دور الإمام الهادي (ع) في تثبت العقيدة
لكلّ إمامٍ معصومٍ دورٌ يمارس فيه نشاطاتٍ معيّنةً في مختلف المجالات، فما هو دور الإمام عليّ الهادي (عليه السلام) على صعيد المجال العقائديّ؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
يعتبر عصر الإمام الهادي (عليه السلام) استثنائيّاً بكلّ المقاييس، فقد كان مشحوناً بالحركات الفكريَّة والعقديّة المنحرفة والهدّامة للإسلام، وانتشرت فيه ترجمات الفلسفة الغربيَّة بين المسلمين، وانتعش التصوّف آنذاك إلى حدّ تحذير الإمام (عليه السلام) شيعته من مجالسة الصوفيّة، وبرزت مقبولية الإلحاد والزندقة عند بعض الفلاسفة كالكنديّ وغيره، وتوسّعت رقعة الفطحيّة والواقفة، وظهرت على السطح عقيدة التجسيم على يد محمد بن كرّام -الذي كان إماماً لمذهبي الشافعيّة والحنفيّة معاً-.
ولذا فمن الصعوبة بمكانٍ اختزال الأنشطة التي مارسها الإمام (عليه السلام) على مستوى الجانب العقائديّ بهذه السطور؛ وذلك لتميّزها بالأهميّة البالغة من جهة تضمّنها مشقّة العمل على اتجاهين مختلفين: أحدهما: الحفاظ على الإسلام المحمّديّ الأصيل وصيانة المنجزات التي تحقّقت له على أيدي المعصومين السابقين (عليهم الصلاة والسلام)، بدءاً بالنبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وانتهاءً بالإمام الجواد (عليه السلام).
وثانيهما: الانتقال بالعقيدة المهدويّة من مرحلة التمهيد النظريّ إلى التمهيد العمليّ، بالشكل الذي خطّطت لها السماء، وبما ينسجم ومتطلّبات تلك المرحلة التي ينتمي إليها الإمام (عليه السلام) وتتناسب مع الظروف المحيطة بالإسلام والمسلمين آنذاك.
وقد كانت مسؤوليّة الإمام (عليه السلام) أن يكتمل عمله في كلا الاتجاهين بانسيابيّةٍ تامّةٍ وبشكلٍ طبيعيّ، وأن تتلقّى الأمّة -وخصوصاً أتباع التشيّع- أنشطة الإمام (عليه السلام) فيهما بالقبول والرضا والتسليم على المستويين النظريّ والعمليّ، بالإضافة إلى وجوب أن يكون العمل في الاتجاهين معاً بعيداً عن أنظار السلطة العباسيّة المناوئة له ولشيعته.
ومن هنا فإنّنا نذكر أبرز الأنشطة التي قام بها الإمام (عليه السلام) مع إغماض النظر عن معوّقات العمل التي كانت تعترض طريق نجاحه، أو تؤخر إنجازه، وذلك من خلال استعراض المحاور الآتية:
المحور الأوّل: صيانة الشيعة من فتنة خلق القرآن:
فقد عمل (عليه السلام) على صيانة الكتلة الشيعيّة من الدخول في هذه الفتنة التي استمرّت سنين طويلة، فالمعتزلة قالت بخلق القرآن، وقال أهل الحديث وغيرهم بقدمه، فتبنّى المأمون القول الأوّل وأصدر الأوامر بوجوب اعتناق العلماء والعامّة لهذه العقيدة، وتبعه المعتصم والواثق أيام خلافتهما، فثارت الفتنة وتقاتلت المذاهب السنّيَّة فيما بينها، وقُتل جمعٌ من علمائهم وفقهائهم، وكثيرٌ من المسلمين، وسُجن آخرون وتعرّضوا للتعذيب ومنهم أحمد بن حنبل نفسه، وكادت تنجلي الفتنة بانتصار المعتزلة، حتّى جاء المتوكّل العباسيّ سنة (232 هـ) فنصر أهل الحديث على المعتزلة حتّى كاد يُنهي مذهبهم من الوجود، فما كان من الإمام الهادي (عليه السلام) إلّا توعية شيعته بعدم الخوض في هذا الموضوع ووجوب الامتناع عن الكلام فيه نهائيّاً، بل الإمام كان يؤكّد على عدم الخوض في المسائل العقائديّة التي لا يستتبعها بعدٌ عمليٌّ ولا تضر العقيدة جهالة الإنسان بها، فمن ذلك ما رواه الصدوق بإسناد إلى محمد بن عيسى بن عبيد اليقطينيّ، قال: «كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا (عليهم السلام) إلى بعض شيعته ببغداد: بسم الله الرحمن الرحيم، عصمنا الله وإيّاك من الفتنة، فإن يفعل فأَعظِم بها نعمة، وإن لا يفعل فهي الهلكة، نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب، فتعاطى السائل ما ليس له، وتكلّف المجيب ما ليس عليه، وليس الخالق إلّا الله، وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله، لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين. جعلنا الله وإيّاك من الذين يخشون ربّهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون» [التوحيد ص224].
وبذلك يكون الإمام الهادي (عليه السلام) قد صان مذهب التشيّع من التضيّيع، وصان الكتلة الشيعيّة من التعرّض للاضطهاد وقتل خيرة أبنائها الصالحين وعلمائها الربّانيّين، ولاسيّما وأنّ هذه المسألة ليست من المسائل التي يجب على الإنسان تحصيل العلم بها، ولا يترتّب عليه أثرٌ عمليٌّ معيّنٌ كما عرفت.
المحور الثاني: صيانة الشيعة من عقيدة التجسيم التي رفع لواءها الحنابلة:
من المعروف لدى المسلمين أنّ أشدّ من اعتقد بالتجسيم ولا يزال هم الحنابلة، بدءاً بإمامهم أحمد بن حنبل الذي بعث في طلبه المتوكّل العباسيّ لـمّا وصل لسدّة الحكم وعمل على تنصيبه مرجعاً للأمّة مواجهةً لمرجعيّة الإمام الهادي (عليه السلام) آنذاك، فقد روى الملَطيّ العسقلانيّ: أنّ المتوكّل أرسل في طلب أحمد وقال له: (يا أحمد! إنّي أريد أن أجعلك بيني وبين الله حجّة، فأظهرني على السنّة والجماعة، وما كتبته عن أصحابك عمّا كتبوه عن التابعين ممّا كتبوه عن أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) فحدّثه بهذا الحديث) [التنبيه والردّ على أهل الأهواء ص17]، والمراد من الأحاديث هنا تلك التي تشتمل على عقيدة التجسيم من الروايات الموضوعة كذباً أو المؤّولة به، فلقد منع المتوكّل النقاش في علم الكلام إلّا ما يقوله أحمد بن حنبل من الاشتغال بعلم الكتاب والسنّة، وصار لا يولّي أحداً أو يعزل آخر عن منصبه إلّا بمشورة ابن حنبل [ينظر: البداية والنهاية ج10 ص348]، وشاع بين الناس تعظيم ابن حنبل بشكلٍ كبيرٍ، وأنّه لولا ابن حنبل لذهب الإسلام فإنّه قام مقام الأنبياء [ينظر: كشف القناع ج1 ص18]، وظهرت آراؤه العقائديّة على الساحة وتلقتها العامّة، ومنها عقيدة التجسيم، فأصبح المسلمون يشبّهون الله بخلقه وأنّ له جسماً ويداً وساقاً...إلخ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيراً.
فتصدّى لهم الإمام الهادي (عليه السلام) وبيّن أوجه بطلان عقيدتهم وأخذ يجيب عمّا يرتبط بها بكلّ وضوح، فمن ذلك ما عن أحمد بن إسحاق قال: «كتبت إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس فكتب: لا تجوز الرؤية، ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواءٌ لم ينفذه البصر، فإذا انقطع الهواء عن الرائيّ والمرئيّ لم تصح الرؤية، وكان في ذلك الاشتباه؛ لانّ الرائيّ متى ساوى المرئيَّ في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه وكان ذلك التشبيه؛ لأنّ الأسباب لابدّ من اتصالها بالمسببات» [الكافي ج1 ص97].
ومنها ما عن الفتح بن يزيد الجرجانيّ من قوله (عليه السلام): «وهو اللطيف الخبير السميع البصير، الواحد الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، منشئ الأشياء ومُجسّم الأجسام ومُصوّر الصور، لو كان كما يقول المشبّهة لم يُعرف الخالق من المخلوق، ولا المنشِئ من المنشَأ، لكنّه المنشِئ، فرق بين من جَسَّمَه وصَوّره وأنشأَه وبيَّنه؛ إذ كان لا يُشبهه شيءٌ ولا يُشبه هو شيئاً» [توحيد الصدوق ص61]، وغير ذلك من الروايات، ويمكن مراجعة ما كتبه الشيخ الكورانيّ في كتابه: [الإمام علي الهادي (ع) ص194].
المحور الثالث: صيانة مذهب التشيّع من عقيدتي الجبر والتفويض:
تكشف الشواهد التاريخيّة عن اعتقاد بعض الصحابة بعقيدة الجبر؛ تبريراً منهم لِـما يصدر عنهم من مواقف سلبيّةٍ مخالفةٍ للشرع، وقد روى المخالفون في ذلك الكثير عن الخليفتين الأوّل والثاني وعن عائشة وغيرهم [ينظر: صحيح البخاريّ ج5 ص101، تاريخ بغداد ج1 ص172]، ولمّا استلم معاوية زمام الأمور تبنّى الفكرة وروّج لها بشدّة حتّى صارت عقيدة الغالبيّة العظمى من أبناء العامّة واستمرّت كذلك إلى يومنا هذا [ينظر: الإمامة والسياسة ج1 ص161].
وفي عصر الإمام الهادي (عليه السلام) وبعد أن ساد المعتزلة القائلون بالتفويض، وأصبحوا وزراء للمأمون نشأ تدافعٌ فكريٌّ شديد بين المذهبين: (المفوّضة والمجبّرة)، ونزل الخلاف إلى الشارع، فاحتدم الصراع حتّى على مستوى عوامّ الناس، ووقع الاختلاف والتقاطع والعداوة بينهم، فكادت الفتنة أن تأتي على المسلمين حتّى الشيعة منهم، فكتب المسلمون في الأهواز كتاباً للإمام (عليه السلام) واستنجدوا به لبيان العقيدة الحقّة، فكتب لهم جواباً رواه ابن شعبة الحرّانيّ في تحف العقول، وكان في ثلاث عشرة صفحة عالج فيها الإمام هذه المسألة وأوضح بطلان الاتجاهين معاً بالأدلّة القاطعة، وأثبت عقيدة الأمر بين أمرين بالبراهين الساطعة، لتصبح رسالته منذ ذلك الحين مناراً للأجيال وتتناقلها الناس عنه، ونحن نقتبس شيئاً من مطلعها حيث يقول (عليه السلام): «من عليّ بن محمد، سلامٌ عليكم وعلى من اتّبع الهدى ورحمة الله وبركاته
فإنّه ورد عليَّ كتابكم وفهمتُ ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم وخوضكم في القدر، ومقالة من يقول منكم بالجبر ومن يقول بالتفويض، وتفرقكم في ذلك وتقاطعكم وما ظهر من العداوة بينكم، ثمّ سألتموني عنه وبيانه لكم وفهمت ذلك كلَّه.
اعلموا رحمكم الله أنّا نظرنا في الآثار وكثرة ما جاءت به الأخبار فوجدناها عند جميع من ينتحل الاسلام ممَّن يعقل عن الله جلّ وعزّ لا تخلو من معنيين: إمّا حقٌّ فيتبع وإمّا باطل فيجتنب ... وإنّما قدمنا هذا الشرح والبيان دليلاً على ما أردنا، وقوّةً لما نحن مبيّنوه من أمر الجبر والتفويض والمنزلة بين المنزلتين، وبالله العون والقوّة وعليه نتوكّل في جميع أمورنا. فإنّا نبدأ من ذلك ... الخبر» [تحف العقول ص458]، هذا.
وللإمام الهادي (عليه السلام) مكاتباتٌ أخرى في مسائل عقائديّة متعدّدة منها مثلاً ما يرتبط بامتناع رؤية الله تعالى، وأسباب اختلاف معاجز الأنبياء وغير ذلك، وقد جمعها الفيض الكاشانيُّ في الجزء الثاني من كتابه "معادن الحكمة في مكاتيب الأئمّة (ع) فيمكنكم الوقوف عليها.
المحور الرابع: المحاربة الفكريّة والعقديّة للغُلوّ والغُلاة:
لعلّ من أخطر حركات ذلك العصر حركة الغلوّ والغلاة التي أنشأها بعض الملاحدة في أوساط الشيعة، حيث تنامت هذه الظاهرة بشكلٍ لم يسبق له نظير في تأريخ الأمّة، وكانوا يستغلّون اسم الإمام في الدعوة إلى عقائدهم ويتظاهرون بأنّهم من شيعته، بل كانوا يزعمون أنّهم من خواصّه وثُقاته، فادّعوا أنّ الإمام هو الربّ والإله، وأنّ بعضهم نبيٌّ مُرسَلٌ من قِبَله، ومن أبرز هؤلاء: محمّد بن نصير الفهريّ، وعلي بن حسكة القمّيّ، والقاسم اليقطينيّ، والحسن بن محمّد بن بابا القمّي، فنادوا في الناس أنّ الإمام أسقط عنهم الفرائض، كالصلاة والصوم والحجّ وغيرها، وأباحوا نكاح المحارم، وأجازوا الفواحش، فصدّق بهم بعض العوامّ الجهّال واتبعوهم.
وقد عانى الإمام (عليه السلام) كثيراً من هذه الحركة والأشخاص المسؤولين عنها، فتبرّأ منهم ولعنهم، وكتب عدّة كتبٍ إلى أعيان أصحابه وشيعته يحذّرهم منهم ويأمرهم بوجوب لعنهم والبراءة منهم أمام الملأ علناً، وأباح قتل زعمائهم مثل فارس بن حاتم حيث ضمن لمن قتله الجنّة!، فأخزاهم الله تعالى وفضحهم وأطفأ نائرتهم بفضل تصدّيه (عليه السلام) لهم.
وحيث عرفت فيما سبق أنّ سلطة العباسيّين كانت تتبنّى تلقيح الفتن والأهواء؛ لأنّ إثارتها بين المسلمين تشغلهم عن التفكير بالسلطة والقضايا السياسيّة وتضعف وحدة صفّهم، وقد كانت تعلم بظهور هذه الحركة ولم تفعل شيئاً يُذكر؛ لذا فلا يُستبعد أنْ تكون للسلطة يدٌ في ظهور الغلو؛ لغرض المساس بمنزلة الإمام (عليه السلام) ومكانته العلميّة والروحيّة في الأمّة؛ ولأجل إسقاط مذهب التشيّع من الاعتبار، ولاسيّما وأنّهم قد حاولوا ذلك عدّة مراتٍ من قبل.
هذا. وقد عقد العلّامة الشيخ باقر شريف القرشيُّ (قدّس سرّه) فصلاً كاملاً ناقش فيه هذا الموضوع باستفاضةٍ في كتابه (حياة الإمام عليّ الهادي (ع) دراسة وتحليل)، فلتطلب التفاصيل من هناك.
المحور الخامس: صيانة الشعائر الحسينيّة، وخصوصاً زيارة الحسين (عليه السلام):
ففي الوقت الذي كانت تمارس فيه سلطة المتوكّل أبشع أنواع الاضطهاد والتنكيل بأتباع التشيّع؛ لإصرارهم على زيارة الحسين (عليه السلام)، وتقوم بنبش القبر الشريف عدّة مراتٍ وتمنع من زيارته، نرى الإمام الهادي (عليه السلام) يوسّع نطاق التحدّي للسلطة!، ويحثّ شيعته على زيارة مختلف مراقد أهل البيت (عليهم السلام)، فصدرت عنه الزيارة الجامعة الكبيرة وهي من أهم وأعظم الزيارات؛ لما اشتملت عليه من مضامين عاليةٍ ومطالب معرفيّةٍ جليلةٍ [ينظر: من لا يحضره الفقيه ج2 ص609]، ثمّ أخذ يُعلّم شيعته كيفية زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) [ينظر: الكافي ج4 ص569، كامل الزيارات ص95]، وزيارة الكاظمين (عليهما السلام) [ينظر: الكافي ج4 ص578، كامل الزيارات ص501]، وزيارة الرضا (عليه السلام) [الوسائل ج14 ص569]، مضافاً إلى تعليمهم كيفيّة زيارة الحسين (عليه السلام) [ينظر: كامل الزيارات ص252]. بل قد مَرِض (عليه السلام) ذات مرّة فطلب بشدّة من بعض خواصّه إيفاد شخصٍ موثوقٍ به لزيارة الحائر الحسينيِّ نيابةً عنه ويدعو له هناك، فتساءل علي بن بلال – وكان من خواصّ شيعته – عن الموجب إلى ذلك؛ فإنّه إمامٌ والحسين إمامٌ وحرمتهما على الله واحدة؟ فأجاب (عليه السلام): «إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان يطوف بالبيت ويُقبّل الحجر وحرمة النبيّ والمؤمن أعظم من حرمة البيت، وأَمرَه الله عزّ وجلّ أنْ يقف بعرفة وإنّما هي مواطن يحبّ اللهُ أن يُذكر فيها، فأنا أحبُّ أن يُدعى الله لي حيث يحبّ الله أن يُدعى فيها» [ينظر: الكافي ج4 ص567]، وهكذا حفظ الإمام الهادي (عليه السلام) شعيرة الزيارة وفشلت على يده محاولات بني العباس كلّها.
المحور السادس: التمهيد العمليّ المباشر لغيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف):
من الواضح أنّ فكرة المصلح العالميّ وغيبته وانتظاره من العقائد الثابتة التي نصّت عليه جميع ديانات السماء، وقد ثقّف لتقبُلها القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة، وحفلت كتب المذاهب الإسلاميّة كافّة بمئات الروايات عنها، وصارت أمراً محتوماً عند جميع المسلمين، إلّا أنّ هنالك بوناً شاسعاً بين أن تُهضم الفكرة نظرياً، وبين أن تُعاش كواقعٍ عمليّ، فكان من الصعوبة بمكان أن يعيش الشيعة غيبة إمامهم بشكلٍ مفاجئ؛ لذا كان لابدّ من التمهيد العمليّ التدريجيّ والمباشر لذلك، وهذا ما قام به الإمام الهادي (عليه السلام) باعتماده نظام السفارة وإيجاد سفراء ثقاتٍ اشتهروا بين المسلمين بالورع والتقوى والصلاح ليكونوا وسائط بينه وبين شيعته، وثقّف شيعته على أنْ تقوم كلّ مدينة بانتخاب بعض رجالها الثقات فيحملون رسائل أهلها ومسائلهم إليه (عليه السلام) ليغنيهم ذلك عن ضرورة اللقاء به، فشاع اتخاذ أسلوب المكاتبات (أي تبادل الرسائل) بينه وبين الشيعة في مختلف البقاع والأمصار، وكذلك عمل على نشر الفقهاء في بلاد المسلمين العريضة وحثّ على الأخذ عنهم والرجوع إليهم، وكان يقول لشيعته: «لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم [قائمنا] من العلماء الداعين إليه، والدالّين عليه، والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومَرَدَتِه، ومن فخاخ النواصب لما بقي أحدٌ إلّا ارتدّ عن دين الله، ولكنّهم الذين يمسكون أَزِمَّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يُمسك صاحب السفينة سكّانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عزّ وجلّ» [تفسير الإمام العسكريّ ص344].
هذا ما وفّقنا الله تعالى لتحريره في المقام، ختاماً رزقنا الله وإياكم زيارة الإمام (عليه السلام) في الدنيا وشفاعته في الآخرة، والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق