روايات ولادة الإمام المهدي (ع)

السؤال: هل صحيحٌ ما يُقال من أنَّ روايات ولادة الإمام الحجَّة (عليه السلام) رواياتٌ ضعيفةٌ وغير صحيحة؟

: الشيخ نهاد الفياض

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

بداية لابدَّ أنْ يُعلم بأنَّ الأدلَّة الدالَّة على ولادة الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) غير منحصرةٍ بالأدلَّة الروائيَّة، بل هي مُتنوّعةٌ ومتعدّدةٌ، منها ما يرجع إلى التأريخ والسِّيرة، ومنها ما يرجع إلى التراجم والأنساب، ومنها ما يُذكر في العقيدة والكلام، ومنها الروايات أيضاً، ومنه يتَّضح عموم الدليل في ذلك.

إذا بان هذا التمهيد فيقع الكلام في ذكر أمرين:

الأمر الأوَّل: لا يخفى أنَّ الروايات الدالَّة على الولادة المباركة تجاوزت حدَّ التواتر المعنويّ، فلذا لا يصحُّ التعبير عنها بالضعف، إذْ بعد تحقق التواتر يتحقق العلم المفيد للقطع واليقين، كما هو واضح.

قال العلَّامة المجلسيُّ (طاب ثراه): (وأمَّا الذي ورد من طرق الشيعة فلا يسعه إلَّا مجلَّدات، ونقل إلينا سلفُنا نقلاً متواتراً أنَّ المهدي المشار إليه وُلِد ولادةً مستورةً، لأنَّ حديث تملُّكه ودولته وظهوره على كافَّة الممالك والعباد والبلاد كان قد ظهر للناس، فخيف عليه) [بحار الأنوار ج51 ص107].

وقال المحقق الشيخ سُليمان البحرانيُّ (طاب ثراه): (وقد أفردنا لاستيفائها كتاباً ضخماً سمَّيناه بالفوائد الحسان في أخبار صاحب الزمان. وأمَّا القول الثاني، فممّا ينادي بفساده إجماعُ الشيعة (رضوان الله عليهم)، وتواتر أخبارهم بولادته (صلوات الله عليه وعلى آبائه)، على نحو ولادة إبراهيم وموسى (عليهما السلام)، وغيرهما ممن اقتضت المصلحة تستُّر ولادته) [الأربعون حديثاً ص211].

وقال العلَّامة المظفَّر (طاب ثراه): (إنَّ الإماميَّة تعتقد أنَّ هذا المصلح المهدي هو شخصٌ معيَّنٌ معروف، ولد سنة 256 هجريَّة، ولا يزال حيّاً، هو ابن الحسن العسكريّ، واسمه محمَّد، وذلك بما ثبت عن النبيّ وآل البيت من الوعد به، وما تواتر عندنا من ولادته واحتجابه، ولا يجوز أنْ تنقطع الإمامة وتحول في عصر من العصور، وإنْ كان الإمام مخفياً ليظهر في اليوم الموعود به من الله تعالى، الذي هو من الأسرار الإلهيَّة التي لا يعلم بها إلَّا هو تعالى) [عقائد الإماميَّة ص78].

إلى غيرها من الكلمات المصرِّحة بتحقق (التواتر) على الولادة المباركة، كما لا يخفى على المطالِع.

الأمر الآخر: لقد دلَّت على ولادة الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه الشريف) جملةٌ كبيرةٌ من الروايات الصحيحة من حيث السند، نذكر بعضاً منها:

الرواية الأولى: ما رواها الشيخ الكلينيُّ (طاب ثراه) عن محمَّد بن يحيى، عن أحمد بن إسحاق، عن أبي هاشم الجعفريّ قال: «قلتُ لأبي محمَّد (عليه السلام): جلالتك تمنعني من مسألتك، فتأذن لي أنْ أسألك؟ فقال: سلْ، قلت: يا سيِّدي، هل لك ولد؟ فقال: نعم، فقلتُ: فإنْ حدث بك حدثٌ فأين أسأل عنه؟ فقال: بالمدينة» [الكافي ج1 ص328].

وسند الرواية صحيح، فإنَّ الكلينيَّ (طاب ثراه) يرويها عن محمَّد بن يحيى العطَّار الثقة الجليل، عن أحمد بن إسحاق القمِّيّ الثقة الجليل، عن أبي هاشم الجعفريّ الثقة الجليل، وقد علَّق على سندها العلَّامة المجلسيّ بقوله: (صحيح) [مرآة العقول ج4 ص2].

الرواية الثانية: ما رواها الشيخ الكلينيُّ (طاب ثراه) أيضاً عن محمَّد بن عبد الله ومحمَّد بن يحيى جميعاً، عن عبد الله بن جعفر الحميريّ قال: «اجتمعتُ أنا والشيخ أبو عمرو (رحمه الله) [أي: السفير الأوَّل] عند أحمد بن إسحاق، فغمزني أحمد بن إسحاق أنْ أسأله عن الخلف، فقلتُ له: يا أبا عمرو، إني أريد أنْ أسألك عن شيء - إلى قوله - ثمَّ قال: سلْ حاجتك، فقلتُ له: أنتَ رأيتَ الخلف من بعد أبي محمَّد (عليه السلام)؟ فقال: إي والله، ورقبته مثل ذا ـ وأومأ بيده ـ فقلتُ له: فبقيت واحدة، فقال لي: هات، قلتُ: فالاسم؟ قال: محرَّم عليكم أنْ تسألوا عن ذلك، ولا أقول هذا من عندي، فليس لي أنْ أُحلِّل ولا أحرِّم، ولكنْ عنه (عليه السلام)، فإنَّ الأمر عند السلطان أنَّ أبا محمَّد مضى ولم يخلِّف ولداً، وقُسِّم ميراثه، وأخذه من لا حق له فيه، وهو ذا، عياله يجولون ليس أحد يجسر أنْ يتعرَّف إليهم أو ينيلهم شيئاً، وإذا وقع الاسم وقع الطلب، فاتَّقوا الله وأمسكوا عن ذلك» [الكافي ج1 ص329، الغيبة للطوسيّ ص243].

وسند الرواية صحيح، فإنَّ الكلينيَّ (طاب ثراه) يرويها عن محمَّد بن عبد الله الحميريّ ومحمَّد بن يحيى العطَّار، وكلاهما من الثقات، عن عبد الله بن جعفر الحميريّ الثقة الجليل، وأبو عمرو هو عثمان بن سعيد العَمريّ وهو من أوّل السفراء الأربعة، وهم فوق مرتبة الوثاقة. وقد علَّق على سندها العلَّامة المجلسيُّ بقوله: (صحيح) [مرآة العقول ج4 ص5].

1ـ وقريبٌ من رواية الشيخ الكلينيّ (طاب ثراه) المتقدِّمة آنفاً ما رواه الشيخ الصدوق (طاب ثراه) بسندٍ صحيحٍ أيضاً [يُنظر: كمال الدين ص435]. وقد ذكرها الشيخ المحسنيُّ في [معجم الأحاديث المعتبرة ج2 ص315].

2ـ وقريبٌ منها أيضاً ما رواه الشيخان الصدوق والطوسيُّ (طاب ثراهما) بسندٍ صحيحٍ عن السفير الثاني محمَّد بن عثمان العَمريّ (رضوان الله تعالى عليه) في كتابي [كمال الدين ص ٤٦٨، والغيبة ص ٣٨٤]. وقد ذكرها الشيخ المحسنيُّ في كتابه [معجم الأحاديث المعتبرة ج2 ص316].

3ـ وقريبٌ منها أيضاً ما رواه الشيخ الطوسيُّ (طاب ثراه) بسندٍ صحيحٍ أيضاً [يُنظر: الغيبة ص376 وص٣٨٥]. وقد ذكرها الشيخ أحمد الماحوزيُّ في كتاب [ولادة القائم المهدي بالروايات الصحيحة ص11 وص12].

الرواية الثالثة: ما رواها الشيخ الصدوق (طاب ثراه) عن علي بن عبد الله الورَّاق قال: حدَّثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعرّي قال: «دخلتُ على أبي محمَّد الحسن بن علي (عليهما السلام) وأنا أريد أنْ أسأله عن الخلف من بعده، فقال لي مبتدئاً: يا أحمد بن إسحاق، إنَّ الله (تبارك وتعالى) لم يخل الأرض منذ خلق آدم (عليه السلام) ولا يخليها إلى أنْ تقوم الساعة من حُجَّة لله على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه ينزل الغيث، وبه يخرج بركات الأرض. قال: فقلت له: يا بن رسول الله، فمن الإمام والخليفة بعدك؟ فنهض (عليه السلام) مسرعاً فدخل البيت، ثمَّ خرج وعلى عاتقه غلام كأنَّ وجهه القمر ليلة البدر، من أبناء الثلاث سنين، فقال: يا أحمد بن إسحاق، لولا كرامتك على الله (عزَّ وجلَّ) وعلى حُججه ما عرضتُ عليك ابني هذا، إنه سمِّي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وكنِيُّه، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً» [كمال الدين ص ٤١٢].

وسند الرواية صحيح، فإنَّ الشيخ الصدوق (طاب ثراه) يرويها عن شيخه علي بن عبد الله الورَّاق الثقة، عن سعد بن عبد الله الأشعريّ القمِّيّ الثقة الجليل، عن أحمد بن إسحاق القمِّيّ الثقة الجليل عن مولانا العسكريّ (عليه السلام). وقد ذكرها الشيخ محمَّد صنقور في كتابه [تواتر النص على الأئمَّة ص475] مصرِّحاً بصحة السند أيضاً.

الرواية الرابعة: ما رواها الشيخ الصدوق (طاب ثراه) أيضاً عن محمَّد بن علي ماجيلويه (رضي الله عنه) قال: حدَّثنا محمَّد بن يحيى العطَّار قال: حدَّثني جعفر بن محمَّد بن مالك الفزاري قال: حدَّثني معاوية بن حكيم ومحمَّد بن أيوب بن نوح ومحمَّد بن عثمان العمريّ (رضي الله عنه) قالوا: «عَرَضَ علينا أبو محمَّد الحسن بن علي (عليهما السلام) ونحن في منزله، وكنا أربعين رجلاً فقال: هذا إمامكم من بعدي، وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرَّقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا، أما إنَّكم لا ترونه بعد يومكم هذا، قالوا: فخرجنا من عنده فما مضت إلَّا أيام قلائل حتَّى مضى أبو محمَّد (عليه السلام)» [كمال الدين ص463، الغيبة للطوسي ص378].

وسند الرواية صحيحٌ، فإنَّ الشيخ الصدوق (طاب ثراه) يرويها عن شيخه ـ والذي ترضَّى عنه كثيراً ـ محمَّد بن علي ماجيلويه الثقة، عن محمَّد بن يحيى العطَّار الثقة الجليل، عن جعفر بن محمَّد بن مالك الفزاريّ الذي وثَّقه الشيخ الطوسيُّ وغيره، عن ثلاثة من المشايخ أحدهم السفير الثاني (رضوان الله عليه) عن مولانا العسكريّ (عليه السلام)، وقد ذكرها الشيخ محمَّد صنقور البحرانيُّ في كتابه [تواتر النص على الأئمَّة ص481] مصرِّحاً بصحَّة السند أيضاً.

الرواية الخامسة: ما رواها الشيخ الصدوق (طاب ثراه) أيضاً عن أحمد بن زياد بن جعفر الهمدانيّ (رضي الله عنه) قال: حدَّثنا علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الريَّان بن الصلت قال: «قلت للرضا (عليه السلام): أنت صاحب هذا الأمر؟ فقال: أنا صاحب هذا الأمر، ولكني لست بالذي أملأها عدلاً كما ملئت جوراً، وكيف أكون ذلك على ما ترى من ضعف بدني، وإنَّ القائم هو الذي إذا خرج كان في سنِّ الشيوخ ومنظر الشبان، قوياً في بدنه حتَّى لو مدَّ يده إلى أعظم شجرةٍ على وجه الأرض لقلعها، ولو صاح بين الجبال لتدكدكت صخورها، يكون معه عصا موسى، وخاتم سليمان (عليهما السلام). ذاك الرابع من ولدي، يُغيبه الله في ستره ما شاء، ثمَّ يظهره فيملأ به الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً» [كمال الدين ص404].

وسند الرواية صحيح، فإنَّ الشيخ الصدوق (طاب ثراه) يرويها عن شيخه ـ والذي ترضَّى عنه في عدَّة موارد ـ أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني الثقة، عن علي بن إبراهيم بن هاشم القمِّي الثقة الجليل، عن أبيه إبراهيم بن هاشم القمِّيّ الثقة، عن الريَّان بن الصلت الثقة، عن مولانا الرضا (عليه السلام). وقد ذكرها الشيخ محمَّد صنقور البحرانيّ في كتابه [تواتر النص على الأئمَّة ص516] مصرِّحاً بصحَّة السند أيضاً.

إلى غير ذلك من الروايات الصحيحة الدالَّة على الولادة المباركة للإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه)، ويُمكن ملاحظة قسمٍ منها في كتاب (ولادة القائم المهدي بالروايات الصحيحة) للشيخ الماحوزيّ (دامت بركاته) وغيره من الكتب.

والنتيجة المتحصَّلة من كلِّ ما تقدَّم، أنَّ مجموع الروايات الدالَّة على الولادة المباركة يصل إلى حدِّ التواتر، وفيها ما هو صحيحٌ في حدِّ نفسه، فبذلك يتبيَّن بطلان القول بضعفها من ناحية السند.. والحمد لله ربِّ العالمين.