالى لتحريره في المقام، والحمد لله ربّ العالمين.