وُجُودُ اللهِ في كلِّ مَكَانٍ كيفَ نَتصوَّرُه؟!!
حُسَين الصَّافِي/: السَّلامُ علَيكم.. وُفِّقْتُم وجَزاكُم اللهُ خَيراً على مَجهُودِكم الطَّيِّبِ والَّذي له دَورٌ كَبِيرٌ في انْتِقَاءِ الحَقِيقَةِ وتَوطِيدِ العِلَاقةِ بأهلِ البَيتِ (عليهم السلام). اللهُ مَوجُودٌ في كلِّ مَكَانٍ! هذِهِ العِبارَةُ كَثِيرٌ ما تَتدَاولُ في مُجتَمَعِنا. ولكنْ هل هذِهِ العِبارَةُ صَحِيحةٌ؟ منَ الظَّاهرِ نَجِدُ أنَّ "في" للتَّضمِينِ وحَاشَا لِلهِ أنْ يُضمَّنَ في مَكَانٍ، فلو ضُمِّن في مَكَانٍ خَلا منْه مَكَانٌ آخرُ، إذن أصبَحَ مَحدُوداً. سُؤالٌ: نَجِدُ في الأدعِيَةِ الوَارِدةِ عن إمامِنَا وسيِّدِنَا زَينِ العَابدِينَ صَلوَاتُ ربِّي عليْه: أناجِيكَ يا مَوجُوداً في كلِّ مَكَانٍ. فنَجِدُ أنَّ إمامَنَا اسْتخدَمَ حَرْفَ "في"، فهَلَّا وَضَّحتُم لنا هذِهِ المسْأَلةَ؟ وجَزاكُم اللهُ خَيراً.
الأخُ حُسَين المحتَرمُ.. السَّلامُ علَيكم ورَحمةُ اللهِ وبركَاتُه.
التَّعبِيرُ بأنَّ اللهَ مَوجُودٌ في كلِّ مَكَانٍ هو تَعبِيرٌ صَحِيحٌ ولكنْ ليس بنَحوِ الظَّرفِ والمظْرُوفيَّةِ الَّذي تُفِيدُه كَلِمةُ (في)؛ لعَدمِ السِّنْخيَّةِ بينَ الخَالِقِ ومَخلُوقَاتِه.. وهذا المَعنَى قد يَحتَاجُ إلى شَيءٍ منَ البَيَانِ والتَّوضِيحِ، فنَقُولُ:
تَارةً يَكُونُ الشَّيئَانُ مِن سِنخٍ وَاحدٍ - أي مِن طَبِيعَةٍ وَاحدَةٍ - كأنْ يَكُونَ كِلَاهُما مِن عَالَمِ الإمكَانِ والخَلقِ والصُّنعِ ويَمتَازَانِ بالمادِّيةِ والمحْدُوديَّةِ، فهُنا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ أحدُهُما ظَرفاً للآخَرِ، فتَقُولُ: الرَّجُلُ في الدَّارِ، أو المَاءُ في الإنَاءِ وهكَذا، فهُنا هذِهِ الأشيَاءُ (الرَّجُلُ، والدَّارُ، والمَاءُ، والإنَاءُ) كُلُّها مِن عَالَمٍ وَاحدٍ هو عَالَمُ الإمكَانِ مِن حيثُ الخَلقُ أو الصُّنعُ، وتَمتَازُ بمَادِّيتِها ومَحدُوديَّتِها - أي لها حُدُودٌ وأبعَادٌ مُعيَّنةٌ - فيَصُحُّ في حَقِّها أنْ تَكُونَ ظَرفاً بَعضَها لبَعْضٍ، أمَّا إذا كانَ الشَّيئَانُ ليسَا مِن سِنخٍ وَاحدٍ، بأنْ يَكُونَ أحدُهُما مِن عَالَمِ المادَّةِ والآخَرُ مِن عَالَمِ المجرَّدَاتِ - كالملَائِكةِ مثلاً -، فهُنا لا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ أحدُهُما ظَرفاً للآخَرِ، بحَيثُ يُحِيطُ به ويَحتوِيهِ، كمَا هو الحَالُ في إحاطَةِ البَيتِ بالرَّجُلِ أو الإناءِ بالمَاءِ في المثَالَينِ المتَقدِّمَينِ، وذلكَ لأنَّ المادِّيَّ لا يُحِيطُ بالمُجرَّدِ ولا يَحتوِيهِ؛ لاخْتِلَافِ السِّنخِيَّةِ بَينهُما، وكذلِكَ وُجُودُ اللهِ سُبحانَه وتعَالى، الَّذي هو خَالِقُ المادِّيَاتِ والمجرَّدَاتِ معاً لا يُمكِنُ أنْ يَحتوِيَه مَكَانٌ مِن مَخلُوقَاتِه أو يُحِيطُ به شَيءٌ مِن عَالَمِ الإمكَانِ.
تَقُولُ: فكيفَ وُجُودُه سُبحانَه إذنْ في هذا العَالَمِ؟!!
أقُولُ: خُذْ هذا العِلمَ منَ العِترَةِ الطَّاهِرةِ، ولنْ تَجِدَ أحداً يُملِي على المُسلِمِينَ عُلُومَ التَّوحِيدِ مِثلُ العِترَةِ الطَّاهِرةِ التي أمرَنَا النَّبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتَّمسُّكِ بها مِن بَعدِه وأخذِ عُلُومِ الدِّينِ عنْها... فانْظُرْ إلى قَولِ أميرِ المُؤمِنينَ عليٍّ (عليه السلام) ماذَا يَقُولُ في وُجُودِ اللهِ سُبحانَه في هذا العَالَمِ: ((هو في الأشيَاءِ على غَيرِ مُمَازجَةٍ، خَارجٌ عنْها على غَيرِ مُباينَةٍ، فَوقَ كلِّ شَيءٍ فلا يُقَالُ: شَيءٌ فَوقُه، وأمامَ كلِّ شَيءٍ فلا يُقَالُ: له أمَامٌ، دَاخِلٌ في الأشيَاءِ لا كشَيءٍ في شَيءٍ دَاخِلٍ، وخَارِجٌ عنْها لا كشَيءٍ مِن شَيءٍ خَارِجٍ)).
ويَقُولُ أيضاً: ((فلم يُحلَّلْ فيْها، فيُقَالُ: هو فيْها كَائِنٌ، ولم ينَأْ عنْها، فيُقَالُ: هو منْها بَائِنٌ)). انتَهى [كِتَابُ التَّوحِيدِ للشَّيخِ الصَّدُوقِ: 306، 42].
فسُبحانَ مَن هو هكَذا ولا هكَذا غَيرُه.
فاللهُ سُبحانَه لا يُوصَفُ بالإتصَالِ أو الإنفصَالِ عن هذا العَالَمِ، وذلكَ لأنَّ الإتصَالَ والإنفصَالَ هُما مِن أوصَافِ الأجسَامِ والمُمكِنَاتِ، كدُخُولِ الجُزءِ في الكُلِّ، أو دُخُولِ الحَالِ في المحَلِّ، أو دُخُولِ الجِسمِ في المكَانِ، فالِجسمُ إمَّا أنْ يَكُونَ مُتَّصِلاً بالآخَرِ أو مُنفَصِلاً مُتنَائِياً عنه، والدُّخُولُ بهذا المَعنَى مِن تَوابِعِ الإمكَانِ والإفتِقَارِ، واللهُ تعَالى وَاجِبُ الوُجُودِ لذَاتِه لا يَفتقِرُ إلى شَيءٍ آخرَ مُطلَقاً حتى يَحِلَّ فيه أو يَحتَاجَ للبَينُونَةِ حتى يَكُونَ مُتميِّزاً عنْه، فهَذا كُلُّه خِلَافُ قَولِه تعَالى مِن نَفيِ المثْليَّةِ والإحتِيَاجِ كما أخبَرنَا هو سُبحانَه عن ذَاتِه المقَدَّسةِ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشُّورَى: 11، وقَالَ جلَّ اسْمُهُ: (فإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) آلُ عِمرانَ: 97... وهذا المَعنَى هو الَّذي أشَارتْ إليْه الكَلِماتُ المبَاركَةُ المتَقدِّمةُ لأميرِ المُؤمِنينَ (عليه السلام).
ودُمتُم سَالِمينَ.
اترك تعليق