هل منع النبيّ (ص) ابنته فاطمة عن رضاعة الإمام الحسن (ع) فخالفته في ذلك؟
(السلام عليكم ، يُروى في بحار الأنوار ما مضمونه: أنّ النبيّ محمداً (صلّى الله عليه وآله) أَمرَ ابنته الطاهرة الزكيّة سيّدة نساء العالمين عندما حملت بابنها الحسن أن لا تُرضعه إذا وضعته حتّى يعود اليها من بعض وجوهه، فمضت ثلاثة أيام ولم يعُد اليها فأدركتها رِقَّةُ الأُمَّهاتِ فأرضعته... الخبر. والسؤال: ما صحّة هذه الرواية؟ وكيف نحمل إرضاع السيدة الطاهرة ولدها الحسن(عليهما السلام) قبل عودة رسول الله (صلّى الله عليه واله) مع نهيه إيّاها عن ذلك حتّى يرجِع؟).
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ السائل الكريم، إنّ الإجابة عن سؤالكم تستدعي ذكر الرواية من مصدرها الأساس والتعليق عليها بما تيسّر، فنقول:
إنّ الرواية المذكورة نقلها ابن شهر آشوب بالنصّ التالي: « بَرّة ابنة أُميّة الخُزاعي قالت: لمّا حملت فاطمة بالحسن خرج النبّي في بعض وجوهه فقال لها: إنّك ستلدين غلاماً قد هنأني به جبرئيل فلا ترضعيه حتّى أصير إليك ، قالت: فدخلت على فاطمة حين ولدت الحسن وله ثلاث ما أرضعته ، فقلت لها: أعطنيه حتّى أرضعه ، فقالت: كلّا ، ثمّ أدركتها رِقَّة الأمّهات فأرضعته ، فلمّا جاء النبيّ قال لها: ماذا صنعت..؟، قالت: أدركني عليه رِقَّة الأمّهات فأَرضعْتُه، فقال: أَبَى الله عزّ وجلّ إلّا ما أراد ، فلمّا حملت بالحسين قال لها: يا فاطمة إنّك ستلدين غلاماً قد هنأني به جبرئيل فلا ترضعيه حتّى أجئ إليك ولو أقمت شهراً، قالت: أفعلُ ذلك ، وخرج رسول الله في بعض وجوهه، فولدت فاطمةُ الحسينَ (عليه السلام)، فما أرضعته حتّى جاء رسول الله فقال لها: ماذا صنعت..؟ قالت: ما أرضعته، فأخذه فجعل لسانه في فمه ، فجعل الحسين يمصّ حتّى قال النبي (صلّى الله عليه وآله): إيهاً حسين إيهاً حسين، ثمّ قال: أَبَى الله إلّا ما يريد، هي فيك وفي ولدك، يعني الإمامة » [المناقب ج3 ص209].
ويلاحظ عليه: أنّ الرّواية غير معتبرة؛ لضعف سندها من جهتين: إحداهما: هي الإرسال، حيث لم يَذكر فيها ابن شهر آشوب سلسلة السند. والأخرى: أن برّة ابنة أميّة الخزاعيّ لم يرد لها ذكر عند الشيعة والسنّة على الإطلاق، فهذه الشخصيّة مجهولة تماماً عند المسلمين.
ثـمّ لو قطعنا النظر عن ضعف السند، فإنّ الرواية غير تامّة الدلالة أيضاً، من جهتين:
أمّا الجهة الأولى: فهي دلالة قوله (صلّى الله عليه وآله): « أَبَى الله عزّ وجلّ إلّا ما أراد » على سبق علمه بأنّ الله تعالى يريد الإمامة في ذريّة الحسين لا الحسن(عليهما السلام). ويشهد لهذا السبق ما ثبت بالضرورة من وقوع حادثة المعراج في مكّة وقبل الهجرة بلا خلاف يُعتَدُّ به ، فقد جاء في بعض مصادر العامّة أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قد اطّلع خلال معراجه على أسماء الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) واحداً واحداً ، فعلم عند ذلك بأنّ الإمامة ستكون حصراً في ولد الحسين (عليه السلام) [يلاحظ نصّ الحديث في كتاب مقتل الحسين (ع) ج1 ص146، فرائد السمطين ج2 ص319 ، الحديث571 ، ينابيع المودّة ج3 ص380]، ومع ملاحظة أنّ ولادة الإمام الحسن(عليه السلام) قد وقعت في المدينة المنوّرة منتصف عند السنة الثالثة للهجرة، فإنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لو كان يريد الإمامة في ذريّة الحسن (عليه السلام) حالة علمه بمراد الله تعالى لكان ذلك اعتراضاً منه على الإرادة الإلهية والوقوف لها بالضدّ - وحاشا سيد الأنبياء والمرسلين منه ونبرأ إلى الله ممّن يعتقد فيه ذلك -، فإنّ الوقوف بوجه إرادته تعالى كفر خرج به إبليس عن طاعة ربّه عزّ وجلّ.
هذا ، فضلاً عن استلزام الاعتراض من أساسه لِلَّغَوِيَّة؛ لأنّ الإمامة من شؤون إرادة الله التكوينيّة التي لا حيلة للمخلوق إزاءها، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): « أوحى الله عزّ وجلّ إلى داود (عليه السلام): يا داود تُريد وأُريد..، ولا يكون إلّا ما أُريد، فإن أسلمتَ لما أُريد أعطيتُكَ ما تُريد، وإن لم تُسلمْ لما أُريد أتعبتُكَ فيما تُريد، ثمّ لا يكون إلّا ما أُريد..!.»[توحيد الصدوق ص337]، وعلى ضوء جميع ذلك لا يمكن قبول الرواية.
وأمّا الجهة الثانية: فلما ثبت في محلّه من علم الأصول من أنّ النهي على نحوين، لكلّ نحو منهما خصائصه وقرائنه الدالّة عليه والتي يعرفها ذوو الاختصاص:
أحدهما: النهي المولويّ، وهو إمّـا تحريميّ أو تنزيهيّ:
فالتحريميّ: هو الذي يكون مفاده الحرمة والمنع الإلزاميّ عن ارتكاب متعلّق النهيّ، كالنهي عن الغِيبة في قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات:12]، وميزة هذا النهي أنَّ الناهي ينطلق فيه من موقع المولويَّة والسلطنة متّخذاً لنفسه موقفَ مَن يجب أن يُطاع في أمره ونهيه، بحيث تترتب العقوبة على مخالفته في ما نهى عنه.
والتنزيهيّ: هو الذي يكون تعبيراً عن وجود منقصة وحزازة في متعلَّقه، فيكون متعلَّقُه بذلك مكروهاً. والتعبير عنه بالتنزيهي إشارة إلى دلالته على تعلُّق إرادة الشارع بتنزُّه وترفّع المكلَّف عن ارتكاب المنهيّ عنه، وذلك كالنهي عن الصلاة في الحمّام. ويمتاز هذا النحو من النهي بعدم ترتّب عقوبة على ترك طاعته كما هو واضح من المثال.
والآخر: النهي الإرشاديّ، وهو النهي المحفوف بقرينةٍ دالّة على كون الناهي ناصحاً ومشفقاً، ويكون هذا النهي منه منبّهاً ومرشداً إلى الحكم العقلي، أو الحكم الشرعيّ الوضعيّ. وبعبارة أخرى فإنّ الناهي هنا لا يتّخذ لنفسه موقف المولى الواجبة طاعته، كما لا مبغوضيّة في نفسه للفعل المنهي عنه، وإنّما يقف موقف الناصح الحريص على سعادة المخاطب أو من يرتبط به، ويُشفق عليه من الوقوع في الشقاء المترتّب على فعله المنهي عنه؛ ولذا ففي النهي الإرشادي يُترك اختيار إتيان المنهيّ عنه وعدمه لشخص المخاطب بالنهي. ومثال ذلك - عرفاً - نهي الطبيب للمريض – كالمرأة الحامل مثلاً - عن طعام معيّن، فإنّها لو خالفته لن يعاقبها الطبيب، كما أنّ الطبيب لا يبغض ذلك الطعام الذي نهاها عنه، وإنّما المخالفة توجب ترتّب الضرر – أي الأثر الوضعيّ - على شخصها ، أو على جنينها.
فإذا عرفت ذلك فإنّ النهي والوارد في الرواية محمول على هذا النحو الثاني من أنحاء النهي، أعني على النهي الإرشاديّ، وذلك لعدّة قرائن من أهمّها:
1ـ العصمة المانعة للزهراء (عليها السلام) من ارتكاب ما هو محرّم، أو مبغوض لله ورسوله (صلّى الله عليه وآله)، لا سيّما وأنّنا نتكلّم عن الصدّيقة الطاهرة وسيدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين، والتي «يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها» [الإصابة ج8 ص265].
2ـ متعلّق النهي ، وهو الرضاعة ، فإنّها ليست من العبادات، ولا من المعاملات، وإنّما هي سلوك اجتماعيّ فطري مباح تقوم به المرأة تجاه رضيعها، كما أنّ شرب الماء وأكل الطعام سلوك فطري يقوم به الإنسان تجاه نفسه، وحينئذ فمخالفة النهي الوراد في الرواية هي تماماً مثل مخالفة نهي الطبيب للمريض، أو مخالفة النهي الشرعي في مثال شرب الماء وقوفاً؛ حيث لا تستلزم عقوبة، ولا قلّة للثواب، وإنّما يترتب عليها أثر وضعي هو – بحسب الرواية - خروج الإمامة من ذريّة الحسن (عليه السلام)، وصيرورتها في ذريّة الحسين (عليه السلام).
والخلاصة: اتضحّ من مجموع ما تقدّم كون الرواية ساقطة من الاعتبار سنداً ودلالة، ولو قطعنا النظر عن ذلك كلّه وقبلناها فإنّها لا تدلّ على وقوع مخالفة شرعيّة من مولاتنا الزهراء (عليه السلام ويجلُّ مقامها المقدّس)؛ وذلك لأنّ النهي فيها - كما عرفت - نهي إرشاديّ، وعلى مثله يُحملُ ما ظاهره المخالفة من قبل أحد المعصومين (عليهم السلام)، هذا تمام الكلام.. والحمد لله ربِّ العالمين.
اترك تعليق