معنى ظلم النفس

قال الله تعالى: {فَكُلًّا أَخَذۡنَا بِذَنۢبِهِۦۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِ حَاصِبٗا وَمِنۡهُم مَّنۡ أَخَذَتۡهُ ٱلصَّيۡحَةُ وَمِنۡهُم مَّنۡ خَسَفۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ وَمِنۡهُم مَّنۡ أَغۡرَقۡنَاۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظۡلِمَهُمۡ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ}.ما هو معنى الآية الشريفة ؟ وما هو معنى ظلم الإنسان لنفسه؟

: الشيخ أحمد الكعبي

الجواب الآية الكريمة من [سورة العنكبوت 40] تتحدث عن مصير الأقوام السابقة الذين عاندوا الأنبياء (عليهم السلام) وارتكبوا الذنوب، وما أصابهم من عقوباتٍ متنوعةٍ تعكس عدالة السماء في معاقبتهم من دون ظلم من قبلها. وفقاً لتفسير علماء الشيعة الإماميَّة (أعزهم الله) تبين الآية سُنَّةً إلهيَّةً في التعامل مع المجتمعات التي تتجاوز حدود الله تعالى وترفض رسالات الأنبياء (عليهم السلام)، وإليك بيان الآية الكريمة: قوله تعالى: {فَكُلًّا أَخَذۡنَا بِذَنۢبِهِ}: يبيّن عدل الله تعالى المطلق، حيث إن كلَّ قومٍ أُخذوا بسبب ذنوبهم الخاصة، ما يدلُّ على أن العقاب لم يكن اعتباطياً، بل بناءً على جرائمهم. ثم يبيّن أنواع العقوبات المذكورة، فيقول: {فَمِنۡهُم مَّنۡ أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِ حَاصِبٗا}: إشارة إلى قوم لوطٍ (عليه السلام) الذين عوقبوا بالحجارة المسوَّمة. {وَمِنۡهُم مَّنۡ أَخَذَتۡهُ ٱلصَّيۡحَةُ}: إشارة إلى قوم ثمودٍ (عليه السلام) وقوم شعيبٍ (عليه السلام) الذين أُهلكوا بالصيحة. {وَمِنۡهُم مَّنۡ خَسَفۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ}: إشارة إلى قارون الذي خسف الله تعالى به الأرض بسبب طغيانه. {وَمِنۡهُم مَّنۡ أَغۡرَقۡنَا}: إشارة إلى فرعون وقومه الذين أغرقهم الله تعالى في البحر. ثم يقول تعالى: {وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظۡلِمَهُمۡ}: فالله تعالى عادلٌ لا يظلم أحداً، بل الناس يظلمون أنفسهم بارتكاب المعاصي ورفض الهداية. [يُنظر: تفسير الميزان ج16 ص127]. أما بالنسبة للسؤال المتعلق بمعنى ظلم الإنسان نفسه فنقول في جوابه: إنّ ظلم النفس يُعتبر إساءةً يقترفها الفرد بحقّ ذاته، وذلك نتيجة لأقوال أو أفعال تتجاوز حدود الشرع والأخلاق. فمثلما يُعدّ انتهاك حقوق الآخرين وتجريح مصالحهم ظلماً، فإنَّ إيذاء النفس من خلال ارتكاب المعاصي والذنوب، ومنها الإساءة للآخرين، يُعَدّ أيضاً من مظاهر هذا الظلم. إن هذه الأفعال تُحِدّ من رقي النفس وتُؤدي إلى تراجعها عن مراتبها السامية. فالإنسان ليس مالكًا للنفس، بل هي أمانةٌ أودعها الله تعالى عنده، وعليه أنْ يحافظ عليها ويردّها إلى مالكها الحقيقي وهي في حالةٍ سليمة. فالإنسان لا يملك لنفسه نفعًا أو ضرًا، ولا حياةً أو موتًا أو بعثًا، وعليه، فإنَّ النفس - بوصفها وديعةً إلهيَّة - تخضع لأحكامٍ علميَّةٍ وأخرى عمليَّة، ويتجلى أداء هذه الأمانة من خلال تعلم تلك الأحكام وتطبيقها في الحياة، أما تعطيلها أو التلاعب بها، فهو خيانةٌ لهذه الأمانة الإلهية العظيمة. قال الشيخ الجوادي الآملُّي: (ومعنى الظلم للنفس هو أن الأنفس هي ملك الله تعالى وما الإنسان إلا أمين الله عليها، ويتعيَّن عليه أنْ يُرجع هذه الوديعة الإلهيَّة إلى مالكها الأصلي سالمةً فما من أحدٍ قط مالك لنفسه: {لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً} [المائدة 31]، {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس 31]. إن للنفس - التي هي وديعة إلهية - أحكاماً علميّة وحكماً عملية، فتعليم تلك الأحكام والحكم وتحصيلها هو أداء للأمانة الإلهيَّة، وتعطيلها وتبديلها هو خيانة لتلك الأمانة. إن تسليط الحس والخيال والوهم على العقل النظريّ في جانب الفكر، وتأمير الشهوات والغضب على العقل العمليّ في حيز الدافع يُعدان ظلماً بحق أكثر الشؤون الحياتية للنفس أهمية انطلاقاً من هذه القاعدة فإن أول ظلمٍ يمارسه العاصون يكون في حق الهوية الأصيلة لأنفسهم من حيث أنهم خلفاء الله، لكنه بإمكان المجرم العاصي في كلّ مرةٍ أن يتوب ويشمل بعناية الإله الغفار). [تسنيم في تفسير القرآن ج4 ص604]. الخلاصة: تؤكّد الآية الكريمة على العاقبة السيئة لمن يعاند الله تعالى ويعصي أوامره، وتوجّه خطاباً ضمنيّاً للمسلمين بأنهم إذا حادوا عن طريق الحق قد يواجهون مصيراً مشابهاً. فالآية ترسل رسالةً تحذيريةً للمؤمنين بأخذ العبرة من الأقوام السابقة، مع التأكيد على حرية الاختيار والمسؤولية الفردية. اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتَنا، وزدنا علماً إنك سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.