التسمية بكلاب أهل البيت (ع)
السؤال: بتصفحي لتراجم علماء بعض الشيعة ورد أمامي من أسماء علمائهم: (كلب علي، كلب رقية، كلب باقر، كلب الحسين، كلب المهدي)، أليس هذا سقوطاً وعدم احترامٍ للذات الإنسانيَّة التي كرَّمها الله وأعزَّها.. وهل يقبل الأئمَّة بكلابٍ من البشر لهم؟
الجواب:
يتضمَّن هذا الإشكال سؤالين: الأوَّل، ما سبب إطلاق بعض علماء الشيعة لهذه التسمية؟ والثاني، هل يُعدّ ذلك منافياً لكرامة الإنسان؟
نقول في البداية: لا ريب أنَّ الاسم، والعنوان، والدلالة، هي علاماتٌ تكشف عن هويَّة وماهيَّة كلّ شيء، فالاسم هو اللفظ الذي، بمجرد سماعه، ينتقل ذهن الإنسان تلقائيّاً إلى معناه وصاحبه، ولكلّ موجودٍ — من نباتٍ أو حيوانٍ أو جمادٍ — اسمٌ ضروريٌّ يُعبِّر عنه ويُميِّزه عن غيره، ويُعيِّن على معرفته وتحديده.
وبما أنَّ الإنسان هو أشرف المخلوقات، ولكلّ فردٍ منه شخصيَّةٌ مستقلَّةٌ، فمن اللائق أن يُختار له أجمل الأسماء وأرفعها قيمةً، اسمٌ يليق بكرامته الإنسانيَّة وشرفه الفطريّ.
وقد قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «من حقّ الولد على الوالد أن يُحسن اسمه» [من لا يحضره الفقيه ج4 ص372]، فحُسن الاسم ليس مجرَّد لفظ، بل هو انعكاسٌ للهويَّة، وامتدادٌ للكرامة، وبدايةٌ للتعريف بالإنسان في مجتمعه.
لم يكن التسمِّي بغير الأسماء الحسنة مورد قبولٍ عند أهل البيت (عليهم السلام)، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) «إنَّ الله عزَّ وجلَّ فوَّض إلى المؤمن أموره كلَّها، ولم يُفوِّض إليه أن يُذلَّ نفسه، ألم تر إلى قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}» [الكافي ج5 ص63]، فالمؤمن مأمورٌ بحفظ كرامته وعدم إذلال نفسه حتَّى في الاسم الذي يحمله.
ومع ذلك، فإنَّ الإسلام دينٌ عالميّ لا يحصر نفسه في أعراف مجتمعٍٍ واحدٍ، بل جاء مصلحاً ومهذِّباً للأعراف، ومروِّجاً للقيم الإنسانيَّة العليا، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [سورة الحجرات: 13]، ومن هنا قد يكون الاسم مقبولاً حسناً في عرف مجتمعٍ، بينما يكون مستهجناً في عرف مجتمعٍٍ آخر، وهذا لا يضرّ ولا يُخلّ بالدين، ما دام لا يتعارض مع جوهر العقيدة والكرامة الإنسانيَّة.
من بين تلك المجتمعات، شيعةُ الهند الذين عُرفوا بحبِّهم الشديد لأهل البيت (عليهم السلام)، وبحكم أعرافهم الخاصَّة، اختار بعض علمائهم مثل الأسماء التي مُشير إليها في السؤال، وهذه الأسماء، وإن كانت قد تُستنكر في أعراف مجتمعاتٍ أخرى، إلّا أنَّها عندهم تعبيرٌ عن غاية الخضوع والمحبَّة، ولم تكن تُعتبر مذلَّةً أو منقصةً، بل هي رمزٌ للولاء.
وهذا شبيهٌ بما هو مألوفٌ عندنا من أسماء مثل: عبد الحسين، عبد الزهراء، التي يُراها البعض حسنة ومحبَّبة، بينما قد يُستشكل عليها آخرون، فبالنسبة إلى الشقِّ الأوَّل من الإشكال، يتبيَّن أنَّ هذه الأسماء تنتمي إلى عُرفٍ خاصٍ داخل الطيف الشيعيّ، وتحديداً لدى شيعة الهند، فاختيارهم لهذه الأسماء لم يكن خارجاً عن سياقهم الثقافيّ والاجتماعيّ ولم يُنظر إليها على أنَّها قبيحة أو مستهجنة، بل جاء منسجماً مع منظومتهم الرمزيَّة والدينيَّة.
ومن هنا يتبيَّن الجواب عن الشقّ الثاني من الإشكال، وهو: هل هذه الأسماء تُنافي كرامة الإنسان وتُسقط منزلته؟
فنقول: هذا الإشكال إنَّما يَرِد إذا كان المقصود هو المعنى الحقيقيّ لتلك الألفاظ، أو إذا كان الاسم مخالفاً حتَّى لعُرف البيئة التي استعملته. أمَّا إذا نُقلت الألفاظ عن معناها الأصليّ إلى معنىً آخر ينسجم مع عُرف القوم، فلا يُعدّ ذلك مذلَّةً ولا انتقاصاً من كرامة الإنسان.
ونحن نجزم أنَّ هذه الأسماء في أعراف أصحابها كانت حسنةً ومقبولةً أوَّلاً، ولم يكن القصد منها المعنى الحرفيّ المباشر ثانياً، بل إنَّ الاستعمال فيها انتقل من الدلالة الحقيقيَّة إلى دلالةٍ أخرى مجازيَّةٍ ورمزيَّةٍ تُعبِّر عن غاية المحبَّة والولاء؛ لذلك لم يتبادر إلى أذهانهم المعنى الحقيقيّ أصلاً، وإنَّما صار اللفظ محمولاً على معناه المنقول في عرفهم، وكأنَّ اللفظ قد اكتسب أكثر من معنىً حقيقيّ: المعنى الأوَّل هو معناه الأصليّ عند أهل اللغة الأولى، والمعنى الثاني هو ما استقرّ عليه العرف الجديد عند الجماعة التي تبنَّت هذا الاستعمال.
فصار لكلّ بيئةٍ لغويَّة أو اجتماعيَّة حقُّها في اعتبار ذلك المعنى معنىً حقيقيّاً متداولاً بينهم، ومثل هذا الأمر كثيرٌ في علم اللسانيَّات، حيث تنتقل الألفاظ من دلالتها الأولى إلى دلالاتٍ أخرى حتَّى تصبح تلك الدلالة الجديدة بمثابة معنىً أصيلٍ عند أهلها.
وباصطلاح علم الأصول: هذا يُسمى النقل من المعنى الحقيقيّ إلى معنىً آخر، وهو ما يرفع أيَّ إشكالٍ في باب الهتك أو المساس بالكرامة الإنسانيَّة.
ومن هنا يتَّضح أنَّ صاحب الإشكال قد وقع ـ عن علمٍ أو جهلٍ ـ في مغالطةٍ ناشئةٍ عن الخلط بين الحقيقة والمجاز؛ ذلك أنَّ الأسماء من قبيل «كلب عليّ» أو «كلب الحسين» لم تكن تُستعمل للدلالة على حقيقتها الحيوانيَّة، وإنَّما جرى إطلاقها على سبيل المبالغة في إظهار التواضع والمحبَّة، كما هو مألوفٌ في لغة العشق والحبّ حيث يُقال: «أنا عبدك» أو «أنا تراب قدميك»، من غير أن يُراد بذلك المعنى الحرفيّ.
وعليه، فإنَّ حمل هذه الألفاظ على ظاهرها يُفضي إلى فهمٍ مغلوط، لأنَّ المتكلِّم لم يقصد سوى المعنى الثانويّ الكنائي، هذا أوَّلاً، وأنَّ هذا هو متداولٌ في عرفهم ولم يكن قبيحاً عندهم ثانياً، مثلاً: إذا قال شاعرٌ لامرأته «أنا عبدكِ»، ثمّ جاء شخصٌ ففسَّر كلامه بأنَّ الشاعر قد باع حريته وأصبح عبداً ذليلاً، فإنَّ هذا التفسير يُعدّ خلطاً بيِّناً بين المجاز والحقيقة، وهو عين المغالطة التي وقع فيها من استشكل على هذه الأسماء.
اترك تعليق