هل يعتقد المسلمون بعقيدة الفداء؟

السؤال: كيف يُمكن للمسلم أنْ ينفي مفهوم الفداء، وهو يؤمن بشبيه عيسى الذي افتداه من الموت ومات بدلاً عنه؟ ما ذنب شبيه المسيح ليُضحِّي بحياته من أجله؟ ألا يستطيع الله أنْ يحمي عيسى بدلاً من أنْ يُقتل أحدٌ بدلاً منه؟ أين مبدأ: ﴿لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ في هذا السياق؟

: الشيخ نهاد الفياض

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

يُشير السائلُ إلى ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً﴾ [النساء: 157]، باعتبار أنَّ الذي وقع عليه (الشبَهُ) هو من قام بفداء عيسى (ع)، وكذلك إلى ما ورد في بعض الروايات المفسِّرة لهذه الآية، وعلى هذا الأساس نكون قد شابهنا النصارى في عقيدة الفداء، ولدفع الوهم الذي وقع فيه السائل نذكر أمرين اثنين:

الأمر الأوَّل: إنَّ عقيدة الفداء عند النصارى، تعني (أنَّ موت المسيح كان كفَّارةً لخطيئة آدم التي انتقلت إلى ابنائه بالوراثة. وقد ذكروا لها بعض النصوص كأدلَّة، فمنها: «أنا هو الراعي الصالح، الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف»، ومنها: «لأنَّه هكذا أحبَّ الله العالم حتَّى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كلُّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديَّة»، ومنها: «إنَّ ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدَم، بل ليَخدِم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين»، ومما ورد في كلامهم في العهد الجديد: «بهذا أظهرت المحبَّة أنَّ ذاك وضع نفسه لأجلنا»، وفيه: «مات من أجل خطايانا») [يُنظر: دراسات في الأديان اليهوديَّة والنصرانيَّة ص320، للكاتب سعود بن عبد العزيز الخلف].

ومنه يتَّضح أنَّ عقيدة (الفداء) تتقوَّم بركنين أساسيين، الأوَّل: أنَّ نبيَّ الله عيسى (ع) قد فداهم بكامل إرادته من أجل حبِّه لهم. والآخر: أنَّ السبب في الفداء المذكور كان كفَّارةً عن الذنوب والخطايا التي اقترفوها.

الأمر الآخر: اختلفت الأخبار ـ عندنا وعند العامَّة ـ في تحديد الشخص الذي وقع عليه الشبه على طائفتين:

الطائفة الأولى: أنَّ المقتول من أعداء عيسى (ع)، وبناءً عليه، لا يتحقق أي واحدٍ من ركني الفداء، إذ عدوُّهُ لم يُقتل بإرادته، كما أنَّه لم يكن قتله كفَّارةً عن الذنوب، وإليك بعضاً منه.

1ـ جاء في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريِّ (ع) ما هذا لفظه: (قال الإمام (ع): قال الله (عزَّ وجلَّ) وهو يخاطب هؤلاء اليهود الذين أظهر محمَّد (ص) المعجزات لهم...إلى قوله: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾، وهو جبرئيل (ع)، وذلك حين رفعه من روزنة بيته إلى السماء، وألقى شبهه على من رام قتله، فقُتل بدلاً منه) [تفسير العسكريّ (ع) ص ٣٧١].

2ـ وجاء في مجمع البيان عن ابن عبَّاس أنه قال: (لما مسخ الله تعالى الذين سبُّوا عيسى وأمَّه بدعائه، بلغ ذلك يهوذا ـ وهو رأس اليهود ـ فخاف أنْ يدعو عليه، فجمع اليهود، فاتفقوا على قتله، فبعث الله تعالى جبرائيل يمنعه منهم، ويعينه عليهم. وذلك معنى قوله: ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾، فاجتمع اليهود حول عيسى، فجعلوا يسألونه فيقول لهم: يا معشر اليهود! إنَّ الله تعالى يبغضكم، فساروا إليه ليقتلوه، فأدخله جبرائيل في خوخة البيت الداخل، لها روزنة في سقفها، فرفعه جبرائيل إلى السماء، فبعث يهوذا ـ رأس اليهود ـ رجلاً من أصحابه اسمه طيطانوس، ليدخل عليه الخوخة فيقتله، فدخل فلم يره، فأبطأ عليهم، فظنُّوا أنه يقاتله في الخوخة، فألقى الله عليه شبه عيسى، فلمَّا خرج على أصحابه، قتلوه وصلبوه، وقيل: ألقى عليه شبه وجه عيسى، ولم يلقِ عليه شبه جسده، فقال بعض القوم: إنَّ الوجه وجه عيسى، والجسد جسد طيطانوس؟! وقال بعضهم: إنْ كان هذا طيطانوس فأين عيسى؟! وإنْ كان هذا عيسى، فأين طيطانوس؟! فاشتبه الأمر عليهم) [مجمع البيان ج3 ص ٢٣٢].

الطائفة الأخرى: أنَّ المقتول من حواري عيسى (ع)، وبناءً عليه، لا يتحقق الركن الثاني، وهو كون الفداء كفَّارةً عن الذنوب والخطايا، إليك بعضاً منه.

1ـ روى علي بن إبراهيم القمِّيّ (طاب ثراه) بسنده عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر (ع) قال: «إنَّ عيسى (ع) وعد أصحابه ليلة رفعه الله إليه، فاجتمعوا إليه عند المساء ـ وهم اثنا عشر رجلاً ـ فأدخلهم بيتاً، ثمَّ خرج عليهم من عينٍ في زاوية البيت، وهو ينقض رأسه من الماء، فقال: إنَّ الله أوحى إليَّ أنه رافعي إليه الساعة، ومطهِّري من اليهود، فأيُّكم يُلقى عليه شبحي فيقتل ويصلب، ويكون معي في درجتي؟ فقال شابٌّ منهم: أنا يا روح الله، قال: فأنت هو ذا. فقال لهم عيسى (ع): أما إنَّ منكم لمن يكفر بي قبل أنْ يصبح اثنتي عشرة كفرة، فقال له رجلٌ منهم: أنا هو يا نبيَّ الله؟ فقال عيسى: إنْ تحس بذلك في نفسك فلتكن هو، ثمَّ قال لهم عيسى (ع): أما أنكم ستفترقون بعدي على ثلاث فرق، فرقتين مفتريتين على الله في النار، وفرقة تتبع شمعون صادقة على الله في الجنة، ثمَّ رفع الله عيسى إليه من زاوية البيت، وهم ينظرون إليه. ثمَّ قال أبو جعفر (ع): إنَّ اليهود جاءت في طلب عيسى (ع) من ليلتهم فاخذوا الرجل الذي قال له عيسى (ع) إنَّ منكم لمن يكفر بي من قبل أنْ يصبح اثنتي عشرة كفرة، وأخذوا الشاب الذي أُلقي عليه شبح عيسى، فقتل وصلب» [تفسير القمِّيّ ج1 ص ١٠٣ ].

2ـ وما رواه ابن كثير بالإسناد عن ابن عبَّاس قال: (لما أراد الله أنْ يرفع عيسى إلى السماء، خرج على أصحابه ـ وفي البيت اثنا عشر رجلاً من الحواريين ـ يعني: فخرج عليهم من عين في البيت، ورأسه يقطر ماءً، فقال: إنَّ منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرَّة، بعد أنْ آمن بي. ثمَّ قال: أيُّكم يُلقى عليه شبهي، فيُقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ فقام شابٌّ من أحدثهم سناً، فقال له: اجلس. ثمَّ أعاد عليهم، فقام ذلك الشاب، فقال: اجلس. ثمَّ أعاد عليهم، فقام الشاب فقال: أنا. فقال: أنت هو ذاك. فأُلقي عليه شبه عيسى، ورُفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء. قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه، ثمَّ صلبوه...إلى أنْ قال: وهذا إسنادٌ صحيحٌ إلى ابن عبَّاس، ورواه النسائيُّ عن أبي كريب، عن أبي معاوية، بنحوه، وكذا ذكر غير واحدٍ من السلف أنَّه قال لهم: أيُّكم يلقى عليه شبهي فيُقتل مكاني، وهو رفيقي في الجنة) [تفسير ابن كثير ج2 ص449].

والنتيجة من كلِّ ما تقدَّم، أنَّ المسلمين ـ كافَّة ـ لا يعتقدون بعقيدة (الفداء) التي يعتقد بها النصارى بوجهٍ من الوجوه، كما بيَّناه آنفاً.. والحمد لله ربِّ العالمين.